روسيا تسرق الذهب السوداني..إليكم القصة كاملة
يمكن القول إنّ السودان هي بلاد التناقضات، فهي تنتج نحو 90 طنّاً من الذهب سنوياً، إذ أنّ ما تخبّئه تحت أرضها عبارة عن ثروات هائلة وقيّمة قد تسدّ ثغرات كثيرة، أمّا فوق الأرض فثمة 40 مليون من أصل 44 مليون بحاجة إلى مساعدات ويعيشون معاناة كبيرة. فإلى أيّ مدى تخدم تلك الثروات السودانيين أنفسهم، ومَنْ يستفيد منها؟
يقدّر سعر طن الذهب عالمياً بأكثر من 60 مليون دولار أمريكي، وبالتالي يمكن تخيُّل القيمة الإجمالية لـ 90 طناً يتم إنتاجه سنوياً، والذي يُهرّب قسم كبير منه، فيما تحصل الشركات السودانية الشريكة مع الشركات الأجنبية، وغالبيتها روسية، على نسب ضئيلة بالنظر من تلك الأموال، وتلك الحالة تنطبق على شركة ميرو غولد (Meroe Gold) الروسية التي يستفيد الشريك السوداني من نسبة 1 % فقط بالنظر إلى الأسهم.
الفقر يأكل السودانيين وأرضهم مليئة بالخيرات.. فمن يستفيد منها؟
ثمّة الملايين من الفقراء في السودان هم بأمس الحاجة إلى الترشيد في استخدام كلّ الثروة الوطنية، وحمايتها من النهب والسرقة، بما في ذلك الذهب، وذلك للتخفيف من حدّة الفقر المدقع، أحد هؤلاء السودانية فيحاء.
فيحاء هي سيدة سودانية تعيش مع أولادها الخمسة في حي الصالحة بمدينة الخرطوم. تبدأ يومها كغيرها من السودانيات والسودانيين الذين يسعون لتأمين لقمة عيش أولادهم. تعمل هذه السيدة منذ الفجر، فهي تبيع “الطعمية” (الفلافل) في مخبز قريب من منزلها، ثمّ تذهب للعمل في إحدى المدارس، وتكمل يومها تبحث عن عمل في بيوت العاصمة.
تقول السيدة السودانية فيحاء لفريق برنامج “بالعين المجرّدة“، إنّها تكافح من أجل تأمين عيش أولادها، فيما زوجها يعيش في منطقة أخرى بعيدة وهو بالكاد يأتي لزيارتهم. تضيف: “أحاول تحمّل الواقع الصعب، لكن أكثر ما يتعبنا هو المنزل، والآن نحن خلال فصل الشتاء وثمة برد قارس، ونتغطّى بالمشمّع (غطاء بلاستيكي). خلال هطول الأمطار أولادي الصبية يذهبون إلى الجامع القريب للإحتماء من المياه، فيما أدخل أنا مع بناتي عند الجيران ونعود جميعاً عندما يتوقف المطر”.
40 مليون شخص في السودان من أصل 44 مليون بحاجة إلى مساعدات
وقوفاًَ عند حجم الحاجة والفقر الذي يعاني منه السودانيون، أجرى برنامج “بالعين المجردّة” لقاءً مع رئيس مكتب مجلس اللاجئين النرويجي (Norwegian Refugee Council) في السودان ويليام كارتر (William Carter) الذي قال إنّ “أكثر من 40 مليون شخص سوداني ومليون لاجئ تستضيفهم السودان، يعانون بسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردّي حالياً”، مشيراً إلى أنّ السنتين الماضيتين شهدتا تضخّماً كبيراً، وقد تدنّت قيمة العملة بشكل كبير، وارتفعت أسعار الخبز والفيول، وكذلك حصل ارتفاع هائل بالأسعار وبتكلفة المعيشة في السودان”.
1 من بين 3 أشخاص في السودان بحاجة لمساعدة إنسانية
وأوضح كارتر أنّ “الوضع صعب جدّاً بشكل عام على العديد من الناس، وثمّة وضع إنساني سيء منذ أمد طويل، مترافقاً مع نزاعات مسلّحة وكوارث طبيعية متكرّرة”، مؤكّداً أنّ في العام 2023 سيكون 1 من كلّ 3 أشخاص في السودان بحاجة إلى مساعدة إنسانية، وهي أعلى نسبة منذ 10 سنوات. لذا يمكننا القول إنّ الوضع الإقتصادي مزرٍ ومهمل تماماً، إنّها واحدة من أكثر الأوضاع الإنسانية إهمالًا على ذلك الكوكب في الوقت الحالي”.
