معركة كبيرة يخوضها التنين الصيني لكبح جماح عمل وسائل الإعلام الأجنبية القادمة من خارج أسواره، فمن من المحظورات تناول رواية غير تلك التي يعتمدها الحزب الحاكم، الحزب الشيوعي الصيني، إذ تقتصر وظيفة وسائل الإعلام على أجندات الترويج والدعاية فقط لسياسات الحزب.
دأب الحزب الشيوعي الحاكم منذ استلامه السلطة على اعتبار وسائل الإعلام أداة للحزب والحكومة، إلا أن شهر العسل بين الصين ووسائل الإعلام العالمية شارف على الانتهاء في ظل أزمات متعاقبة ضربت البلاد خلال السنوات الأخيرة، احتجاجات هونغ كونع واضطهاد أقلية الإيغور المسلمة وأخيراً أزمة فيروس كورونا.
من جانبه، اعتبر مدير مركز دراسات الصحافة والإعلام في جامعة هونغ كونغ، ومراسل الصين السابق لصحيفة واشنطن بوست، كيث ريتشبورغ، لبرنامج “بالعين المجردة” أن هناك وجهة نظر متزايدة بين الصحفيين الدوليين المقيمين في بكين بأنّ الصين لا تحتاج إلى وسائل إعلام أجنبية كما كانت في الماضي عندما أرادت أن تسلط الضوء على تطورها الاقتصادي السريع للعالم.
في هذه الحلقة من برنامج “بالعين المجردة” نسلط الضوء على طريقة تعامل السلطات الصينية مع مراسلي وسائل الإعلام العالمية في الصين، وتراجع مؤشر حرية الصحافة وتقييد حركة الصحفيين ومطاردتهم.
قصص خاصة عرضتها هذه الحلقة عن اعتقال صحفيين إستراليين في الصين، ماذا حدث معهم ولماذا اعتقلوا؟ كيف حاربت الصين الصحفيين خلال وباء كورونا؟ لماذا لا يوجد حرية تعبير في الصين على الرغم من التقدم الاقتصادي؟
ترحيل صحفيين من الصين بعد كتابتهم عن أزماتها
في مساء أول أيام شهر سبتمبر\ أيلول لعام 2020، طرق رجال أمن صينيين باب شقة الصحفي الإسترالي مايك سميث في مدينة شنغهاي الصينية، طلبوا منه الجلوس في صالة المنزل وقرؤوا عليه عدة بيانات، وإعلامه بقرار منعه من مغادرة البلاد بحجة تقرير له يمس الأمن القومي الصيني.
سبق ذلك بأيام قليلة، تحذير من السفارة الأسترالية لمدراء سميث بأن سلامته قد تكون في خطر، مشيرة إلى ضرورة مغادرته الصين.
في الوقت ذاته وفي العاصمة الصينية بكين، صحفي أسترالي آخر، بيل بيرتلز من ABC، مرّ بتجربة مماثلة.
حينها وضعت السفارة الأسترالية كلاهما تحت الحماية الدبلوماسية، وغادرا البلاد بعد أيام قليلة فقط بعد جدل بين البلدين، إذ لم توافق بكين على مغادرتهما إلا بعد استجوابهما، وهذا ما حدث فعلا.
وصفت العديد من المؤسسات الإخبارية الدولية هذا الأمر بأنه نقطة تحول في معاملة الصين للصحفيين الأجانب، وأشار باتريك فوك من المؤسسة العامة للاتصالات لبرنامج “بالعين المجردة” إلى إنه بعد وقت قصير من مغادرة الصحفيّين الأستراليّين، قالت الصين إنها استجوبت الاثنين وفقًا للقانون وأن هذا كان تطبيقًا طبيعيًا للقانون، وأضافت أنه لا داعي لقلق الصحفيين الأجانب طالما أنهم يلتزمون بالقانون والأنظمة.
وتزامنًا مع هذه الحادثة تم اعتقال الصحفية الأسترالية الصيني، تشينج لي، دون وجود سبب واضح.
