حتى الآن لم يعلن تنظيم القاعدة صراحةً مقتل زعيمه أيمن الظواهري بضربة أمريكيّة يوم 31 يوليو الماضي في قلب العاصمة الأفغانية كابول، فيما تتهرّب طالبان من تأكيد مقتل الظواهري أو نفيه بحجّة أنّها لم تعثر على جثته. وفي المقابل تؤكّد الولايات المتحدة أنّها قتلت الظواهري بضربة جويّة نفّذتها في يوليو الماضي فيما كان الأخير في منزل يملكه سراج حقاني على بعد 200 متر من مقرّ الحكومة الأفغانية.
إنّ ذلك الصمت المريب الذي تلتزم به القاعدة والتهرّب الواضح من تأكيد المسألة لدى طالبان، يدفعنا إلى البحث في أبعاد تلك العلاقة بين التنظيم والحركة. ومن هنا، يأخذكم برنامج “بالعين المجردة” في جولة ميدانية بجبال تورا بورا في أفغانستان، والتي كانت معقل تنظيم القاعدة وزعيمها أسامة بن لادن. فماذا وجد فريقنا الإستقصائي هناك؟ ومن يسكن اليوم في تلك المنطقة الوعرة؟
في تورا بورا، خطّط تنظيم القاعدة لأهم عملياته الإرهابية، وحتى اليوم مازالت تلك الجبال خالية إذ لا يجرؤ أحد على العيش هنا ما لم يكن له صلة بتنظيم القاعدة. الفريق الإستقصائي قصد تلك الجبال بالتزامن مع الذكرى الـ21 لهجمات سبتمبر في رحلة استكشاف للمركز الذي اتخذه أسامة بن لادن كمكان لإدارة عملياته الدوليّة، فماذا بقي هناك من تنظيم القاعدة حتى الآن؟
تملأ الحفر المكان، وهي تشكّل آثاراً لحروب كثيرة مرّت على تلك المنطقة، فقد حفرها “المجاهدون” بسب أعمالهم العسكريّة والحربيّة. وثمّة حفر أخرى كبيرة خلّفتها الغارات الأمريكية على الموقع وقد دمّرته بالكامل.
من شهادات قدامى مقاتلي القاعدة
يرفض الحاج طوطي خان، وهو مقاتل سابق في تنظيم القاعدة، مغادرة تلك الجبال الوعرة الذي قاتل فيها لعقود إلى جانب تنظيم القاعدة، فهو مازال يعيش هناك بالطريقة نفسها التي كان يعيشها في زمن أسامة بن لادن. الأمر الوحيد الذي تغيّر بالنسبه له أنّه لم يعد يعيش في كهف لأنذ المكان لم يعد يتعرّض للقصف كما في الماضي، وليس هناك من يلاحق رجال القاعدة في تلك المنطقة. ويشير إلى دبابات متروكة في المكان تؤثّر على سير أعماله الزراعية، ما ينعكس سلباً على معيشته. يقول إنّها “من مخلّفات الإحتلال السوفياتي، وقد حصل عليها “المجاهدون” كغنائم حرب من قوات الإحتلال السوفياتي”.
تلفت الكهوف الكثيرة المنتشرة في تورا بورا الإنتباه، فهي لم تعد مسكونة اليوم والسكّان لم يعودوا بحاجة إلى الإختباء فيها، غير أنّ تلك الكهوف المهجورة مازالت شاهدة على حقبة مهمّة جدّاً من تاريخ تنظيم القاعدة في أفغانستان.
يستعرض حسين خان شيرعلي، وهو مقاتل سبق في تنظيم القاعدة، لنا الحياة في تلك الكهوف أيّام القاعدة، يرشدنا إلى إحداها قائلاً إنّها “شكّلت صيدلية لمقاتلي القاعدة وكان هناك مكان لأطباء التنظيم حيث كانوا يضعون الأدوية ويعالجون مرضاهم”.
خلال الجولة مررنا بحفرة صنعت خصيصاً من أجل تخزين المياه، يقول حسين خان إنّه لدى حفرها “وجدنا قطعة قماش أو ربّما قميص، فسحبناها لنعثر على عظام بشرية، استخرجنا العظام من تحت التراب ليتبين لنا أنّها عظام تابعة لهيكل عظمي كامل فأخذناها ودفناها في تلك المنطقة”.
شبكة كهوف معقّدة في تورا بورا
جمع بن لادن في ذلك المكان العديد من زعماء العشائر والمقاتلين، فتورا بورا كانت تعتبر المكان الأخطر في أفغانستان وربّما في العالم خلال تلك الفترة. ويرشدنا المقاتلون إلى مكان إقامة بن لادن حيث سكن وعاش مشيرين أيضاً إلى حوض السباحة الذي كان المقاتلون وبن لادن يسبحون فيه أيّام الحرّ.