فريق برنامج “بالعين المجرّدة” أجرى تحقيقاً إستقصائياً يكشف عن تمدّد النفوذ الروسي في السودان خلال السنوات الأخيرة على المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليكون المقابل اضطراد التعاون في عمليات تعدين الذهب السوداني وتصديره إلى روسيا.
وكشف التحقيق عن وثائق وأدلّة عديدة تبيّن عمليات نهب واسع للذهب السوداني، تقوم بها شركات تعدين روسية، مدنية وعسكرية، بالإضافة إلى تطوّر العلاقات لتطال الجوانب العسكرية والسياسية بين موسكو والخرطوم على صعد مختلفة، فيما تحاول الحكومة السودانية دائماً أن تنفي وجود عمليات تهريب للذهب عبر الشركات الروسية.
شركة ميروغولد الأكبر بين الشركات الروسية
ظهرت شركة ميروغولد الروسية على سطح الأحداث بشدّة في السودان في مارس العام 2018، عندما اتهم محتجون في منطقة وادي السنقير (Wadi As Sanqir) في ولاية نهر النيل شمال السودان، عناصر من مجموعة فاغنر التي يقودها الأوليغارشي الروسي الشهير يفغيني بريغوجين (Yevgeny Prigozhin)، بقنص أحد المتظاهرين عقب احتجاجات نظمها أهالي المنطقة. وقال عاملون في الشركة السودانية للموارد المعدنية، الذراع الفني لوزارة المعادن السودانية، إنّ الشركة هي ميروغولد موضحين أنّه قد تمّ إغلاق الموقع بعد تلك الحادثة. لكن الشركة تلك عادت من جديد للظهور بالقرب من منطقة العبيدية (Abidiya) في ولاية نهر النيل، بالإضافة إلى مناطق أخرى في ولاية البحر الأحمر وجنوب كردفان (Kordofan).
وكان الرئيس السوداني المعزول عمر البشير (Omar Al Bachir) طلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحماية ممّا وصفه بالعداء الأمريكي لبلاده. وذكرت المصادر الروسية وقتها أنّ البشير وقّع اتفاقاً على السماح لروسيا بإقامة قاعدة عسكرية على سواحل البحر الأحمر السودانية، بالإضافة للتوقيع على عدد مُقدَّر من الاستثمارات الروسية في مجال التعدين والزراعة وغيرها من المجالات. ولم تمر أشهر قليلة إلّا وظهرت ثمار تلك الزيارة، إذ أكّد متظاهرون سودانيون مطلع العام 2019 مشاهدتهم لمرتزقة روس يقدمون مساعدات فنية وتقنية للأمن السوداني لمراقبة تحرّكات المتظاهرين وقمعهم.
وكانت شركات ميرو غولد وكوش واليانس وغيرها من شركات التعدين الروسية حصلت على امتيازات للتعدين في مناطق مختلفة من السودان، لا سيّما في مربّعات تعدين تقع في مناطق غنية مثل ولايات نهر النيل والبحر الأحمر وجنوب كردفان.
عربي: أكثر من 75 % من الذهب يتمّ تهريبه
رؤى عربي (Roaa Arabi) وهي صحافية سودانية عملت بشكل معمّق على ملف سرقة الذهب من السودان، قالت لـ”أخبار الآن” إنّ شركة “ميرو غولد هي شركة تحمل اسم سوداني لكنَّها في الأصل شركة روسية، وثمَّة أيضاً شركة الفاخر”. وأضافة، “نحن نتحدث عن 230 شركة بأسماء مختلفة في السودان يروّجون أنّ طابعها وطني”. وتعتبر عربي أنّ شركة ميرو غولد هي الأكبر، وكذلك الفاخر في الوقت نفسه. وتابعت حديثها بالقول: “في السودان هناك أكثر من 200 موقع للتنقيب عن الذهب في ولايات مختلفة، لدينا أكثر من 16 ولاية في السودان، يتم فيها التنقيب عن الذهب بشكل عشوائي”.
