اختفاء قسري ومصير مجهول: 3 قصص من ليبيا الممزقة
أخبار الآن | 03 أكتوبر 2024
مئات الوقائع المشابهة حصلت مع مئات الضحايا الآخرين في ليبيا في السنوات الأخيرة في الوقت الذي أحصت فيه المنظمات المدنية في ليبيا بين 2019 و2024 حوالي 273 حالة اختفاء قسري بين 2020 وأغسطس 2024 لم يتم التوثيق والتأكد إلا من 142 حالة بسبب غياب العدالة والتعاون من قبل السلطات المتنازعة في ليبيا. تستهدف حالات الخطف والاختفاء القسري أساسا المدافعين عن حقوق الإنسان، نشطاء المجتمع المدني، النشطاء السياسيين، والصحفيين في إفلات تام من العقاب من قبل الجناة الذين غالبا ما يكونون هم الخصم والحكم في هذه القضايا.
الشيخ محمد يونس البشاري: لم يمنعه عمره من الخطف
يعتبر الحاج محمد يونس البشاري، أحد أعيان قبيلة المجابرة في بنغازي وإمام مسجد سابق، اختطف بعد اقتحام مسكنه وتحطيم الأبواب، وتم اقتياده إلى جهاز الأمن الداخلي في بنغازي الذي يقوده سليم الفرجاني، وهو قائد أمني من النظام السابق. بعد التحقيق معه، تم تسليمه إلى مجموعة مسلحة.
ما كان يصعب على العائلة تصديقه هو أن الشيخ البشاري، الذي كان يحظى باحترام كبير بين سكان المنطقة، لم يكن له أي أعداء أو صراعات مع أي جهة دينية أو سياسية. تعتقد العائلة أن الشيخ كان ضحية تقرير كيدي كُتب ضده، وهذا التقرير هو الذي دفع إحدى الكتائب المسلحة إلى اعتقاله. فمع استمرار الفوضى الأمنية في ليبيا، أصبحت بنغازي مسرحًا للاقتتال وارتكاب الجرائم دون محاسبة.
كان محمد يونس البشاري، إمام مسجد سلمان الفارسي في حي أرض شبنة ببنغازي وقد عُرف عنه أنه كان رجلًا حافظًا للقرآن منذ صغره، ينتهج منهجًا دينيًا وسطيًا بعيدًا عن التطرف وفق ما تقوله عائلته. حافظ على دوره كإمام منذ تأسيس المسجد عام 1997 وحتى بداية الحرب في المدينة في عام 2014.
تعرض أحد أبناء الشيخ واسمه عثمان، إلى الاختطاف والتعذيب في 2015 على يد جماعة موالية لحفتر، وعُثر على جثته وعليها آثار تعذيب وإطلاق نار دون أن تتم محاسبة الجناة رغم مرور ما يقارب العشر سنوات على الحادثة. تخاف الأسرة في الوقت الحالي أن يواجه والدها ذات المصير وهي في سعي دائم ومحموم للكشف عن مصير الحاج محمد، الذي يعاني أساسا من أمراض مزمنة ولا يعرف كيف تم التعامل معه طيلة كل هذه السنين.
بسؤاله إن كان والده قد انخرط في أية جماعات دينية أو سياسية قبل اختطافه يقول أحد أبناء الشيخ الآخرين الذي تجنب الكشف عن هويته كاملة خوفا من الإنتقام، في حديثه لأخبار الآن: "لم يكن لوالدي أي نشاط سياسي أو ارتباطات دعوية مع أي تيار، كان يركز في حياته على الأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين في منطقته. وعلى العكس من موجة الفوضى والعنف التي انتشرت حينها في بنغازي، كان محمد البشاري يمثل نقطة اتزان، وشخصية يلجأ إليها الناس لحل مشاكلهم الاجتماعية والتماس المساعدة."
ويضيف: "في ذلك الوقت كان أطراف الصراع يتقاتلون على السيطرة على المساجد واستقطاب المشائخ والأئمة للانضمام إليهم، رغم عدم تقبلهم من قبل الناس في كل ربوع ليبيا إلا أنهم فرضوا سيطرتهم على هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية سواء في بنغازي أو طرابلس."