وكان مراسل صحيفة AFR الأسترالية المختصة بالاقتصال والمال، مايك سميث، وصل الصين في عام 2018 لتغطية الأحداث الكبرى في عالم المال والأعمال، وقال سميث لبرنامج “بالعين المجردة” إن نمو الصين الاقتصادي كان بالنسبة لأستراليا قصة إخبارية مهمّة جدًا، خاصة أنها أكبر شريك تجاري لأستراليا، فهي ظهرت كقوة اقتصادية وسياسية جعلها محط اهتمام وسائل الإعلام الدولية.
توقع سميث فور وصوله للصين أن يكتب عن التجارة وعن التقدم التكنولوجي الرائد الذي حققته الصين ولكن وقوع اضطرابات اجتماعية في البلاد دفعت بقلمه الصحفي للانخراط في الكتابة عن هذه الأزمات.
وعلّق سميث حول هذا الأمر قائلاً: “انتهى بنا الأمر أن نقوم بتغطية المزيد من قصص حقوق الإنسان. وقعت احتجاجات هونغ كونغ في عام 2019، كنت أتواجد في هونغ كونغ نهاية كل أسبوع تقريبًا لتغطية تلك الاحتجاجات. وبعد ذلك، كان لدينا فيروس كورونا”.
إلا أن سميث وجد نفسه في قلب الخلافات الأسترالية الصينية، إذ أصبحت العلاقات بين البلدين متوترة بشكل متزايد منذ عام 2018 بعد أن حظرت الحكومة الأسترالية شركة هاواوي التكنولوجية الصينية من المساهمة في شبكة الجيل الخامس للإنترنت الخاصة بها.
من بعد ذلك، سببت دعوات كانبرا العام الماضي لإجراء تحقيق في الصين حول أصل فيروس كورونا مزيدًا من الشرخ في العلاقات الدبلوماسية.
وأشار سميث إلى أنه كان ضحية لهذه الخلافات قائلاً: “أعتقد أنه من المهم أن أشير في حالتي إلى أنني لا أعتقد أنني وقعت في مشكلة بسبب أي شيء كنت أكتب تقريرًا حوله أو أحقق فيه، لقد كان إلى حد كبير لعبة سياسية علقت فيها”.
حرب بين الصين ووسائل إعلام دولية
بحسب استطلاع نادي المراسلين الأجانب في الصين السنوي حول حرية الإعلام فإن السلطات ضيّقت حرية عمل الصحفيين الأجانب وحدّت من حركتهم.
وعلّق فوك حول هذا التقرير قائلا: “ذكر التقرير أن هناك انخفاضًا سريعًا في مؤشر حرية وسائل الإعلام في البلاد، وأشار على وجه الخصوص إلى أن جميع أذرع الدولة اُستخدمت لمضايقة وترهيب الصحفيين وأن الحكومة قد وضعت أنظمة مراقبة جديدة وقيودًا صارمة على الحركة من أجل الحد منها”.
ومن أكثر المواضيع التي تحمل حساسية كبيرة عند بكين، التطرق لقضية أقلية الإيغور المسلمة في مقاطعة شينجيانغ، فوفقا لتقرير نادي المراسلين الأجانب كان يتم تتبع المراسلين من قبل شرطة جهاز أمن الدولة، ويُطلب منهم حذف كل البيانات من أجهزتهم ومنعهم من التحدث إلى الناس.
وذكر التقرير حادثة تغطية مراسلة صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأميركية، أليس سو، للتوترات في منغوليا التي وقعت بسبب فرض سياسة تعليمية جديدة هناك، قالت المراسلة إن رجالاً في ثياب مدنية أجبروها على الذهاب إلى مركز للشرطة.
عندما حاولت الوصول إلى هاتفها، وضعت الضابطة يديها حول حنجرتها، وتم حبسها في زنزانة عازلة للصوت لمدة ساعة حيث تم استجوابها.