كان “المجاهدون” يختبئون في الكهوف التي حفروها هرباً من القصف الجوي، وقد أحدثوا فيها فتحات تؤدّي إلى شبكة كهوف معقّدة، يُقال إنّها توصل إلى مناطق أخرى في أفغانستان، إلّا أنّ السير فيها خطير جداً.
الحياة في تورا بورا في عهد طالبان
مازالت الإجتماعات تعقد هنا لكن لم يعد الإختباء في كهوف تورابورا ضرورياً في زمن طالبان، فالإجتماعات أصبحت تُعقد في الهواء الطلق ومن دون أي خوف. ويقول حسين خان إنّ أوّل حرب حصت هنا كانت مع السوفيات، وبعدها كانت حرب طالبان و”المجاهدين” السابقين، وبعدما انتهت تلك الحرب تسلّمت زمام الأمور حكومة جديدة في البلاد هي حكومة أشرف غني، ثمّ كانت حكومة كرزاي التي نعمت المنطقة خلال عهدها بالسلام لـ3 سنوات، لتبدأ بعدها حرب جديدة، وفي كلّ مرّة تندلع فيها الحرب، كانت المنطقة تشتعل بالغارات والحروب، لكن ذلك انتهى الآن لأنّ طالبان عادت واستلمت السلطة مرّة أخرى”.
بعد جولة الكهوف المظلمة تلك، خرج الفريق الإستقصائي في جولة إلى المركز الأمني لولاية ننغرهار. يخضع المركز لحراسة مشدّدة إذ يتعرّض أحياناً للهجوم من قبل مجهولين، لذلك يخضع كلّ الزائرين لتفتيش دقيق.
يقول مدير المركز تاج الدين، الذي سلمته طالبان المسؤوليّة الأمنية على كامل ولاية ننغرهار، إنّ “الولاية هي إحدى الولايات التاريخية والاستراتيجية، وقد شهدت حروباً مهمّة، كان أهمّها الحرب التي حصلت في تورا بورا والتي يعتبرها المجاهدون أمّ الحروب”. وأضاف: “من تلك الولاية بالذات انطلقت حوادث زلزلت العالم الإسلامي وزلزلت المسلمين كلّهم، إذ انطلق تنظيم داعش من هنا، لذلك نستطيع القول إنّ تلك الولاية استراتيجية وتاريخية، بسبب موقعها وبسبب الأحداث التي مرّت عليها”.
قبور العرب شاهدة على المعارك
غادر فريق برنامج “بالعين المجردة” المركز الأمني ليقوم بجولة حول جبال تورا بورا محاولاً رؤية أطرافها وإلقاء نظرة عليها من بعد، إذ إنّ لتلك الجبال قيمةً تاريخية ومعنوية بالنسبة لتنظيم القاعدة الذي خاض أهمّ معاركه فيها وخطط منها لأهم الهجمات.
خلال جولتنا أرشدنا أكبر زازاي، وهو مواطن أفغاني من سكان ولاية بكتيكا، إلى قبور للمقاتلين العرب الذين قضوا في الجبال في تلك الفترة، وقال: “كان المقاتلون العرب يتركون وصيتهم قبل القتال ويطلبون أن يُدفنوا في المكان حيث يُقتلون، وقد قضى في ذلك المكان آلاف “الجهاديين” العرب. وأضاف: “يوجد الكثير من قبور العرب في الأسفل هناك، في المكان الذي يحيط به سور كبير. كثر منهم قضوا خلال القتال ضدّ روسيا، كانوا يأتون من بلدان بعيدة، وبينهم أشخاص من الولايات الشمالية أيضاً. في ذلك الزمن كانت الطرق مقفلة لذلك كانوا يُدفنون هنا في ذلك المكان، ولم يكن لدينا القدرة لإرسالهم إلى أماكن أخرى”.
استعرض فريقنا كلّ تلك التفاصيل والتقط كلّ تلك الصور تحت رقابة السلاح، إذ لا يُسمح بتصوير كلّ شيء، ومن هنا فإنّ تغطية الموضوع ليست بتلك السهولة. وكان هؤلاء المقاتلين يعرضون علينا آثار أسلافهم بكل فخر، ليس عليهم اليوم العيش هنا فلا أحد يلاحقهم غير أنّ ثيابهم النظيفة كافية لتصف كيف تغيّر حالهم من وضع إلى آخر.