ويواصل: لكن والدي أصر على أن يتبع دينه كما تعلمه من مشايخه الذين سبقوه ولم يحد عن ذلك النهج، لذلك نعتقد أن هذا سبب استهدافه هو والكثير من مشائخ وأئمة المساجد الذين لايزال بعضهم مختف قسريا حتى يومنا هذا وجميعهم شيوخ مسنون.
بدأت العائلة منذ أول لحظة بالبحث والتواصل مع الجهات الأمنية والأعيان ومشايخ القبائل للتدخل في البحث عنه. ولكن الرد الوحيد الذي جاءهم كان في اليوم التالي للاختطاف بأن الجهة الأولى المسؤولة عن الحادثة هي السرية العاشرة بكتيبة طارق بن زياد، إذ جاءهم ضابط في القوات المسلحة وأخبرهم أنه تم إحضاره لمقر كتيبة طارق بن زياد حوالي الساعة 3 ونص ليلا وهو يخضع للتحقيق وسيتم اطلاق سراحه لاحقا. وهو ما لم يحدث رغم مرور سبع سنوات كاملة على الحادثة.
تعد كتيبة طارق بن زياد، واحدة من أبرز الجماعات المسلحة في ليبيا، تعمل تحت قيادة القوات المسلحة العربية الليبية بقيادة المشير خليفة حفتر. ومع ندرة البيانات الرسمية حول ظروف نشأة الكتيبة وتفاصيل مهامها، تبرز بعض التقارير الدولية التي تلقي الضوء على أنشطتها مثل تقرير منظمة العفو الدولية الصادر سنة 2022.
وفقًا لمنظمة العفو الدولية، يُعد لواء طارق بن زياد من أكبر الجماعات المسلحة وأكثرها نفوذًا في ليبيا. تشكل هذا اللواء من جنود محترفين شاركوا في القتال بجانب معمر القذافي في عام 2011، إلى جانب مقاتلين من القبائل المتحالفة مع القوات المسلحة العربية الليبية. الكتيبة، التي ظهرت في عام 2016، متهمة بارتكاب انتهاكات واسعة ضد حقوق الإنسان، بما في ذلك القتل غير المشروع والتعذيب والإخفاء القسري والاغتصاب والتهجير القسري
تقول نور خليفة مسؤول التواصل بمنظمة رصد الجرائم في ليبيا في تصريح لأخبار الآن: "تتأثر عائلات المختفين قسريا بشكل كبير جرّاء اختفائهم على يد الجماعات المسلحة والأجهزة الأمنية ويعيشن تحت تأثير الصدمة لفترة طويلة، وما يزيد الأمر صعوبة هو عدم تلقيهم أي تجاوب من السلطات القضائية أو الأمنية. فيبقوا في حيرة حول من يمكنه مساعدتهم من الجهات الحكومية. هذا الوضع يترك آثاراً نفسية واجتماعية عميقة على هذه العائلات يصعب محوها في ظل حالة ترقب أبدية لمصير ذويهم."
وتواصل: تسيطر مشاعر الضغط النفسي على هذه العائلات لسنين طويلة ما يحول الأمر إلى حالة مزمنة قد تتطور إلى اضطرابات كالاكتئاب. كما يمكن أن يؤدي هذا الوضع إلى تفكك أسري وعزلة اجتماعية، سواء بسبب وصمة العار المرتبطة بالاختفاء أو الانشغال بالبحث عن المفقودين. تواجه هذه العائلات أيضاً صعوبات اقتصادية، خاصة إذا كان المختفي هو المعيل الرئيسي.
في عام 2022 أجرت منظمة العفو الدولية تحقيقات كشفت عن أن كتيبة طارق بن زياد نفذت حملة ممنهجة لاستهداف خصوم أو منتقدين، سواء فعليين أو متصورين، بهدف إحكام سيطرتها على مناطق واسعة في شرق وجنوب ليبيا. بين عامي 2017 و2022، وثقت المنظمة حالات احتجاز غير قانوني لـ 25 شخصًا على يد الكتيبة، بسبب معارضتهم أو انتقاداتهم السلمية، أو ارتباطاتهم القبلية والعائلية.
