في هذا الجزء الثاني من التحقيق الاستقصائي الذي قام به فريق “قناة الآن” في الدنمارك، سنتطرّق لموضوع ترحيل طالبي اللجوء الذين تم رفض أو سحب إقاماتهم إلى بلد آخر خارج الاتحاد الأوروبي بانتظار دراسة ملفاتهم، وقد أجرت السلطات الدنماركية مباحثاتها في هذا الشأن مع عدد من الدول مثل تونس وأثيوبيا وغيرها. لكن هذه المباحثات أفضت إلى مذكرة تفاهم مع الحكومة الرواندية مما أثار الكثير من الانتقادات أوروبيا ودوليًا.
الصيف المنصرم، وقّعت الدنمارك مذكرة تفاهم مع رواندا بشأن قضايا الهجرة واللجوء، وتقضي هذه المذكرة بإرسال طالبي اللجوء الموجودين على أراضي المملكة الاسكندنافية إلى البلد الإفريقي لدراسة طلباتهم.
On 27 April 2021, the Government of #Rwanda and the Government of #Denmark signed a MoU on Asylum and Migration issues. More details can be found here: https://t.co/crhIn8dp0R
— Ministry of Foreign Affairs & Int’l Cooperation (@RwandaMFA) May 4, 2021
وقد جاءت هذه المذكرة بعد شهر على إقرار البرلمان الدنماركي مشروع قانون قدمته الحكومة يسمح بارسال طالبي الهجرة واللجوء إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي أثناء دراسة ملفاتهم.
يبدو أن الحكومة الدنماركية مستمرة بسياستها الوصول إلى “صفر طالب لجوء” وغير مبالية بالخطر الذي يهدد اللاجئين والمهاجرين وخاصة مئات السوريين إذا ما تمت إعادتهم إلى بلدهم أو إلى بلد آخر، إذ اعتبرت منظمة العفو الدولية، أن أية محاولة هادفة لنقل طالبي وطالبات اللجوء إلى رواندا لدراسة طلباتهم هي “سابقة خطيرة في أوروبا والعالم”.
كما نددت شارلوت سلينت، الأمينة العامة للمجلس الدنماركي للاجئين، بعملية الاستعانة بمصادر خارجية لتقديم طلبات اللجوء معتبرة أنها غير مسؤولة وينقصها التعاضد “مرارًا، طلبنا من أعضاء البرلمان الدنماركي رفض مشروع القانون هذا، نماذج مشابهة، مثل النموذج الاسترالي أو ما يسمى بالنقاط الساخنة في الجزر اليونانية، شهدت حوادث احتجاز خطيرة، واعتداءات جسدية، مع بطء في عمليات تقديم طلبات اللجوء وعدم الحصول على الرعاية الصحية والمساعدة القانونية”.
مركز الاعتقال والترحيل وسيلة ضغط للعودة إلى سوريا
بالنسبة للسيدة أسماء الناطور وزوجها عمر اللذين تحدثنا عنهما في حلقتنا السابقة، فهما اليوم في وضع مزرٍ، لقد سحبت السلطات منهما إقامتيهما المؤقتة ووضعتهما في مركز احتجاز وترحيل اللاجئين وذلك في 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ويُعرف هذا المركز باسم “مخيم سيالمارك”، كان ثكنة عسكرية للجيش الدنماركي، تحيط به الأسلاك الشائكة وتشرف عليه إدارة السجون منذ أواخر الشهر عينه.
يعتبر هذان الزوجان أن نقلهما إلى هذا المركز هو للضغط عليهما للعودة إلى دمشق، وتقول أسماء إن “وزارة الهجرة تملك وحدها القرار الأساسي، لقد قررت منع تجديد إقامتي لأن دمشق آمنة، وبعد سبع ساعات في محكمة التظلم، وكأنني في فرع أمني، قالوا لي إنه يجب العودة إلى سوريا وهذا يعني العودة للموت على قدميك، وهنا في المخيم يضغطون علينا كي نرجع”.
رغم أن أسماء وزوجها عمر ومئات السوريين غيرهما قدّموا دعوى استئناف لدى محكمة التظلم، ولأن خطواتهم هذه لم تكلل بالنجاح فقد تم إعطاؤهم مهلة ثلاثة أشهر لمغادرة البلاد طوعًا قبل وضعهم في مراكز الاعتقال والترحيل لتعذّر ترحيلهم إلى سوريا بسبب انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق وكوبنهاغن، وتؤكد منظمات حقوقية أن الحياة في هذه المراكز هي وسيلة لإجبارهم على العودة إلى طوعًا إلى بلدهم بعد شل حياتهم.