ويشرح زازاي لنا التفاصيل المتعلّقة بمراكز القتال “حيث كانت الجبهات ساخنة، وكان العرب والأفغان يقاتلون هنا، وقد بقيت آثارهم ومزارعهم حتى اليوم… وأضاف أنّ “المكان بارد جدّاً وهو تابع لولاية بكتيكا في مديرية زازي أريوب، والأشجار التي ترونها على الطرف الآخر هي تابعة لمنطقة سبينة شكه، فقد زرعها المقاتلون الذين أتوا من دول عربية عديدة، قاتلوا هنا وماتوا هنا. لقد شهد ذلك المكان الكثير من الغارات، وتلك الأحجار التي تشاهدونها كانت مراكز للمقاتلين، أما الآن فيعيش الجهاديون تحت قبضة الإمارة الإسلامية”.
العلاقة بين طالبان والقاعدة: تكتيك جديد
بعيداً من تلك الجبال قصدنا عبد الرحيم، هو أحد أعضاء تنظيم القاعدة ولقبه “مسلم دوست”، فهو لم يتخلَ عن السلاح رغم سجنه مرّات عديدة في معتقل غوانتانامو. لم يُسمح لنا بالكشف عن مكان لقائنا به. ويعتبر دوست أنّ الذي تغيّر في عمل التنظيم بعد أسامة بن لادن هو المركزية التي كان يُمسك بها الأخير فيما أصبح التنظيم اليوم من دون مركزية.
ويقول: “عندما قتل أسامة بن لادن، تفرّق المقاتلون في البلاد واختفوا، أمّا التنظيم فهو باقٍ لكنّ دوره ضعيف، ولا أعرف ما إذا كان سيقوم في المستقبل بالعمليات”. وتابع: “لا أعرف ما إذا كان للقاعدة دور في أفغانستان الآن، أم إذا كانت عناصرها موجودة في البلاد، ولكن هم لو كانوا في أفغانستان، فسيطيعون الإمارة الإسلامية ولن يقوموا بأيّ شيء من دون إذنها”.
التنظيم يغيّر تكتيكه وطريقة عمله
ويقول المسؤول الأمني تاج الدين: “لقد اختار كلّ من داعش والقاعدة والتنظيمات الأخرى ذلك المكان المرتفع والخطير من أجل نشاطها وتنظيم عملها، ففي ذلك المكان توجد طرق عبور ويوجد كلّ الحاجيات الأوّلية التي قد يحتاجها الشخص، وفيه الكثير من الكهوف كما في تورا بورا، لذلك تعتبر ولاية ننغرهار ملجأ لكلّ المجموعات لأنّها تستطيع أن تختفي هنا لسنوات عديدة من دون أن يصل إليها أحد، يضاف إلى ذلك أنّ في الولاية غابات رائعة ومياهاً عذبة، ولديها طرق توصلها بكلّ المناطق، حتى إلى باكستان التي تتشارك مع الولاية بحدود طويلة. لذلك فأنت تجد كلّ ما تريده هنا في ننغرهار”.
ما يخشى الجميع من قوله هنا هو أنّ التنظيم يغيّر تكتيكه ويغيّر اسمه وطريقة عمله لكي يضمن الإستمرار في القتال، وأنّه أصبح العصا الخفيّة التي تضرب بها طالبان أعداءها لكي تحافظ على صورتها النظيفة فلا يعرقل قتال أعدائها سعيها للحصول على الإعتراف الدولي. ففي مديرية شينواري على سبيل المثال قاتل داعش الجيش الأفغاني وارتكب مجزرة فيها، ثمّ انسحب وسلم الإدارة لطالبان من دون قتال.
ويقول عزيز الله شينواري، وهو مواطن أفغاني وشاهد عيان: “كانت الحرب الأفغانية قاسية جدّاً، لقد سلبت منّا كلّ حقوقنا بالحياة، وحقوقنا الإنسانية، وجلبت لنا الألم فقط. قبل وقت قصير أتى إلى هنا رجال يحملون راية تنظيم داعش، لكنّهم كانوا يعملون تحت أمرة طالبان، بعد القتال والدمار استقروا هنا ثمّ بدأوا بإغلاق المدارس ومراكز الصحة، واعتقلوا كلّ مَنْ يعمل في المجال الصحي. لقد تخلفنا 32 سنة في مجال الصحة وكلّ المجالات الأخرى”.
ويشير تاج الدين إلى أنّ “الشعب الأفغاني كلّه متضرّر جدّاً ممّا حصل، والشيء الوحيد الذي يريده الشعب اليوم هو المصالحة والإستقرار، والذين يريدون الإستقرار عليهم أن لا يقتربوا من تلك المجموعات لأنّها خطرة على الأمن والاستقرار وعلى حرية أفغانستان”. ويضيف أنّ “هدفنا في ذلك البلد هو الحكم، وبما أنّ الشعب يريد أن يكون لديه حكم وسلطة واستقرار فعليه ألّا يفعل أفعال المجموعات الأخرى كي يتحقق له ذلك، لأنّ قيامه بأعمال المجموعات الأخرى سوف يساعدها بالوصول إلى هدفها، فيما الشعب الأفغاني تعب من الحروب”.