اختطف مقاتلو كتيبة طارق بن زياد هؤلاء الأشخاص باستخدام العنف خلال مداهمات لمنازلهم، ولم يتم تقديم أي معلومات لعائلاتهم حول أسباب الاختطاف أو أماكن احتجازهم. عُثر على جثث ثلاثة من الضحايا ملقاة في الشوارع أو في مشارح بنغازي خلال أيام أو أسابيع من اختطافهم، فيما لا يزال أربعة منهم مختفين قسرًا منهم الشيخ محمد يونس البشاري، وثلاثة آخرون محتجزين تعسفيًا حتى تاريخ كتابة التقرير.
المحتجزون السابقون الذين أفرج عنهم، أفادوا بتعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة، بما في ذلك الضرب المبرح، والتعليق في أوضاع مؤلمة، وإجبارهم على ترديد عبارات مؤيدة لخليفة حفتر. كما ارتكبت الكتيبة انتهاكات بحق العائلات المعارضة، حيث قامت بتهجيرهم قسريًا من منازلهم في بنغازي ودرنة، واستولت على ممتلكاتهم بعد تهديدهم بالقتل إذا لم يغادروا.
بالإضافة إلى ذلك، شاركت الكتيبة في عمليات طرد جماعي قسري للرعايا الأجانب في جنوب ليبيا منذ يناير 2022، دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، مما زاد من تفاقم الأوضاع الإنسانية في تلك المناطق.
وعلى خلفية الانتقادات التي توجه للكتيبة وثبوت تورطها في جرائم ترهيب السكان للسيطرة على مدن بأكملها عملت مجلة "دير شبيغل" الألمانية رفقة ائتلاف صحفي واسع على تحقيق استقصائي كشفت من خلاله أن الاتحاد الأوروبي قدم دعماً لكتيبة "طارق بن زياد" التابعة للقيادة العامة في شرق ليبيا، لتنفيذ عمليات إعادة المهاجرين غير النظاميين إلى ليبيا، وذلك رغم مخالفة هذه العمليات للقرارات القضائية الأوروبية التي تمنع إعادة المهاجرين إلى ليبيا بسبب مخاوف من انتهاكات حقوق الإنسان.
تتابع في الوقت الحالي عشرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية جرائم الحرب والاختفاء القسري في ليبيا ولكن دون أن تكون هناك نتائج ملموسة أو عدالة ناجزة. يعلق عن ذلك الناشط الحقوقي الليبي علي العبسلي بأن التحدي الأكبر يكمن في عجز القضاء المحلي عن التعامل مع هذه الانتهاكات الخطيرة خصوصا الاختفاء القسري. فغالباً ما ترتكب هذه الجرائم من قبل مجموعات مسلحة ذات نفوذ قوي وارتباطات بالدولة، تسعى هذه المجموعات إلى إخضاع القضاء لسيطرتها وتقويض عمل القضاء والمحامين من خلال التهديد والاعتقال التعسفي، و تمتد جرائمها لتشمل الشهود والمبلغين. جهود المحكمة الجنائية الدولية، رغم أهميتها، لا تزال تواجه العديد من العراقيل في عملها على الأرض في ليبيا، مما يحد من قدرتها على تحقيق العدالة للضحايا. علاوة على ذلك، أعلن المدعي العام للمحكمة عن نية إنهاء التحقيقات في هذه القضايا بحلول نهاية العام القادم، الأمر الذي يثير قلق الضحايا وأسره
مأساة عائلة هرودة: إختفاء قسري ثم تصفية
في مدينة ترهونة، حيث كانت ميليشيا الكانيات تمثل القوة الطاغية في المنطقة، تعرضت عائلة أخرى كذلك إلى فاجعة الاختطاف والإخفاء القسري. هذه العائلة هي عائلة هرودة التي مستها أبشع الجرائم. في عام 2018، تم اختطاف الأخوين مفتاح وعلي هرودة على يد مجموعة مسلحة تابعة لهذه الميليشيا. كانت تلك الحادثة بداية لسلسلة من الانتهاكات التي لم تتوقف عند اختطافهم، بل امتدت لتشمل ثلاثة من شقيقاتهم بعد عامين.