وأوضحت عربي أنّ “أكثر من 75 % من الذهب يتمّ تهريبه، فيما الأرقام التي تكتب في بنك السودان هي أرقام ضئيلة جدّاً نظراً إلى حجم الصادرات والذهب الذي يتمّ تهريبه”. وتابعت: “معظم الموظفين هم أجانب، وثمّة معلومات عن مطارات عديدة يتمّ استخدامها من أجل تهريب الذهب على متن الطائرات”، مشيرةً إلى أنّها أجرت العديد من المقابلات مع العمال الذين كانوا يتواجدون في منطقة العبيدية التي تعتبر منطقة مهمّة للتنقيب عن الذهب وتعدينه”.
زيارة حميدتي إلى روسيا
وتقول مصادر في لجنة تفكيك نظام عمر البشير، التي أنشأتها الحكومة الانتقالية المشتركة بين المدنيين والعسكريين التي أسست بعد الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، إنّ “روسيا كانت تدعم الشق العسكري في الحكومة للسيطرة على الأوضاع وقيادة مرحلة ما بعد البشير، مقابل حماية المصالح الروسية المتمثلة في الاتفاقيات العسكرية والاستثمارات في مجال التعدين”. وتلفت المصادر ذاتها إلى أنّ روسيا مازالت تدعم قادة الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنية التي كان يرأسها رئيس الوزراء الأسبق عبدالله حمدوك حتى 25 من أكتوبر 2021.
وكان الرجل القوي والمثير للجدل في السودان ونائب الرئيس السوداني محمد حمدان دقلو (Mohamad Hamdan Dagalo)، المعروف بحميدتي، سجل زيارة طويلة لروسيا مؤخراً تزامنت مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد أثارت جدلاً واسعاً ومخاوف دول غربية من تمدّد النفوذ الروسي في السودان.
وبالفعل، فقد دافع حميدتي لدى عودته من روسيا إلى السودان عن فكرة قيام قاعدة روسية عسكرية على السواحل السودانية، رغم أنّ الجيش السوداني قال بشكل رسمي في إبريل العام 2021، إنّه غير معني باتفاقيات سابقة أبرمها البشير مع روسيا، تحتوي على إنشاء قاعدة تضمّ 300 جندي روسي و4 سفن حربية روسية ومعدّات عسكرية أخرى على ساحل البحر الأحمر، وجزم بتجميد أيّ اتفاقيات من ذلك القبيل ومراجعتها.
في الواقع، فإنّ زيارة حميدتي إلى روسيا لم تحققْ أيَّ فائدةٍ اقتصادية للسودان، بل أثّرت سلباً في الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، فروسيا الآن في أضعف حالاتها بعد العقوبات الشديدة التي فرضتها واشنطن والدول الأوروبية عليها، وبالتالي فهي ليست في وضع يمكّنُها من أن تقدم مساعدة لأيّ دولة، ولو أنّها في العادة لا تفعل ذلك.
وفي السياق، قالت الصحافية السودانية عربي إنّ “حميدتي زاد من نفوذه في المشهد السوداني، وقد برزت سيطرة الميليشيات على مناطق الذهب وسيطرة الجنرالات العسكريين الذين أقاموا دولة موازية داخل الدولة السودانية الفقيرة”. وشددت على أنّ “الفساد مترسخ في الدولة، إذ لا مراقبة ولا حسيب ولا شفافية”.
وتظهر صور أقمار صناعية حصل عليها فريق برنامج “بالعين المجردة” وجود قاعدة عسكرية تابعة لقوّات الدعم السريع التي يرأسها دقلو في منطقة مرسي عوتيري، شمال البحر الأحمر على السواحل السودانية، والتي تتنافس عليها قوى دولية كبرى.
وتظهر الصور التي تمّ التحقق منها من قبل خبراء عسكريين سبق لهم العمل في سلاح البحرية التابع للجيش السوداني وكذلك خبراء عملوا في هيئة الموانئ السودانية، وجود زوارق حربية لحماية قاعدة الدعم السريع في عوتيري.
لكن مشادات قبلية نشبت بين قبيلة العبابدة (Ababda) التي تمتلك معظم أراضي تلك المنطقة من جهة، وقبائل أخرى من إقليم شرق السودان من جهة ثانية، حول فكرة منح قطع أراضٍ في الإقليم لقوى من خارج النطاق الجغرافي والسكاني في المنطقة.
ذلك التطوّر وبحسب وثائق حصل عليها برنامج “بالعين المجرّدة“، دفع برئيس محلية منطقة جبيت التي يقع في نطاقها الجغرافي مرسي عوتيري، إلي إيقاف تخصيص الأرض لقوّات الدعم السريع لإقامة تلك القاعدة.