من جانبها اعتبرت مراسلة شبكة التلفزيون الوطني الفرنسي TF1 في الصين، جاستن يانكوسكي، أن بكين ترغب دائمًا في إظهار أن الحكومة تتعامل بشكل جيد مع الأزمات الكبيرة التي تمر بها البلاد، “لذا في كل مرة نحاول نحن، الصحفيون الأجانب وأيضًا الصحفيون الصينيون، إظهار واقع مختلف أو حقيقة مختلفة يتم منعنا من فعل ذلك”.
وأضافت لبرنامج “بالعين المجردة” أن الصحفي يشعر بالكثير من المخاطر إلا أن درجة الخطر تعتمد على طبيعة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
أما سميث فأشار إلى أنه استطاع تشكيل علاقات واسعة في مجتمع الأعمال الصيني ومدراء المصانع وغيرهم من الاقتصاديين الذين كانوا يتحدثون للصحيفة التي يعمل بها، إلا أنهم امتنعوا عن التحدث معه بسبب خوفهم من عقبات ذلك.
من جهتها، ترفض الصين الاتهامات بأنها تشن حملة على وسائل الإعلام الأجنبية، وتقول إنها تدافع عن نفسها ضد الأكاذيب التي تهدف إلى تشويه صورتها.
ومع ذلك، واجهت الصين انتقادات دولية بعد إيقاف تراخيص BBC NEWS WORLD في البلاد وحظرها، بعد تغطية أحداث اضطهاد أقلية الإيغور المسلمة في شينجيانغ.
وكذّبت الحكومة الصينية تقارير BBC واعتبرتها إدعاءات كاذبة، إذ قال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وينبين في مؤتمر صحفي، في 1 فبراير\ شباط 2021، “لدي يدان اثنتين فقط هنا ولكن هذا ليس بكافٍ لعد أكاذيب وشائعات BBC. أتمنى أن يرفض أصحاب الرؤية والبصيرة اختلاق الأكاذيب والشائعات لمهاجمة دول أخرى، لن يتصرفوا مثل BBC في عمل منصة للآخرين لنشر أكاذيبهم وشائعاتهم”.
من جهتها، قالت هيئة الإذاعة البريطانية BBC إن الوثائق التي لديها حول عمليات اضطهاد أقلية الإيغور تطابق الكثير من الحقائق وروايات محتجزين آخرين، مشيرة إلى أنه من الصعب التأكد من دقة كل المعلومات بسبب القيود المفروضة على المراسلين في شينجيانغ.
الصين حاربت الصحفيين المواطنين بدلًا من وباء كورونا!
في الأيام الأولى لتفشي فيروس كورونا في ووهان، بدأ بائع الملابس فانغ بين بتوثيق ما كان يحدث هناك، نشر مقاطع الفيديو على يوتيوب، أظهرت شوارع فارغة والمستشفيات مزدحمة مع دخول المدينة في حالة إغلاق.
في إحد تلك الفيديوهات المنتشرة له، يقول فيها “كان هناك الكثير من الوفيات. يوجد ثلاثة هنا في أكياس الجثث، واحد، اثنان، ثلاثة … هناك ثلاثة”، كان هذا المقطع الأخير الذي بثه بين، من بعدها لم يسمع عنه أي شيء منذ ذلك الحين.
كان فانغ واحدًا من عدة صحفيين مواطنين حاولوا إظهار ما حدث داخل بؤرة تفشي فيروس كورونا الأصلي.
عندما بدأ الفيروس بالانتشار بسرعة في ووهان تجاهل كثير من الناس تقارير وسائل الإعلام الحكومية، حيث يعتبرونها غير جديرة بالثقة واعتمدوا على معلومات تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على فكرة أفضل عما كان يحدث.
يقول الأستاذ في كلية السياسة العامة في الجامعة الوطنية في سنغافورة، ألفريد وو، “لدى الصينيين مشاعر مختلطة تجاه وسائل الإعلام الحكومية، عادةً ما تقدم صحافة المواطن بعض البدائل، وبعض وجهات النظر المختلفة مقارنة بمنظور الحكومة”.