مفتاح، البالغ من العمر 39 عامًا، كان يعمل كفني تصليح كهربائيات، بينما كان شقيقه علي متزوجًا ولديه ستة أطفال ويعمل في مجال الأعمال الحرة. لم يكن للأخوين أية علاقة مباشرة بالسياسة أو أي صراعات محلية. لكن العائلة تعتقد أن استهدافهم جاء بسبب مشاكل سابقة بين أقارب العائلة وميليشيا الكانيات.
عندما داهمت الميليشيا منزل العائلة في 12 فبراير 2018، كان الأمر بمثابة صدمة للأسرة التي لم تكن تتوقع أن ينتهي الأمر بفقدان اثنين من أبنائها في ليلة واحدة. اقتحم المسلحون المنزل، واعتقلوا مفتاح أولًا ثم اتصلوا بعلي و أجبروه على الذهاب إلى مكان اعتقاله. "ضربوا شقيقتي حواء عندما حاولت منعهم من اقتياد مفتاح"، تقول شقيقة أخرى من العائلة، واصفة كيف أُغمي على حواء نتيجة الضربة قبل أن يتمكن المسلحون من اختطاف أخيها.
لم ينتهي الأمر عند ذلك الحد بل امتد الخطف ليشمل شقيقاتها الثلاث: حواء، ليلى، وريما، بعد أكثر من عامين في أبريل 2020. كان الوضع في ترهونة متدهورًا بشكل كبير خلال تلك الفترة، حيث كانت المدينة تمثل غرفة العمليات المركزية لقوات حفتر في معركتها ضد حكومة الوفاق الوطني الموجودة في طرابلس. وكانت حواء تلعب دورًا بارزًا في البحث عن شقيقيها المختطفين، وهو ما جعلها هدفًا للكانيات.
بعد تحرير ترهونة في يونيو 2020، بدأت العائلة في تلقي بعض الأخبار المتضاربة حول مصير الشقيقات. كان هناك أمل بأنهن قد نُقلن إلى بنغازي كرهائن، لكن في يناير 2021، جاءت الصدمة الحقيقية. "عندما ذهبت إلى مركز طرابلس الطبي، رأيت صورًا وملابس تخص شقيقاتي في معرض للمفقودين"، تروي الشقيقة المكلومة كيف تعرفت على مقتنيات شقيقاتها في المعرض. تم العثور على جثث الشقيقات الثلاث في مقبرة جماعية، بعد أن تم إعدامهن بدم بارد.
كان وقع الصدمة على العائلة مدمرًا. تقول الأخت: "كنا ننتظر عودتهن، كنا قد بدأنا في تنظيف المنزل استعدادًا لاستقبالهن". اكتشاف جثث الشقيقات جعل من المستحيل نسيان الألم. أما بالنسبة لمفتاح وعلي، فلا يزال مصيرهما مجهولًا. "لقد فقدنا الأمل في العثور عليهما أحياء. الآن، ننتظر فقط العثور على جثتيهما"، تقول الشقيقة وهي تحاول الحفاظ على رباطة جأشها بينما تنحدر الدموع من عينيها.
في 2021 سلط تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" الضوء على جرائم ميليشيا الكانيات بقيادة محمد الكاني في ترهونة، حيث قتلت المئات من السكان بأساليب وحشية، بما في ذلك "إطلاق النار من مسافة قريبة على ضحايا مقيدي اليدين والقدمين ومعصوبي الأعين."
الميليشيا، التي لم يوقفها أي طرف من أطراف الصراع الليبي، سواء قوات حفتر أو حكومة الوفاق أو الأمم المتحدة، بدأت جرائمها بالظهور منذ 2017. إلا أن حجم الفظائع لم يتضح إلا مؤخرًا بعد اكتشاف المقابر الجماعية، حيث تم العثور على جثث متحللة في مزرعة "هارودا"، مما يشير إلى تورط الكاني وأتباعه في جرائم حرب.
يقول الناشط الحقوقي علي العبسلي لآخبار الآن: يعود السبب الرئيسي إلى سيطرة المجموعات المسلحة على مفاصل الدولة والقضاء، مما يجعلها قادرة على التهرب من المساءلة. كما أن القضاء الليبي يعاني من ضعف كبير، سواء في طرابلس أو بنغازي، حيث يرضخ تحت ضغوط هذه المجموعات ولا يستطيع التحقيق في جرائم بهذا الحجم والخطورة. وتقتصر مهمته على قضايا الفساد المالي البسيطة.