وكشف مصدر عسكري فضّل عدم الكشف عن اسمه، إنّ القوات الروسية تمّ إخفاؤها في جزيرة بالقرب من سواحل البحر الأحمر، مضيفاً أنّ قوات روسية زارت أيضاً منطقة عقيق في السواحل الجنوبية للبحر الأحمر قبل عدة أشهر، وقامت بأخذ إحداثيات للموقع بالإضافة لعيّنات من التربة وفحص لأعماق البحر في تلك المنطقة، الأمر الذي يشي بوجود أنشطة عسكرية مشتركة إضافية بين روسيا والسودان مستقبلاً.
ميرو غولد الروسية تطل من جديد
عقب مغامرتها القصيرة في منطقة وادي السنقير في ولاية نهر النيل، لم تختفِ شركة ميرو غولد عن الأنظار الإعلامية والاستثمارية وحتّى العسكرية لفترة طويلة، إذ عادت خلال فترة وجيزة إلى سطح الأحداث، لكن تلك المرّة تحت مسمى جديد، وهي شركة محلية هي الصولج. لكنّ مصادر في لجنة تفكيك نظام البشير قالت إنّ اللجنة وجهات حكومية ومدنية أخرى، رفضت تعديل الاسم بسبب شكوك بوجود فساد في عمل شركة ميرو غولد، أرادات جهات مقرّبة من المكوّن العسكري تغطيته قبل أن تطاله أو تفضحه أيادي لجنة التفكيك، وهو الأمر الذي نفته مصادر عسكرية مقرّبة من مجلس السيادة الحالي.
ويعود إنشاء شركة ميرو غولد إلي العام 2017 على يد منظومة “ام انفيست” (M-INVEST)، التي صدرت بشأنها عقوبات أمريكية العام 2021 باعتبارها الذراع الاستثماري لمرتزقة فاغنر.
وتكشف إحدى الوثائق الصادرة عن السجل التجاري في السودان، والتي تمّ نشرها في يونيو العام 2022، عن عقد أبرم قبل 5 سنوات في الخرطوم مع شركة خاصة، هي ميرو غولد أيضاً. عناصر عديدة تبيّن أنّها موثوقة، أحدها توقيعُ ميخائيل بتوبكين، شركة المحاماة التي تصادق على الوثيقة، بالإضافة إلى رقم هاتف أظهرت منصّات كشف البيانات، أنّ تمَّ تسجيله في العديد من الهواتف في السودان، وأنّ الإسم المسجل يمثل أشخاصاً روساً. لكن ما يتبيّن أيضاً، أنّ بتوبكين يوقّع على الوثيقة كممثل لشركة M-invest . إذاً في حين تربطُ ميرو غولد علاقاتٌ مباشرة مع روسيا ومجموعة فاغنر، فقد أقامت علاقات وثيقة أيضاً مع السلطات السودانية.
وتفيد إحدى الوثائق الصادرة عن المسجل التجاري في السودان، بأنّ بتوبكين وشريكاً سودانياً يملكُ نسبةَ 1 % من الأسهم، ويُدعى عبدالقادر الحسين، هما مَنْ يملكان شركة أم انفيست التي أخذت حقَّ العمل الاستثماري في مجالات التعدين والزراعة والإنشاءات والطرق والجسور والالكترونيات والبرمجيات والاسمنت والمقاولات والاستيراد والتصدير وغيرها من الانشطة التجارية.
شريك ميرو غولد السوداني يغلق الهاتف بوجه فريق “بالعين المجردة”
برنامج “بالعين المجرّدة” تمكّن من الوصول إلى الشريك السوداني عبد القادر عبدالله الحسين. وحرصاً على حفظِ حقِّ الرد، اتصل الفريق الاستقصائي به وسأله عن مدى ارتباط الشركة بالروس، لكنّه رفض الحديث عن الموضوع، ليؤكّد بذلك حجم التواطؤ في عملية إفراغ مخزون السودان من الثروة المعدنية.
وثيقة أخرى تكشفُ العثور على أزياء عسكرية روسية في موقع شركة ميرو غولد في ولاية نهر النيل، وذلك أثناء تفتيش مفاجىء قام به فريق مدني تابعٌ لوزارة المعادن السودانية العام 2020، لكن تمّت على إثره معاقبةُ بعضِ أعضاءِ الفريق من قبل الوزارة.
