قبل أن ينتهي عام 2020، نظم مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الذي ترأسه د.غادة والي وزيرة التضامن المصرية السابقة ورشة عمل بالتعاون مع هيئة الرقابة الإدارية المصرية واللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم، تحت عنوان “حماية الرياضة من الفساد في مصر”، وذلك احتفالاً باليوم العالمي لمكافحة الفساد الموافق 9 ديسمبر من كل عام، وبعدها بعام صدر أول تقرير عالمي من الأمم المتحدة عن الفساد في الرياضة من 300 صفحة.
رباعية كوريا وثنائية أثيوبيا
هذا الأسبوع، هُزمت مصر من كوريا برباعية، وقبلها بأيام هزمتها إثيوبيا بثنائية. هذه النتائج ليست فقط فضيحة كروية بل في واقع الأمر هي هزيمة منطقية ونتيجة طبيعية لحالة اللاهوية في الرياضة المصرية، والفساد المستشري في المنظومة الإدارية. طبيعي أن يكون نتاج كل تلك السنين من الفساد لاعبون بلا حمية كروية ولا مهارات أساسية، ومدرب منزوع الخبرة الدولية، اختاره اتحاد كرة يدير المنظومة بقعدات المصاطب وتزوير المحاضر. كل هؤلاء مسؤولون بلا شك عن تردي الأوضاع والنتائج وإحباط الشعب المصري، لكن الواقع أبشع مما نتصور.
بلاوي اتحاد الكرة المصري
منذ أيام، استضاف أحد الإعلاميين، جمال علام رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم، وقال جملة لا تنسى: ” لو جاءت لجنة تقصي حقائق للاتحاد هتكتشف “بلاوي”، ومن ضمن الـ “بلاوي” التي تحدث عنها وجود مديونية 600 مليون جنيه على الاتحاد، منها 450 مليون جنيه بسبب مشروع الهدف. حاول المذيع أن يستفسر من “علام” عن المشروع والديون، لكنه كان يجيب إما بـ “ما أعرفش” أو “أنا مش عاوز أتكلم”.
تحرك برلماني ولجنة حكومية
بعد تصريحات رئيس الاتحاد، قامت الدنيا ولم تقعد، وتقدم أحد أعضاء مجلس النواب بطلب إحاطة للبرلمان بسبب إهدار اتحاد الكرة 600 مليون جنيه، والكل يسأل عن مشروع الهدف؟ وكيف وصلت المديونية إلى هذا الرقم؟ ومن المسؤول؟ تزامنت تلك التصريحات مع وجود لجنة مشكلة بقرار من وزير الشباب والرياضة لبحث الشكاوى الخاصة بعدم الشفافية والفساد وفحص أعمال الاتحاد المصري لكرة القدم، وفي مقدمتها الملابسات الخاصة بالمكاتبات المتعلقة بعدم التقدم بطلب استضافة المباراة النهائية لبطولة دورى أبطال أفريقيا، إضافة إلى فحص الملفات المالية. وها نحن ننتظر البلاوي بعد الفحص.
مشهد مكرر
لم يكن التحرك البرلماني ولا لجان الفحص ولا الإطاحة باتحاد الكرة شيئاً جديداً على المصريين. اعتادوا مع كل إخفاق رياضي كبير على تكرار الأمر نفسه، والمحصلة واحدة طوال 30 سنة مضوا، شاهدوا نفس المشهد بعد الخروج المخزي للمنتخب المصري من دور الـ 16 في بطولة أمم أفريقيا 2019 وقيل أن جهات سيادية بدأت التحقيق فى ملفات فساد اتحاد الكرة بعد الإطاحة بهاني أبو ريدة، وحدث العام الماضي في البرلمان مع أحمد مجاهد وأقيمت له محاكمة برلمانية هي الأعنف في الرياضة المصرية ووجهت له تهماً صريحة بالفساد.