ليبيون يتجولون حول قبور تم استخراج جثث منها في بلدة ترهونة الغربية في 9 فبراير 2022. لسنوات، قامت عائلة كانيات الوحشية بقتل مئات الأشخاص في ترهونة، وألقت جثثهم في مقابر جماعية، وكانت تحتفظ بأسود في أقفاص لإرهاب السكان. (تصوير: محمود تركيا / وكالة الأنباء الفرنسية)
حتى الآن، تم انتشال 120 جثة، وتم الإبلاغ عن 350 عائلة بوجود ذويهم في المقابر. من بين الضحايا وعلى غرار عائلة هرودة نجد عائلة الفالوس، حيث اختطف عبد العلي الفالوس وأبناؤه وقتل ثلاثة منهم بأمر محمد الكاني. الناجي الوحيد، الطفل معاذ الذي يبلغ حاليا حوالي 12 سنة، شهد مقتل إخوته أمامه رميا بالرصاص بينما كان لا يزال طفلا.
في نوفمبر 2020، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على ميليشيا الكانيات وقائدها محمد الكاني، بتهم ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الجماعي والتعذيب والاختفاء القسري.
في الواقع غيرت الكانيات انتمائها السياسي أكثر من مرة بناء على تغير الأوضاع والتوازنات في ليبيا ولكنها لم تغير أبدا استراتيجيتها في التصفية الجسدية والترهيب لاحكام قبضتها.
ولكن مع الكانيات تقول نور خليفة من منظمة رصد الجرائم في ليبيا: الأطراف الرئيسية المشتبه بتورطها في عمليات الاختفاء القسري متنوعة ومنتشرة عبر مختلف أنحاء ليبيا. تشمل هذه الأطراف الجماعات المسلحة والأجهزة الأمنية الرسمية بمختلف مسمياتها وانتماءاتها.
في الغرب، تُتهم الأجهزة التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع في حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي الليبي في طرابلس بارتكاب هذه الجريمة. أما في الشرق، فيُشتبه بتورط الجماعات التابعة القوات المسلحة العربية الليبية، إضافة إلى الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الليبية المعتمدة من البرلمان. هذا التوزيع الجغرافي والسياسي للأطراف المتهمة يعكس تعقيد المشهد الأمني والسياسي في ليبيا وتأثيره على حقوق الإنسان.
أهم الميليشيات و المجموعات المرتبطة بشكل مباشر بالاختفاء القسري نجد:
وعن مدى توفر أدلة عن تورط هذه الجهات الحكومية و الأجهزة الأمنية في هذه العمليات تقول نور خليفه "بالتأكيد توجد أدلة عن تورط هذه الأجهزة الأمنية والجماعات المسلحة في جرائم الخطف والاختفاء القسري، وتقوم المنظمة بشكل دوري بإحالة القضايا المرفقة بالأدلة والشهادات الى جهات التقاضي الدولية والتي تنظر في أمر تلك الشكاوى والقضايا."
مالك: "مدون في وجه الطغاة"
في غرّة فبراير 2024، اعترضت طريق مالك - اسم مستعار- 3 سيارات مدنية قرب منزله، نزل منها 4 أشخاص مسلحين يحملون أسلحة خفيفة عبارة عن مسدسات وكلاشنكوف تم تصويبها جميعا نحو سيارته، بينما فتح أحدهم باب سيارته و أمره بالنزول عن طريق دفعه بالقوة إلى خارج السيارة ثم اقتاده اثنين آخرين لسيارتهم من نوع هيونداي سوناتا سوداء اللون ومعتمة البلور.
يقول مالك في حديثه لأخبار الآن: إن الخاطفين لم يعرفوا بأنفسهم ولم يذكروا الجهة التي يتبعونها وسبب الاعتقال. بل قام أحدهم بوضع قطعة قماش سوداء على عيني وكبلني بالأصفاد داخل السيارة التي سارت لنصف ساعة تقريبا ثم وجدت نفسي داخل زنزانة."
