قاضي الموت يحكم المدينة
ما أن قرأت وشاهدت أخبار طائرة الرئيس الإيراني ومعاونيه والحديث عن استحالة نجاته، حتى تخيلت روحه في تلك الغابة الجبلية وهي مطاردة من أرواح ضحاياه، وهو ما يحمل إجابة السؤال لماذا ينتظر أهالي العديد من المدن الإيرانية تأكيد نبأ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عقب تحطم المروحية التي كانت تقله، بلهفة وفرحة.
وما هي إلا ساعات قليلة واحتفل الكثيرون من أهالي المدن الإيرانية بخبر سقوط طائرة رئيسهم حتى قبل أن يتأكد خبر مقتله، حيث تم إطلاق الألعاب النارية في مدن ضحايا الرئيس في الأعوام الأخيرة والتي كان من ضمنها مدينة سقز في محافظة كردستان حيث مقر عائلة مهسا أميني، وفي مدن أخرى عديدة أبرزها مدن الأحواز والأكراد وبلوشستان، وغيرها من مدن أهالي الضحايا.
وكان الرئيس الإيراني يستقل طائرة هليكوبتر ضمن موكب من ثلاث طائرات، وأعلن التلفزيون الإيراني أن طائرة رئيسي تعرضت لحادث وقامت بـ”هبوط صعب” بالقرب من مدينة جلفا الواقعة على الحدود مع دولة أذربيجان، على بعد حوالي 600 كيلومتر شمال غرب العاصمة الإيرانية طهران.
وعندما نبحث عن سر تلك السعادة وهذه الاحتفالات نجد أن علاقة الرئيس الإيراني القمعية بشعبه قديمة، فحينما فاز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية في إيران في يونيو عام 2021 طالبت منظمة العفو الدولية بالتحقيق مع إبراهيم رئيسي، رئيس السلطة القضائية، الفائز بانتخابات الرئاسة في إيران فيما يتعلق بدوره في إعدام آلاف السجناء السياسيين خارج نطاق القضاء عام 1988 وذلك وفقا لجمعيات حقوقية ومنظمات دولية.
وصرحت أنياس كالامار الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية في حينها أن إيران لا تزال تخفي حقيقة ما جرى عام 1988 وكانت للرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي يد فيه، حيث يتعلق الأمر بإعدامات لآلاف السجناء السياسيين”. فيما وصفت كالامار ما فعله رئيسي بالجرائم المستمرة ضد الإنسانية التي تستوجب محاكمته بدلا من تصعيده إلى كرسي الحكم.
فماذا كان دور رئيسي في محكمة الموت ماذا فعل الرئيس الإيراني المدعوم من القوى المحافظة والمتشددة في إيران كي يستحق تهمة “مجرم حرب” ولتدعو المؤسسات الدولية لمحاكته؟
في عام 1988 كان رئيسي أحد أربعة قضاة شكلوا لجنة عرفت فيما بعد بـ”لجنة الموت” وكان رئيسي أكثرهم تشددا وتمسكا بأحكام الإعدام ومن خلال هذه اللجنة ارتكب رئيسي ثلاثة جرائم وحشية ضد المعارضين السياسين في إيران، كان اولها هو الحكم على آلاف المواطنين الإيرانيين بالإعدام وتقدر منظمة العفو الدولية عدد القتلى بخمسة آلاف ضحية، ولم تتوقف الجرائم عند ذلك بل إن أعضاء اللجنة أمروا باخفاء الجثث وعدم الاعلان عن أماكن دفن الضحايا، وهو ما جعله هذه الأماكن مجهولة حتى الآن.
مهسا أميني.. الشابة التي أسقط العمامة عن رئيسي
أما الجريمة الثالثة فكانت أثناء المحاكمات حيث كان يقوم القاضي ابراهيم رئيسي بالحكم على بعض الضحايا بتنظيف حقول الالغام امام جيش الجمهورية الاسلامية ومن ثم الموت.
فلم تكن جرائمه عام 1988 هي آخر الجرائم ضد الإنسانية في إيران بل كانت جريمته الأحدث والتي أيقظت الغضب من جرائمه السابقة متمثلة في مقتل الشابة الكردية ذات الـ22 ربيعا مهسا أميني، التي راحت ضحية عملية تعذيب يوم 16 سبتمبر 2022 إثر اعتقالها بتهمة عدم ارتداء الحجاب بطريقة لائقة، من جهة شرطة الأخلاق في طهران.