تكرر نفس السيناريو أيضاً بعد صفر المونديال عندما تقدمت مصر عام 2004 لتنظيم بطولة 2010 ولم تحصل على صوت واحد، وهو نفس ما حصل مع سمير زاهر بعد الهزيمة الثقيلة من المنتخب السعودي بنتيجة 5 صفر عام 2000، وما حدث بعد مجزرة بور سعيد، لكن هل أدين أحد؟ هل حوسب أحد؟ الإجابة الدائمة هي لا! وتكون النتيجة إما إقالة أو إجبار على الاستقالة أو تنفيذ حكم قضائي ببطلان إجراءات الانتخابات. الانتخابات التي عادة ما يشوبها الفساد ودفع الرشاوى باعتراف من خاضوها، ومن يديرون الكرة المصرية.
من يدير كرة القدم في مصر
“نحن صنعناً صنماً للرياضة المصرية”، كان هذا هو الوصف الذي استخدمه المهندس أشرف رشاد، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، وممثل الأغلبية في مجلس النواب المصري عندما تحدث عن هاني أبو ريدة، رئيس اتحاد كرة القدم الأسبق وعضو اللجنة التنفيذية للفيفا، خلال محاكمة أحمد مجاهد البرلمانية العام الماضي. وقال مما قاله أن أحمد مجاهد مجرد واجهة لأبو ريدة، ويندرج الأمر نفسه على جمال علام رئيس اتحاد كرة القدم الحالي الذي جاء به أبو ريدة أيضاً عام 2012 رئيساً للاتحاد لمدة 4 سنوات استمرت فيه سطوته وسلطته، وعندما عاد أبو ريدة رئيساً للاتحاد مرة أخرى عام 2016، عينه مستشاراً شخصياً له براتب 25 ألف جنيه شهرياً وخصص له سيارة وسائق. وبعد رحيل كيروش استولى أيضاً على السيارة المخصصة له في سابقة لم تحصل مع أي رئيس اتحاد سابق!
شالوا ألدو جابوا شاهين
يكرر المصريون تلك الجملة بعد أن حفظوها من اسكتش لثلاثي أضواء المسرح للدلالة على خيبة الأمل وفقدان الرجاء والإحباط، يكررونها وقليلون منهم الذين يعرفون أنها مرتبطة باثنين من نجوم الرياضة في مصر في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وهما، ألدو ستيلا حارس مرمى نادي الزمالك والنادي المصري البورسعيدي ولاتسيو الإيطالي الأسبق، وهو إيطالي الجنسية مولود في بورسعيد لأبوين إيطاليين وحقق مع الزمالك أول بطولة للدوري في تاريخه.
وعبدالحميد شاهين، هو حارس المرمى الذي جاء بعده، ثم اعتزل في بدايات عام 1970 وبعد الاعتزال أصبح عضواً وأمينا للصندوق بمجلس إدارة نادي الزمالك ثم عضواً وأميناً للصندوق باتحاد المصري لكرة القدم، وكان مستشاراً فتدرج وظيفياً حتى أصبح نائباً لرئيس هيئة النيابة الإدارية وتوفي عام 2014.
ثلاثي إدارة الاتحاد
ثلاثي أضواء المسرح خلدوا ألدو وشاهين، لكن في اتحاد كرة القدم المصرية هناك ثلاثي آخر ينطبق عليهم “شالوا ألدو جابوا شاهين”، تحكموا في الاتحاد خلال ثلاثة عقود، هم اللواء يوسف الدهشوري حرب، وسمير زاهر وهاني أبو ريدة، تناوبوا على رئاسة الاتحاد، لأكثر من دورة، ومع كل أزمة تسببت في اختفائهم، سرعان ما عادوا أو أداروا المشهد من الأبواب الخلفية أو من خلال لجان أو مجالس معينة!
ثلاثي في مسرحية أخرى
الفساد في اتحاد كرة القدم المصري لا يختلف كثيراً عن الفساد في الاتحاد الأفريقي (كاف)، ويكفي تعبيراً عن المشهد، الغلاف الذي نشرته مجلة الأهرام الرياضي المصرية في مايو الماضي، بعنوان مسرحية الكاف، مع صورة لفوزي لقجع رئيس الاتحاد المغربي لكرة القدم وهو يتحكم في ثلاثة أشخاص هم فاطمة سامورا الأمين العام للاتحاد الدولي، وباتريس موتسيبي رئيس الاتحاد الأفريقي وهاني أبو ريدة عضو المكتب التنفيذي كعرائس ماريونيت، يحركها كيفما شاء، وقبلها كان هناك من يتحكم في أحمد أحمد الذي لعبت مصر دوراً كبيراً في وصوله إلى رئاسة الكاف بعد الكاميروني عيسى حياتو.