وثائق أخرى تكشف عن تسهيلات قدمت لشركة ميروغولد تتعلق بالسماح لطائرات تابعة لها بالهبوط في مطارات عسكرية سودانية، بالإضافة إلى تسهيل رحلات لها لدول أفريقيا الوسطى وجنوب السودان ودول أفريقية أخرى لم تذكرها.
ولم تحدد الوثائق أسباب تلك الرحلات وماهية الأنشطة التي تقوم بها طائرات الشحن التابعة للشركة، وإنْ أشارت الوثائق إلى اتفاقيات مع الجانب العسكري السوداني لتسهيل أعمال الشركة. وتضيف الوثائق معلومات أخرى عن تسهيلات ترتبط بالتنقل والتأمين لأفراد ومنشآت ميرو غولد بالإضافة لمنح تأشيرات ديبلوماسية للمدراء الروس للشركة.
وفي سياق متصل، تشكف الوثائق أيضاً عن طلب شركة ميروغولد من الاستخبارات العسكرية السودانية، إجلاء جنود روس من السودان عبر طائرة، وذلك إبّان جائحة كورونا العام 2020، بالإضافة إلى طلب استعادة بعض الأسلحة الروسية المخزنة في السودان في الفترة ذاتها.
معدّنون لـ”بالعين المجرّدة”: الذهب يُسرق فيما نحن نعيش في فقر مدقع
الفريق الإستقصائي جال في مناطق تعدين مختلفة في ولاية نهر النيل، مثل العبيدية ودار مالي، وقد التقى بعدد من المعدنين. هم يعرفون تماماً أنّهم يعملون لصالح الشركات الأجنبية الروسية تحديداً، ويعرفون أنّ مقدّرات بلادهم يتمُّ هدرُها وتهريبُها، لكن حالهم المزري يفرضُ عليهم السكوت والعملَ لتأمين عيش عائلاتهم. وخلل الحديث إليهم، طلبوا إخفاء وجوههم تجنّباً لأيّ مضايقات. ويقول شهود عيان سودانيون في ولايات نهر النيل وجنوب دارفور والخرطوم، إنّهم شاهدوا وجود عسكري لجنود روس في عدة مناطق في تلك الولايات.
الفريق تحدّث إلى 3 معدّنين، قال أحدهم في ولاية نهر النيل شمال السودان، إنّ “وسطاء سودانيين وروساً يتبعون لشركة ميرو غولد، بعضهم عسكريون وآخرون مدنيون، يقومون بعمليات شراء واسعة لمخلفات الذهب من المعدنين التقليديين بالقرب من منطقة العبيدية في ولاية نهر النيل.
ويضيف أنّ “الوجود الروسي المدني والعسكري ملحوظ في مناطق التعدين في الولاية، إذ تقوم الشركة بشراء كميّات كبيرة من مخلّفات التعدين التي تعرف محلياً بالكرته، تقوم شركة ميرو غولد بإعادة صهرها واستخلاص كميّات كبيرة من الذهب منها.
معدن آخر في منطقة العبيدية يقول إنّ “شركة ميرو غولد تتمتع بامتيازات لا تحظى بها بقية الشركات المحلية والأجنبية، إذ يتوفر لها ولأفرادها طاقم حماية أمنية روسي وسوداني، فيما يشرح معدن ثالث في الولاية، أنّ “الولاية تعيش في فقر مدقع وانهيار للخدمات بينما يتم تهريب موارد الولاية بواسطة الأجانب لاسيما الروس وبمساعدة السودانيين أمام مرأي ومسمع الجميع”.
أسوار.. شركة أمنية سودانية تنفذ أوامر ميرو غولد
مستندات أخرى قامت “أخبار الآن” من التحقّق من مصداقيتها تبيّن وجود شركة أخرى، وهي شركة “أسوار” المتعددة النشاطات، ويظهر اسم الشركة في (وثيقة رقم 3). “أسوار” هي شركة أمنية سودانية يقع مقرّها في الخرطوم.
في تلك الوثيقة يظهر أنّ تلك الشركة تنتمي إلى المخابرات العسكرية للجيش السوداني. وتشير وثيقة أخرى تحمل عنوان “مرافقة وفد روسي” إلى طلب موجه إلى رقيب سوداني لمرافقة وفد شركة ميرو غولد الروسية من منطقة الخرطوم إلى منطقة النيل، حيث يقع مصنع ميرو غولد.