تريد طالبان فتح صفحة جديدة محاولة إخفاء ماضيها الدموي، وإخفاء قتالها لعقود عديدة جنباً إلى جنب مع تنظيم القاعدة. فهي لم تعترف يوماً بصلتها بأسامة بن لادن، ولا بصلتها بالمجموعات الجهادية الأخرى التي مهّدت لها الطريق لتبسط سيطرتها على أفغانستان خلال عدة أيّام فقط.
مقتل الظواهري
بعد الغارة التي شنّتها القوات الأمريكية في 31 يوليو الماضي مستهدفة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مقتله، مؤكّداً أنّ “العدالة قد تحققت” بعدما قتلت الولايات المتحدة الظواهري بطائرة من دون طيار”، مشيراً إلى أنه “لم يعد الناس في كلّ أنحاء العالم بحاجة إلى الخوف من القاتل الشرير”.
غير أنّ طالبان لم تؤكّد مقتل الظواهري بحجة أنّها لم تعثر على جثته، وأوضح نائب المتحدث باسم طالبان بلال كريمي (Bilal Karimi)، موقفها في ذلك الصدد، إذ قال: “أوضحت الإمارة الاسلامية موقفها في بيان نشر على الوسائل الإعلامية، ووصفت الذي حصل بأنّه هجوم عدواني ضدّ بلادها، فنحن ندين ذلك الهجوم لأنّه يتعارض مع كلّ المبادئ الدولية، ونبحث حتى اليوم عن الحجة التي دفعتهم لتنفيذ الهجوم، وسوف ننشر المعلومات عنها فيما بعد”.
وأضاف “عندما بدأت الأحداث في العام 2001، وبدأت بعدها الأحداث في العالم العربي، غادر الكثير من العرب والأجانب البلاد إلى بلدان أخرى، كان من الصعب عليهم أن يبقوا هنا في ظروف الحروب القاسية، بسبب اشكالهم ولغتهم، أعتقد أنّه لم يبقَ أيّ شخص منهم الآن”.
مسلم دوست: القاعدة ستعيّن أميراً جديداً وستقوم بدورها
من جهته، قال “مسلم دوست” إنّ “تنظيم القاعدة هو كغيره من المنظمات، ولا ينتهي بمقتل زعيمه، فلديه قادة واناس”، مشيراً إلى أنّ القاعدة ستعيّن أميراً جديداً وستقوم بدورها، وربّما ستعمل على تحسين نشاطها”. وتابع: “سيف العدل هو المرشح أن يكون أميراً ثالثاً لتنظيم القاعدة بعد ايمن الظواهري”. وأضاف: “بالنسبة للأفراد، فليس هناك فرق بين أطراف القاعدة، لكن ظروف الدول تختلف، فظروف أفغانستان تحتلف عن ظروف إيران، وعن ظروف اليمن….”.
ولفت السياسي والأكاديمي الأفغاني محمد حسن سعيد إلى أن حركة طالبان تمكّنت اليوم من إنشاء حكومتها، وبالتالي فمن الممكن أن تكون هناك شخصيات لديها ارتباط أو تعلّق بحركة طالبان، ولكن لا يمكن أن نقول عنها علاقات ثنائية، وذلك في معرض ردّه على سؤال حول العلاقة بين عناصر القاعدة وطالبان.
في لقاءات سابقة مع “أخبار الآن“، قال ممثلو طالبان إنّهم لا يريدون القاعدة في أفغانستان نافين وجود أيّ عنصر من التنظيم لديهم، لكن في هذه الحلقة من بالعين المجردة عرضنا تفاصيل جديدة تجسّد جانباً من تلك العلاقة بين التنظيم والحركة، فهؤلاء موجودون ولو تحت مسميات مختلفة تجنباً للملاحقة من جهة، وتجنّباً لإحراج طالبان، إذ يصعب على كلّ من الطرفين الإنسلاخ عن بعضهما البعض كلياً بحكم العلاقات المتداخلة فيما بينهما. لقد عرض برنامج بالعين المجردة ما لديه من معلومات لكننا نحفظ حقّ الرد دائماً لممثلي طالبان التي عليها أن توضح ما تقدم، فتنقضه أو تلتزم الصمت وفي صمتها ما يؤكد المعلومات التي عرضها التقرير.
شاهدوا أيضاً: لماذا حاول سيف العدل إخفاء حقيقته؟ متلازمة طهران 3