مالك' هو ناشط حقوقي ليبي بدأ نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2015، ورغم أنه نشاطه لا يتجاوز التنديد وفضح الظلم المستشري في ليبيا إلا أن منشوراته جعلته هدفا للميليشيات المسلحة التي رأت أنها يتعين عليها كتم صوته.
كان مالك يكتب عن الفساد، انتهاكات حقوق الإنسان، والوضع الأمني في ليبيا بعد أن تعرض أصدقاء له للخطف والتعذيب سنة 2014 و 2015. في البداية تلقى تهديدات متكررة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى هاتفه الشخصي، لكنه لم يكن يتوقع أن تلك التهديدات ستتحول إلى واقع. "اختطفوني في وضح النهار. لم يكن لديهم أي شعارات أو تعريفات رسمية، لكنني عرفت فيما بعد أنهم ينتمون إلى ميليشيا تحت مظلة وزارة الداخلية"، يقول مالك عن لحظة اختطافه.
تم نقله إلى مقر سري حيث تعرض للتعذيب الجسدي والنفسي. "كانوا يسألونني عن مصدر معلوماتي ويتهمونني بالتآمر مع العدو ضد الحكومة لزعزعة الأمن والاستقرار" يقول مالك. خلال فترة احتجازه التي استمرت شهرين، تعرض للتعذيب الجسدي والنفسي، والحرمان من الأكل ومن استعمال الحمام. كانت يعيش على وجبة أكل واحدة يومية ومنع من استعمال الحمام لأكثر من مرة يوميا"
سُجن مالك في زنزانة انفرادية، طولها 2 متر وعرضها متر ونصف فقط فيا لا يتجاوز ارتفاعها تقريبا 2 متر. لم تكن توجد بها تهوية ولا كهرباء ومقفلة بباب حديدي لونه أسود يقفل من الخارج. كان السجن عبارة عن مكان سري به حوالي 10 زنزانات بنفس التصميم. لم يتمكن من معرفة أي شيء عن موقع المكان عدا أنه حينما كان يغادر رأى على البوابة شعارات لوزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية.
ظل مالك مختفيًا قسريًا طوال هذه الفترة حتى أنه لم يكن يعرف مكان وجوده. إلا بعد أن أخلي سبيله إذ رأى على البوابة شعارات لوزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية، وقد عرف أنه كان سجنا سريا غير رسمي. يقول: "كل تلك المدة تملكني الرعب من المصير الذي يواجهني، كان خوفي الأكبر من فكرة أنه سيتم قتلي والتخلص مني فيما لن تعرف عائلتي ماذا حدث لي أو أن أبقى في هذا السجن لفترة طويلة دون معرفة كيف سينتهي بي الحال. "
في النهاية تم الإفراج عنه بعد تدخل عائلته وبعض المسؤولين، ولكن بشرط أن يغلق صفحته على الإنترنت ويتوقف عن نشاطه. غادر مالك''ليبيا فورًا بعد الإفراج عنه، خوفًا من أن يتعرض للاختطاف مرة أخرى أو حتى للقتل. وقبل أن يخلي سبيله بعد سعي مضني من قبل عائلته واتصالات مع مسؤولين في الحكومة كانت الجملة الأخيرة التي وجهوها له تهديدا مباشرا بالقتل: "المرة القادمة لن تكون مجرد اعتقال".
يصف ذلك: التهديدات التي هددوها لي قبل إخلاء سبيلي كانت قوية واجبرتني على الخروج لمكان آمن. لايمكن لأي جهة أو حكومة حمايتي في طرابلس أو أي مدينة أخرى. لم أجد مدينة مناسبة حيث كل المدن بها مليشيات ويستطيعون الوصول إليها ويمكن أن أتعرض لخطر أكبر كوني غريب فيها.
لم يتمكن مالك حتى بعد خروجه من معرفة مكان احتجازه بالضبط لكنه عرف أنه كان في مدينة بوسليم. وهي المدينة التي تضم واحدة من أخطر سجون العالم سجن بوسليم والذي كان ساحة حادثة قتل جماعي ارتكبتها قوات الأمن الليبية سنة 1996 بحق 1300 معتقل احتجوا على سوء معاملتهم.