“اليانس” إحدى شركات التعدين الروسية في السودان
“اليانس” هي أيضاً إحدى الشركات الروسية الكبيرة التي تعمل على استخراج الذهب في السودان، تحت إشراف السلطة السودانية. لديها اليد الطولى في التحكم بزمام الأمور.
الصحافية السودانية رؤى عربي تمكّنت من التحدّث مع مهندس في تلك الشركة التي تقع في البحر الأحمر، ويتحفظ برنامج “بالعين المجردة” على هويته حفاظاً على سلامته. قال إنّ “الشركات الروسية الموجودة في السودان هي:
- شركة اليانس وهي من أكبر شركات الإمتياز الموجودة في السودان
- شركة سيبيرين التي تنقلت في أكثر من ولاية داخل السودان وتمّ إنهاء عقدها
- شركة ميرو غولد التي توجد في ولاية نهر النيل في منطقة أبو حمد بمحلّة السلمة”.
وأضاف: “شركة ميروغولد الروسية أتت بأكثر من وجه استثماري، مجال السياحة والأعمال التجارية وكذلك في مجال التصنيع الحربي، والتعدين. المريب في الأمر أنّّه أثناء عمل تلك الشركة في منطقة وادي السنقير، حصلت بعض التجاوزات، ما دفع الأهالي إلى رفض وجودها تماماً، وقد حصلت مرّات عديدة مناوشات بهدف إنهاء عملها في وادي السنقير جراء ما تتسبب به من مشاكل صحية وغيرها”.
وتابع: “تمّ إخطار الحكومة السودانية من قبل المواطنين أكثر من مرّة بالطرق السلمية، كما كانت هناك إضرابات وإغلاق الشوارع، لكن لم يكن هناك أي استجابة، ما دفع المواطنين إلى استخدام القوة لإخراج الشركة، وقد تفاقم الموضوع أكثر ممّا توقعوه… تمّت مقابلة المواطنين العزّل بالسلاح من قبل الروس في الشركة، وهم قوات فاغنر”.
وأوضح المهندس في شركة “اليانس” خلال حديثه، أنّ “ثمّة شركة تلعب دور الوسيط بين العمّال السودانيين في الشركة والروس، هي شركة استخدام تسمى شركة هبة، وقد أتت بعد عامين من الإنتاج العام 2016، وفي العادة تقف إلى جانب الروس في حال كان هناك أيّ إشكال أو خلاف”.
وأشار المهندس إلى أنّ “المريب في الأمر أنّ للشركة الروسية أذرعاً قوية في الجيش السوداني، والدليل على ذلك أنّه لا يمكن للضبّاط السودانيين الموجودين الاعتراض على أيّ أمر تريد تلك الشركة الروسية القيام به. قبل فترة، تمّ تقديم تاريخ إخراج الذهب بخلاف الموعد المحدد، أحد الضباط اعترض على الأمر، فتمّت ازاحته والاستعانة بآخر من الخرطوم، فيما إقصاء الضابط الذي اعترض لاحقاً”، مشيرةً إلى أنّ “قوة تأتي عادة من الخرطوم لتأمين الذهب خلال عملية نقله”.
وعن شركة اليانس الروسية للتعدين، قال إنّها “تقوم بجملة احتياطات في حال بروز أيّ طارىء، وتعتمد وسائل تأمين عالٍ من قبل الروس، منها وجود مهبط لطائرات المروحية، كما يوجد مطار مجهّز في ولاية البحر الأحمر، في مدينة بور سودان (Port Sudan)، بحيث أن المسافة ليس بعيدة عن موقع الشركة وبورتسودان (نحو 350 كيلومتراً \ نحو ساعتين ونصف برياً)، ووجود مهبط للطائرات يعني أنّ عملية نقل الذهب تتمّ بسرعة”.
وختم المهندس بالقول: “ثمّة عمال يهدر حقّهم ولا يجدون من ينصفهم، كميّات ذهب فوق الخيال تخرج من السودان على مرأى ومسمع الجميع، من دون عائد سواء للعمال أو للدولة، استمرار إنقاص المخزون الإستراتيجي من الذهب بصورة مستمرة في ولاية البحر الأحمر وكذلك ولاية نهر النيل، إحداث فوضى عارمة نتيجة استخلاص الذهب واستخدام مواد سامة وضارة بالبيئة والإنسان من دون مراقبة من وزارة الصحة أو من الشركة السودانية للموارد المعدنية أو وزارة المعادن”.