الزوجان الناطور أفضل مثال على التجارب القاسية التي يعيشها السوريون اللاجئون في الدنمارك، لقد تم فصلهما عن أبنائهما بعد أن فرضت السلطات عليهما مغادرة منزلهما لنقلهما إلى مركز الاعتقال الإداري التي كانت ثكنة في السابق.
مخيم سيالمارك جحيم بارد
وإلى مخيم سيالمارك، توجه جيسبر هيلم أحد المتخصصين بقضايا الهجرة واللجوء حيث قابل الزوجين الناطور كما وجال فيه فشبهه بـ “الجحيم البارد والقذر”.
وأخذ هيلم يفنّد ما رأته عيناه “واجهنا ممرات باردة، فيها حمامات بلا تدفئة وغير نظيفة ودش معيب ومصارف مياه كريهة الرائحة وصدئة، ولا صابون أو كحول أو ورق صحي. النوافذ متسربة ومساحات الغرف صغيرة، إحداها خالية من النوافذ والحرارة، الأسرّة جيء بها من مستودع عسكري، ولا يمكن النوم عليها لأنها تحوّل ظهرك إلى قطعة حجر”.
وختم وصفه بحزن وخجل “هذا ما نقدمه في الدنمارك لمن يرفض العودة إلى سوريا خشية الاضطهاد والتعذيب والاغتصاب والموت”.
واستطرد متحدثًا عن الزوجين الناطور “إدّخرا أموالهما ليكونا قادرين على إعالة نفسيهما وقد حصل عمر مؤخرًا على رخصة قيادة شاحنة ليتمكن من العمل على حسابه. لكن للأسف تلقى هذه الرخصة بواسطة البريد في الوقت الذي اضطر وزوجته فيه لترك حياتهما في كوبنهاغن، والآن لا يُسمح له بالعمل وبالتالي بالمساهمة في المجتمع”.
هذا واعتبر ان سياسة الاحزاب اليسارية المختلفة الداعمة للحكومة هي ساسة معيبة ومشينة “لم يتبق سوى العار على الدنمارك وعلى كلٍّ من تحالف الحمر والخضر، وحزب الشعب الاشتراكي والحزب الليبرالي الاجتماعي الدنماركي، هذه الأحزاب الداعمة للحكومة التي تسمح بحدوث ذلك”.
الحياة على جزيرة غير مأهولة أم عودة إلى سوريا
أما بالنسبة لسوزان جليلاتي، التي تحدثنا إليها في حلقتنا السابقة، والتي سحبت السلطات الدنماركية الإقامة منها، فإنها تخشى العودة إلى سوريا لانعدام الأمن فيها، كما تخشى نقلها إلى مركز الاعتقال الإداري الموجود على جزيرة ليندهولم المعزولة عن العالم وغير المأهولة، واستمر هذا الخوف المزدوج ينهشها بانتظار قرار محكمة التظلم التي رفعت إليها دعوى استئناف قرار سحب إقامتها.
فأكثر ما يخيف هذه السيدة في سوريا هو الاعتقال “عدد كبير من الناس عادوا إلى سوريا وتم اعتقالهم، وقد أكدت منظمة العفو الدولية على هذا الموضوع، نتمنى أن تعرف الحكومة الدنماركية أن الحرب ما تزال قائمة في سوريا وأن أي شخص يعود إلى سوريا سيتعرض للاغتصاب والاعتقال والسجن.. فكيف تقول الحكومة الدنماركية أن الحرب انتهت؟”.
حال جليلاتي كحال لاجئة أخرى تُدعى نوال حديد التي تقول إنها مهددة من قبل “النظام والشبيحة، لا يمكنني أبدًا الرجوع إلى سوريا، لماذا لا يفهمون ذلك، قد أصل لحد الانتحار.. ولدي مشاكل صحية كثيرة”.
تعتبر السلطات الدنماركية أن الأمن في دمشق وريفها مستتب لذلك يمكن للاجئين القادمين من تلك المناطق العودة إليها، وقد اعتمدت دائرة الهجرة في تقرير لها صادر العام 2019، على خبير واحد من بين 12 خبيرًا، وهذا الخبير الوحيد الذي قال إن دمشق وريفها هي مناطق آمنة هو ضابط في الجيش السوري، أما الخبراء الـ11 الآخرين فقد نأوا بأنفسهم عن نتائج التقرير وانسحبوا من اللجنة التي تشكلت لصياغته.
هذا التقرير، وإن كان يتناسب مع سياسة الحكومة الساعية للوصول إلى “صفر طالب لجوء” لكنه يتعارض مع تقييم الخبراء الدوليين والمفوضية السامية لحقوق للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشأن سوريا.