وأكد شقيقها الذي كان لجانبها يوم اعتُقلت أن شقيقته تعرّضت أميني للضربِ والتعذيب بعد مقاومتها للشتائم والإهانات التي وُجّهت لها من قِبل عناصر يتبعون شرطة الأخلاق وهو ما توافق ايضا مع أقوال بعض النساء اللاتي كن محتجزات معها.
نيكا شاكرامي الطفلة التي هزمت رجل الحرس الثوري فقتلها
كان مقتل مهسا أميني بمثابة حجر جديد يلقى في نهر الدم الذي صنعه النظام الإيراني المتطرف على مدار عقود، فانتفضت مدن إيران مطالبة بالثأر منن قاتليها ومنددة باضطهاد النساء وقمعهن من قبل النظام ،وعقب مقتل مهسا في منتصف سبتمبر 2022 خرجت عشرات المدن الإيرانية في احتجاجات حاشدة ولكن حتى من خرجوا في هذه الاحتجاجات لم يسلموا من العصف بأرواحهم.
فها هي نيكا شاكرامي الصبية ذات الـ16 ربيعا والتي كانت ثائرة لمقتل مهسا لدرجة جعلتها من قيادات المظاهرات في شوارع طهران، وبمنتهى الغضب وعنفوان وتحدي المراهقة خلعت حجابها وأحرقته، اعتراضا على تهمة مهسا بأنها لا ترتدي الحجاب بشكل لائق.
فأخذها ثلاثة رجال تابعين للحرس الثوري الإيراني ولم يعرفوا أين يتجهون بها فسجون النساء في ذلك الوقت كانت مكتظة بالمعتقلات كما أن حماس الفتاة وتمردها الظاهرين جعلهم يخافون من اختلاطها بالسجينات الأخريات لأنها ستنقل حماسها للثورة إليهن وبعد أيام تم العثور على جثتها ملقاة تحت أحد جسور طهران، وأعلنت الحكومة أن الطفلة قد انتحرت ، ولكن والدتها عثرت على ابنتها مهشمة الأنف ومحطمة الجمجمة، وأثبتت بعض التسريبات والتحقيقات المستقلة ان الفتاة تم التحرش بها وتعذيبها داخل سيارة الترحيلات من قبل الضباط الثلاثة الذين قبضوا عليها .
أثبتت الوثائق المسرّبة التي حصلت عليها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي مقاومة الفتاة المستمرة معتقليها وسبّها المتواصل لهم (حسب زعمهم)، فما كان من أحدهم إلا أن خلع جوربه ودسه في فمها بينما جثم أحدهم فوقها.
ويقول أحد رجال المجموعة الأمنية في الوثائق المسربة أنه رأى زميله، واسمه صادق منجزي، الجاثم فوق الفتاة، يتحرش بالفتاة بصورة فجة “اخترت عدم كتابة التفاصيل لفظاعتها”، فضربته في رجولته المزعومة فانهال عليها ضربا، وبرر ضربه المبرح لها بأنه كان يدافع عن نفسه.
وحين أوقف قائد المجموعة السيارة ليتحقق مما يحصل في الخلف بعد سماعه الضوضاء، كانت شاكارامي قد ماتت. وبعد اتصالٍ مع نقيبٍ في الحرس الثوري، أُلقي جثمان الفتاة تحت أحد جسور العاصمة الإيرانية.
طبقاً لهيئة الإذاعة البريطانية، فإن الوثائق المسربة، كانت جزء من تحقيق داخلي للحرس الثوري انتهى بتوبيخ الضابط المسؤول المجموعة ولم يعاقب أيا من الرجال الثلاثة الذين كانوا معها في السيارة من الخلف ولا حتى قاتلها الذي اعتدى عليها ثم قام بضربها حد القتل حين دفعته بعيدا عن جسدها النحيل، وعلل قتلها بأنه كان يدافع عن نفسه.