يقول مالك أنه تم اقتياده في السيارة من حيه إلى السجن الذي خطف فيه لمدة شهرين حوالي نصف ساعة وبالعودة إلى بيانات جوجل مابس يرجح أن يكون مكان احتجازه قد وقع في أحد أقسام سجن بوسليم الذي يمتد على مساحة 30 هكتارا. ويبعد عن مركز مدينة طرابلس حوالي 23 دقيقة بالسيارة اذا كان الطريق . كما أن السجن يقع تحت إشراف الأمن الداخلي، في مخالفة صريحة لمادتيْ قانون الجنايات الليبي رقم 32 و33 اللتين تشددان على ضرورة إشراف وزارة العدل على السجون لمنع وجود "سجون سرية" لا تخضع لإشراف النيابة العامة.
يقول مالك إن تجربة الإعتقال أحبطت آماله في أن تكون ليبيا دولة قانون ومؤسسات وبينت له حقيقة المليشيات وأن المسار الذي كان يسلكه صحيح ويجب أن يستمر فيه. لقد كانت تجربة مفيدة بقدر ما هي تجربة مؤلمة، تعرفت فيها علي شخصيتي وعلى قدراتي واختبرت نفسي في هذه المحنة، أنه ليس أمرا سهلا أبدا أن تبقى مجهول المصير لمدة شهرين كاملين.
مالك الذي يعيش الآن في الخارج يواصل نضاله عبر وسائل أخرى، مؤمنًا بأن ليبيا لن تجد السلام إلا بإقامة دولة قانون ومؤسسات. ولكنه يخاف أن يعود إلى وطنه قائلا "لن أعود حتى تكون ليبيا بلدًا آمنًا يحمي حقوق مواطنيه".
العدالة الغائبة
م. ع المستشار القانوني في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، أشار إلى أن المحكمة الجنائية الدولية تواصل عملها بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1973 لعام 2011، والذي يمنحها صلاحية التحقيق في جرائم الحرب في ليبيا. وفقًا لاتفاقية روما لعام 1998، التي تصنف الجرائم المنهجية مثل الاختفاء القسري ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي. وفي تقرير صدر مطلع عام 2024، أكدت المحكمة استمرارها في التحقيق في هذه الجرائم.
في ما يتعلق بالجرائم المرتكبة في ترهونة بين 2015 و2020، أشار م.ع إلى أنها من أبرز حالات الاختفاء القسري التي وثقتها المنظمات الدولية ووصفتها المحكمة الجنائية الدولية كجرائم ضد الإنسانية. ورغم إعلان النائب العام الليبي عن فتح تحقيقات في هذه الجرائم وإصدار مذكرات قبض ضد بعض الجناة، إلا أن هذه الجهود تُعد بسيطة مقارنة بحجم الجرائم المرتكبة. وأضافت أن القاعدة الشعبية في ليبيا فقدت الأمل في تحقيق العدالة أو الكشف عن مصير المخفيين، خصوصًا مع إفلات الجناة من العقاب، حتى في الحالات التي تم الإبلاغ عنها دوليًا.
أما بخصوص دور الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، فقد أكد المستشار الدولي أن هذه المنظمات تواصل توثيق واستنكار حالات الخطف والاختفاء القسري التي ترتكبها الجهات الحكومية والجماعات المسلحة ضد المدنيين، خاصة الناشطين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. كما لفت إلى أن السلطات الليبية، سواء في الشرق أو الغرب، تتورط في هذه الانتهاكات، مما يعمق الأزمة الإنسانية في البلاد.
واعتبر أنه من الجدير بالذكر كذلك الإشارة إلى أن ليبيا لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، لكنها ملتزمة باتفاقيات حقوق الإنسان الأخرى، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. كما أن القانون الليبي رقم 10 لعام 2013 يعاقب على الاختفاء القسري، لكن تنفيذ هذه التشريعات يظل ضعيفا وغير ناجز.
من ناحية أخرى، نوه م.ع إلى أن منظمات المجتمع المدني الليبية تطالب بتدخل دولي أقوى وفرض عقوبات على الجهات المتورطة في الاختفاء القسري. ورغم الجهود المبذولة من قبل المنظمات الدولية لتوثيق هذه الجرائم، إلا أن الفساد القضائي وهيمنة الجماعات المسلحة يجعل من الصعب محاسبة الجناة. وأكد على أن هناك خيبة أمل عامة في ليبيا بسبب عدم تحقيق تقدم ملموس في قضايا الاختفاء القسري، ما يعزز الشعور بالإفلات من العقاب.