وأضاف أنه منذ تفشي الفيروس في ووهان، اتخذت الحكومة خطًا أكثر صرامة فيما يتعلق بمشاركة المعلومات، “بحجة COVID-19 وبالطبع لأنهم يريدون نوعًا من استقرار النظام في الصين، لذلك يميلون إلى أن يكونوا أكثر تشددًا على صحافة المواطن في الصين. هذا يعني أنهم لا يرحبون حقًا بأي نوع من الصحافة غير الرسمية في الصين”.
صحفية مواطنة أخرى تم سجنها، تشانغ زان، بسبب توثيقها ما شاهدته في ووهان، وكانت التهمة الرسمية لها، إثارة الخلافات وإثارة المتاعب.
في السياق، قال نادي المراسلين الأجانب في الصين في تقريره أن الوباء اُستخدم كوسيلة للسيطرة على الصحفيين والحد من العمل الذي يمكنهم القيام به، حيث قيدت السلطات الصينية حركة الصحفيين لدرجة أن الكثير منهم ألغى رحلاته الصحفية لتغطية الوباء، والبعض الآخر تم إجباره على إجراء اختبارات COVID-19 متكررة لمنعهم من العمل.
تقييد حرية نشر المعلومات عبر الإنترنت بقوانين غير مسبوقة
في وقت سابق من هذا العام، اتخذت الحكومة خطوة كبيرة لكبح جماح المحتوى المنشور على الإنترنت، وطالبت جميع حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر الأخبار بالحصول على اعتماد رسمي.
واعتبر فوك أن هذه الخطورة جاءت على الرغم من رد الفعل العنيف قبل أشهر فقط ضد السلطات بسبب وفاة لي وين ليانغ، الطبيب المبلغ عن المخالفات، الذي أسكته المسؤولون لمحاولته تحذير العالم من فيروس كورونا عندما ظهر لأول مرة في ووهان.
طلبت السلطات من لي عدم نشر الشائعات، استسلم لاحقًا للفيروس نفسه، أدى ذلك إلى فيض من الحزن، ودعوات لمزيد من حرية التعبير في الصين.
تقول جينيفر هسو من معهد لوي إن الحكومة ستذهب إلى أقسى حد لتجنب أي انتقاد، “الدولة الصينية مستعدة وتتخذ إجراءات صارمة للسيطرة على سرد الوقائع، سواء كان الأمر يتعلق بـ Covid-19 أو غير ذلك. لذلك فهي تُضيّق الخناق على الصحفيين إن كانوا صحفيين محترفيين أو مواطنين صحفيين في الصين والذين يسعون إلى تسليط الضوء على أمور سلبية”.
وقال فوك: “لقد اتخذ خنق الصحفيين في الصين منعطفًا آخر هنا منذ جائحة فيروس كورونا مما يسلّط الضوء على الحساسيّة تجاه تفشي المرض والانتقادات الأخرى”.
ولم يكن الصحفيون الصينيون العاملون في الصحافة الدولية منأى عن الاعتقال حيث اعتُقلت الصحفية في بلومبرج نيوز، هيز فان، في ديسمبر\ كانون الأول ولم يتم تقديم أي تفاصيل حول مكان وجودها أو سبب احتجازها.
في غضون ذلك، أثارت قضية اعتقال المذيعة الأسترالية لمحطة CGTN الحكومية تشينغ لي الذي وجّهت إليها تهمة تزويد أسرار الدولة إلى الخارج، قلق المراسلين في الصين بشكل خاص.
ويقول المراقبون إنه نموذج للحكومة الصينية وضع العرق كأولوية على المواطنة.
يأتي تراجع حرية الإعلام في الصين في الوقت الذي تستعد فيه لاستضافة أولمبياد بكين الشتوية في عام 2022.
ويقول نشطاء حقوق الإنسان إن خنق الصين لوسائل الإعلام يتعارض مع التزامه الأساسي كمضيف للأولمبياد، من الصعب تحديد ما إذا كانت الظروف ستتحسن أو متى ستتحسن، لكن يتفق الكثيرون على أن العلاقات بين الصين وبقية العالم لن تتحسن بدون أن يبني الصحفيون فهمًا أفضل لهذه القوة العالمية.