وأتذكر جيدا القضية التي فجرها الشاب المصري الراحل عمرو مصطفى فهمي الذي تولى منصب السكرتير العام للاتحاد الأفريقي عن فساد أحمد أحمد وهاني أبو ريدة.
الفساد في مشروع الهدف.. تسلسل زمني
أعود إلى تصريحات جمال علام رئيس اتحاد كرة القدم المصري عن مشروع الهدف. دفعني ما قاله إلى تقصي أمر هذا المشروع لأجد ما كنت أتوقعه، مشروع الهدف هو نموذج صارخ وسلسلة ممتدة للفساد المالي والإداري.
ما هو مشروع الهدف؟
هو مشروع يتبع الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بدأ فى تفعيله عام 1999 بهدف دعم الاتحادات الأهلية في البلاد النامية لتدعيم البنية التحتية وإقامة مركز للمنتخبات الوطنية والتدريب والمعسكرات، على أن يخصص لكل دولة 400 ألف دولار، وكان يرأسه في البداية القطري محمد بن همام رئيس الاتحاد الأسيوي.
افتتاح بلاتر 2006
صدمتي الأولى عندما وجدت تصريحاً نقلته الصحف على لسان مدحت شلبي مدير الإعلام بالاتحاد المصري لكرة القدم عام 2006 عن افتتاح بلاتر رئيس الفيفا لمنشآت مشروع الهدف بمدينة السادس من أكتوبر في 19 يناير 2006 على هامش افتتاح كأس الأمم الأفريقية، تخيل يا مؤمن هذا المشروع كان مقرراً افتتاحه من 16 عاماً!
بلاتر يغادر القاهرة فجأة!
لكن صحيفة البيان الإماراتية نشرت قصة مثيرة عن مغادرة بلاتر القاهرة فجأة. باظ الافتتاح والاحتفال، وقيل لأسباب صحية بعد معاناته من آلام في مفصل القدم، وألغوا بالتالي برنامج الزيارة ومنه لقاء مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، ومشاركته مع رئيس الوزراء أحمد نظيف افتتاح مشروع الهدف.
افتتاح بلاتر 2009
بعدها بثلاث سنوات، عاد بلاتر إلى مصر من جديد لحضور كأس العالم للشباب وافتتاح مشروع الهدف المؤجل، بتكلفة حوالى 400 الف دولار، وقال حينها المهندس حسن صقر رئيس المجلس القومى للرياضة أن الحكومة المصرية أنفقت 3 ملايين دولار على المشروع بالإضافة إلى تخصيص الأرض التي أقيم عليها مشروع الهدف. كان الدولار حينها يساوي 5.5 جنيهاً مصرياً.
الأرض راحت!
بعد شهرين من افتتاح بلاتر لمشروع الهدف في 2009، كشف اللواء الدهشورى حرب، الرئيس الأسبق لاتحاد كرة القدم المصري، أن ما تم تنفيذه من مشروع الهدف هو ملعب وفندق صغير غير جاهز لإقامة منتخبات مصر على مساحة من 3 إلى 4 فدادين، في حين أن المساحة المخصصة كانت 38 فداناً إلا أن سلفه سمير زاهر تنازل عنها طواعية وأضاع أرضاً تساوى مليارات الجنيهات.
مليون دولار من الفيفا – 2014
عام 2014، تلقى اتحاد الكرة موافقة الفيفا على رفع قيمة الدعم المقدم لمشروع الهدف بمدينة السادس من أكتوبر إلى مليون دولار كاملة، وبناء عليه قرر مجلس الإدارة تعديل كراسة المناقصة التي حصلت عليها شركة وادي النيل لرفع قيمة الإنشاءات.