وفي ختام كلامه، دعى م.ع المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والسفارات والبعثات الدولية، إلى تكثيف جهودها لدعم توثيق حالات الاختفاء القسري والضغط على الحكومة الليبية لفتح تحقيقات جدية في هذه الجرائم.
لا وجود لتحقيقات جدية
في إجابة على سؤال إن كانت هناك أي تحقيقات رسمية جارية في حالات الاختفاء القسري وإلى أي مدى هي فعالة؟ ينفي الناشط الحقوقي الليبي علي العسبلي في حوار لأخبار الآن وجود أية تحقيقات جادة ومستقلة في جرائم الاختفاء القسري في ليبيا على الرغم من إعلان السلطات في شرق وغرب البلاد عن فتح تحقيقات في بعض الحالات البارزة، مثل اختفاء النائبة سهام سرقيوة، إلا أن هذه التحقيقات غالباً ما تكون شكلية وتسجل ضد مجهول. وفق قوله.
ويضيف العبسلي: لا يوجد أي تعاون جاد من قبل السلطات المحلية في ليبيا لمعالجة قضية الاختفاء القسري، وذلك لأن هذه السلطات هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل. أما على الصعيد الدولي، فجهود المحكمة الجنائية الدولية تبقى محدودة ومعطلة بالعديد من العقبات.
من جهتها تقول نور خليفة مسؤول الإعلام بمنظمة رصد الجرائم في ليبيا أن الخدمات المتاحة لدعم عائلات المختطفين، فإن الوضع معقد إذ تقتصر جهود بعض المنظمات الدولية والمحلية على خدمات الدعم النفسي والاجتماعي والمساعدة القانونية، لكن فاعلية هذه الخدمات تتأثر بالقيود المفروضة على عمل هذه المنظمات لأن الدعم الحكومي غالباً ما يكون محدوداً أو غائباً.
يبدو تحقيق العدالة في ليبيا يبدو بعيد المنال بسبب الانقسام السياسي وضعف السلطة القضائية وهيمنة الميليشيات المسلحة التي تمنع يد العدالة من بلوغ الجناة. في ترهونة، ورغم تحرير المدينة من سيطرة الكانيات، لم تتمكن السلطات الليبية من محاكمة جميع المتورطين في الجرائم التي ارتكبت خلال فترة حكمهم. "العديد من المجرمين ما زالوا أحرارًا، وبعضهم دفع رشاوى ليتم إطلاق سراحهم"، تقول شقيقة الضحايا في عائلة هرودة، مشيرة إلى الصعوبات التي تواجهها العائلات في الحصول على العدالة.
تجسد هذه القصص الثلاث حالة عامة تعيشها ليبيا منذ سنوات، فالإختفاء القسري أصبح أداة قمع تستخدمها الميليشيات والقوى المتنازعة، تاركة خلفها عائلات مكلومة تتأرجح بين الألم والأمل في معرفة مصير أحبائها. ما يظل غائبًا في كل هذه المآسي هو العدالة التي باتت مطلبًا بعيد المنال في بلد يتفكك تحت وطأة الحروب والانقسامات.
في المحصلة، على الرغم من حجم المآسي والخسارات لا تزال هذه العائلات تواصل نضالها. بالنسبة لها، القضية ليست فقط عن الانتقام أو معاقبة الجناة، بل تطالب بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة لأحبائها الذين فقدوا حياتهم أو لا يزالون مختفين. وهي جهود يجب أن يتم تبنيها من قبل المنظمات المحلية والدولية والجهات الرسمية الليبية ففي الوقت الحالي لا يزال العمل الميداني محدودا جدا سواء لتحقيق العدالة أو كشف الحقيقة على غرار مطابقة عينات مئات الجثامين لإيصال مصائرهم إلى أهاليهم المكلومين من خلال ما تقوم به مثلا الهيئة العامة للبحث والتعرف عن المفقودين.