حقوقيون ناشطون في تقديم الدعم للاجئين
كما يطالب حقوقيون السلطات الدنماركية بالتراجع عن قراراها القاضي بإلغاء صفة الحماية المؤقتة للسوريين وإنهاء استهداف هؤلاء اللاجئين الذين أجبروا على الفرار من منازلهم.
ولأنّ هؤلاء الحقوقيين لا يتوقعون أن تتراجع الحكومة عن سياستها فقد نشطوا في تقديم الدعم للاجئين السوريين وقد أكدوا أن فرصة البقاء في الدنمارك مؤاتية لأولئك المعرضين للخطر في بلادهم في حال عودتهم إليها.
وقد استفادت سوزان ونوال من مثل هذا الدعم وحصلت كل منهما على قرار بإيقاف عملية ترحيلها إلى سوريا مع تجديد إقامتها لمدة عام واحد.
أما هانا كغو وينس برون ـ بيترسن فهما من بين المحامين الذين قدموا المساعدة والارشاد لطالبي اللجوء والمهددين بسحب إقاماتهم، ويقولان “بناء على خبرتنا في قضايا السوريين، من المفروض في حال تم استدعاء أحدهم إلى مقابلة مع دائرة الهجرة أن يركز الشخص على الأوضاع في سوريا أو النزاعات الشخصية ويحضّر أمثلة عنها يجب أن يتكلم عن مغادرته البلد إن كانت بطريقة شرعية أو أنه كان يعمل في مؤسسات حكومية مثلًا وترك وظيفته، كل ذلك يمكن أن يتسبب للشخص بمشاكل إذا حاول الدخول إلى سوريا”.
وخلُص المحاميان إلى أنه من الهام جدًا جمع المعلومات “إذا استطاع إحضار أدلة فيكون جيدًا”.
الحصول على لجوء يتطلب قضية ومخاطر شخصية
أما بالنسبة لعاصم سويد، مؤسس منظمة فنجان الدنماركية فإن “الحصول على لجوء في الدنمارك يتطلب أن تكون لديك قضية ومخاطر شخصية تخشى منها، وبالتالي لا يكفي أن تقول إنك سوري كي تكون لديك قضية”.
ويضيف أن أغلب الذين تمت دعوتهم لإجراء المقابلات في دائرة الهجرة هم “إما نساء أو كبار السن، من الصعب على هذه الشريحة أن يكون لديها نشاط بسبب وضع المرأة في المجتمع السوري، لكن من المحتمل أن يكون أحد أفراد العائلة ضابطًا منشقًا أم ناشطًا سياسيًا فهذا يعرّض العائلة للخطر”.
صفة اللاجئ وقانونية إعادته
حسب يوسف وهبة، مدير وحدة الدعم القانوني في البرنامج السوري للتطوير القانوني فإن العودة تكون قانونية إذا توفرت فيها شروط ثلاثة وهي دراسة ملف كل شخص على حدا للتأكد من أن عودته آمنة ولن يتعرض معها للانتهاكات، والشرط الثاني هو الطوعية في اتخاذ قرار العودة، أما الشرط الثالث فهو أن تكون الموافقة على العودة مبنية على الوعي الكامل بالظروف “بحث لا نذهب إلى حالة انسانية جديدة، في المقابل، الاعادة القسرية لا يتوفر فيها أحد هذه الشروط الثلاثة، وحين تهمل الدولة هذه الشروط وتتعامل على اعتبار أن المناطق مصنفة “آمنة” وتقوم بإعادة اللاجئين بشكل قسري فهذه هي مخالفة قانونية كبيرة جدًا، وهي مخالفة أيضًا لمبدأ القانون العرفي والذي يلزم الدول بحسن النية في تنفيذ الاتفاقيات”.
أما فيما يتعلق بسياسة “صفر لاجئ” الذي تعتمدها الحكومة الدنماركية، فقد أشار وهبة إلى أن القانون الدولي يعطي الحق في طلب اللجوء لمن يعتبر نفسه معرّض للاضطهاد ولا يستطيع الحصول على الحماية في بلده، لكن في المقابل، وفق القانون الدولي، “لا موجب على الدول أن تقبل صفة اللجوء لأي شخص يتقدم بطلب اللجوء، لكن القانون الأوروبي الناظم لعملية اللجوء والحماية يفرض إجراءات على الدول الملتزمة بهذا القانون على أن تدرس الطلبات ولا تتعامل معها بشكل تعسفي، وطبعًا تعطي الصلاحية لسيادة كل دولة أن تقرر طلبات اللجوء”.
وشدد يوسف وهبة على أن النقطة الهامة هي أن طلبات اللجوء لا تدرس بشكل جماعي وإنما بصفة فردية ويجب دراسة كل ملف على حدا.