السودان يخسر 370 طناً من الذهب بـ10 سنوات
وتكشف إحصائيات شركة الموارد المعدنية أنّ السودان فقد ما لا يقل عن 370 طناً من الذهب خلال 10 سنوات، من العام 2010 وحتّى العام 2020، بمعدل 37 طنّاً سنوياً، أي ما يقارب الملياري دولار سنوياً. وللمفارقة تذكر إحصائية من بنك السودان المركزي أنّ الفاقد يصل إلى 465 طنّاً خلال الفترة ذاتها بمعدل 46 طنّاً سنوياً بمعدل يزيد عن ملياري دولار كلّ عام.
وتكشف مصادر لجنة التفكيك عن تهريب كميّات كبيرة من الذهب خلال العام 2021 إلى روسيا عن طريق عدة مطارات سودانية، بينها مطارا الخرطوم وبورتسودان (أي بور سودان) وغيرها من المطارات في البلاد، مؤكّدة أنّ نحو 28 رحلة جوية حصلت بين مطاري بورتسودان واللاذقية في سوريا خلال العام نفسه.
إلى ذلك، فقد نُظّمت تظاهرات احتجاجية عديدة خلال الفترة الماضية رفضاً لوجود الشركات الأجنبية العاملة في التنقيب عن الذهب بسبب التخوّف من تهريب الموارد وإنقاص المخزون الإستراتيجي من الذهب، بالإضافة إلى الآثار البيئية والصحية السلبية للتعدين نتيجة استخدام مواد سامة مثل الزئبق والسيانيد في استخلاص الذهب، وانتشار عمالة الأطفال وغيرها من الجرائم.
وكان أقيم بالفعل اعتصام استمر لأكثر من 10 أيّام في أغسطس الماضي في منطقة العبيدية التي تعتبر أحد أكبر أسواق عمليات بيع الذهب وصهره واستخلاصه في السودان، للاحتجاج على انتشار الجريمة ونهب الموارد. وقد رفع المعتصمون شعارات تطالب بطرد الشركات أو مراجعة اتفاقياتها على أقل تقدير فيما طالب آخرون بدفعها تعويضات مجزية للمواطنين فيما يعرف بالمسؤولية المجتمعية لشركات التعدين.
وفي الخرطوم، يؤكد متظاهرون وجود أنشطة وتحركات لجنود روس يساعدون الأمن السوداني في تحديد تحركات المتظاهرين وكيفية قمعهم أو احتواء التظاهرات المستمرة منذ انقلاب الجيش على الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدك العام الماضي.
ماذا لو لم يسرق ذهب السودان؟
إذاً الذهب يهرّب من السودان بكميّات كبيرة جدّاً، فأيّ ثغرات كان ليسدّ لو كانت الدولة السودانية تستفيد من عائدات ذلك المعدن، وبالتالي السودانيون؟ في ذلك الصدد، قال الخبير الاقتصادي السوداني محمد زين، في حديث لبرنامج “بالعين المجردة”: “لو تمّ استغلال معدن الذهب بالشكل الصحيح عبر تصديره عن طريق القنوات الرسمية والاستفادة من حصيلة صادراته وضخّه في الاقتصاد السوداني كعملات صعبة، لكانت تلك الثروة قد زادت من الكتلة النقدية الأجنبية في البلاد وبالتالي كانت لترتفع قيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى في وقت خسرت فيه العملة الوطنية مستويات قياسية”.
وأضاف: “من جهة أخرى، لو يستفيد السودان من ثروته المعدنية، لكان قد انخفض معدل التضخم الذي يبلغ اليوم 300 %”. وختم بالقول: “نحن نناشد السلطات الحفاظ على تلك الثروة والإستفادة منها لأنَّها كفيلة بتحسين مستويات المعيشة وزيادة دخل الفرد، كما ويُنعش الاقتصاد ويخلق عجلة اقتصادية مستمرة قادرة على تنشيط دائرة الانتاج والاستهلاك”.
في المحصلة، كل ما سبق يعيدنا إلى البدايات، أنّ السودانيين جوعى على تلال الذهب، ولا يبدو أنّ مقدرات البلاد ستكون بمأمن في المستقبل فيما مَنْ هم في السلطة يستجدونها، ويستجدون مَنْ يدعم بقاءهم على الكرسي أطول فترة ممكنة.