التسليم والانتهاء من التطوير – 2015
في 15 أغسطس 2015، تسلم اتحاد الكرة مشروع “الهدف” بعد الإنتهاء من تطويره خلال الفترة الأولى لجمال علام رئيس الاتحاد الحالي الذي قال إنه لا يعرف شيئاً عن المشروع ولا ديونه، وقيل أن المكان جاهز لاستقبال معسكرات المنتخبات الوطنية المختلفة، بعد أن تولت شركة وادي النيل للمقاولات ومكتب مصر للاستثمارات عمليات تطوير المشروع نتيجة تعرضه لعمليات حرق وتخريب من قبل مجهولين!
مقر جديد لاتحاد كرة القدم – 2017
عاد هاني أبو ريدة من جديد لاتحاد الكرة عام 2016، وبعدها بعام قرر إنشاء مقر جديد لاتحاد الكرة بتمويل من “الفيفا” بتكلفة 275 مليوناً وقيل أنه خلال عام 2018 فقط سيصل التمويل إلى 3.25 مليون دولار بما يعادل 55 مليون جنيه آنذاك، وأنه تم تحويل مبلغ 1.325 مليون دولار لحساب الاتحاد بالفعل لبدء إجراءات التعاقد على أن يعتمد الفيفا مبلغ 5 ملايين دولار أخرى للمشروع بداية عام 2019.
الفيفا يعلن التكلفة الفعلية – 2019
في يناير من عام 2019، نشر الفيفا، بياناً عن تطوير مشروع الهدف على مرحلتين؛ الأولى لإنشاء مقر للإقامة وفقا للمواصفات العالمية، بتكلفة حوالي مليوني و250 ألف دولار أمريكي، على أن تزيد سعة المقر الجديد إلى 288 سريرا. والثانية لإنشاء فرع جديد للاتحاد المصري لكرة القدم.
الافتتاح – نوفمبر 2021
ورغم الإطاحة بأبو ريدة، وخلال وجود أحمد مجاهد على رأس اللجنة الثلاثية، نظموا احتفالاً بمئوية الاتحاد المصري، وعلى هامشه افتتح انفانتينو رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم المقر الجديد لاتحاد الكرة بمشروع الهدف.
التهديد بإخلاء المبنى
لم يمر على الافتتاح الصوري السري سوى بضعة أشهر، ثم فوجئنا في بدايات شهر مايو الماضي باللواء حلمي مشهور، عضو مجلس إدارة الاتحاد المصري لكرة القدم يقول أن الشركة المنفذة لمشروع الهدف (وادي النيل) أرسلت خطاباً نهاية إبريل الماضي تطالب فيه اتحاد الكرة بمستحقاتها المتأخرة البالغة 228 مليون جنيه، كما أنها (الشركة) طالبت بإخلاء المبنى حتى تسديد الأموال!
ما الحل؟
هذا الملف جزء من كل، لن أحدثك عن الوقائع المخزية، ولا عن سرقة الملابس الرياضية، ولا عن السمسرة في تذاكر المباريات، ولا عن مهازل التحكيم، أو تسريبات المكالمات، لن أحدثك عن البلطجة والتطاول والاعتداءات بالأيدي في الاجتماعات والجلسات، أو التربيطات والترتيبات، كل هذا سيستمر طالما لا أحد يحاسب، وطالما الشرشحة الإعلامية مباحة، وطالما الرشاوى الانتخابية متاحة، وطالما المصالح متصالحة.
لم يُحاسب أحد في الماضي، ولن يحاسب أحد في المستقبل. لا تنتظروا جديداً طالما قواعد اللعبة كما هي، طالما الإدارة تتم بالمداورة، والمعالجة تكون بغض الطرف، وطالما نستخدم الرياضة للإلهاء. أخيراً .. الفساد في الإعلام الرياضي لا يختلف كثيرا عن اتحاد الكرة، يمارسه هواة يرتكبون جرائم لا يحاسبون عليها. يختفون عند العاصفة، وينتشرون عندما تعود المياه إلى مجاريها لأن الجميع يعرف جيداً أن آفة حارتنا النسيان.