أطفال أربيل وإدلب وباكستان
في 16 يناير الماضي قتل صاروخ باليستي خرج بأمر إبراهيم رئيسي ومعاونيه ليضرب منزلا في مدينة أربيل العراقية مدعيا انها ضربت مقرا للموساد في أربيل وما كان إلا منزلا لمواطن كردي قتل بصاروخ رئيسي وفي حضنه ابنته زينة أصغر ضحية لرئيسي حيث يبلغ عمرها 11 شهرا، كانت زينة هي أصغر من ادعى نظام رئيسي أنها عميلة للموساد وفي ذات الليلة ضربت إيران مجموعة أخرى من الأطفال في إدلب وطفلين من بلوشستان باكستان بدعوى ضرب جماعات إرهابية مناهضة لإيران في سوريا وباكستان.
Burial of 11-month-old Zhina Peshraw Dizayee who was killed in Iranian terror regime ballistic missile on Erbil last night.
The youngest “Mossad agent” to be killed by Iranian regime?#Kurdistan
pic.twitter.com/fgA81wxLLi— Baxtiyar Goran ☀️ (@BaxtiyarGoran) January 16, 2024
عباس منصوري شهيد الشوكولاتة
في منتصف ديسمبر 2022 قتل رجال الحرس الثوري عباس منصوري الشاب الذي لم يبلغ التاسعة عشر بعد لأنه كان يوزع مكعبات الشوكولاتة ومعاها ورقة كتب عليها “المرأة ، الحياة، الحرية”.
ولكن رجال رئيسي ورئيسي وأئمته المعممون بالسواد يكرهون الثلاثة “المرأة ، الحياة، والحرية”، لذا ربما اعتبروا رسالة عباس تحديا لهم، فقد كان الشاب المحب للموسيقى والحياة صغيرا وجميلا كمكعب سكر وضع في كأس من عصير حنظلة، فلم يتناسب جمال عقله ونقاء روحه مع بشاعة ما تحمله نفوس رئيسي والموالين له.
رسالة من عنبر النساء بسجن إيفين
نرجس محمدي الناشطة الايرانية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عن عام 2023 وهي الجائزة التي نددت وزارة الخارجية الإيرانية بحصول مواطنتها السجينة عليها، نعم فنرجس محمدي سجينة ايضا على خلفية انتقادها لنظام الرئيس ابراهيم رئيسي وعدم اعترافها بالمحاكمات الإيرانية ضد الأبرياء من شعبها.
في 21 من شهر إبريل الماضي كتبت محمدي رسالة من ادخل محبسها قالت فيها:
شعب إيران اليقظ، أنا نرجس محمدي، أتحدث إليكم من عنبر النساء في سجن إيفين، قبل ساعة دخلت فتاة إيرانية جديدة تدعى دينا قاليباف عنبر النساء في سجن إيفين وهي مصابة بكدمات واعتداء جنسي. لسنوات عديدةونحن نشهد روايات النساء اللاتي تعرضن للاعتداء والمضايقة والضرب من قبل عملاء الحكومة؛ لكنهم الآن لا يرتكبونها من موقع قوة، بل من باب اليأس. لقد جلبت هذه الحكومة الدينية الاستبدادية حربًا شاملة ضد جميع النساء إلى جميع شوارع البلاد. نحن النساء في هذه الحرب التي لا هوادة فيها، إما أن نوقف هذه الحرب بموتنا، أو سيأتي شعب إيران والعالم لمساعدتنا، حتى نتمكن من إيقاف هذه الحرب من خلال العيش والسلام وإجبار النظام الكاره للنساء على التراجع”.
قصص ألحقت العار بحكومة رئيسي
وأضافت محمدي في رسالتها من داخل محبسها بأحد سجون طهران: “لقد اعتقدت الحكومة الاستبدادية القاسية أنها ستخيفنا وتجبرنا على التراجع بالاعتداء على النساء وانتهاكهن وتدنيسهن، لكن أنتن أيتها النساء المجهولات والمجهولات من سيستان وبلوشستان إلى كردستان و من خوزستان إلى أذربيجان وطهران وكل ركن من أركان إيران، لم تتراجعوا، بل جعلتم الحكومة تتراجع. نحن نساء المقاومة نعيش في كل لحظة من حياتنا وفي كل مكان تحت جزمة الاستبداد في السجن وفي الشارع. أعزائي، لا تستهينوا بقصصكم. هذه الروايات سوف تلحق العار بالحكومة الكارهة للنساء وتسقطها،عاشت المقاومة، عاشت الحرية، عاشت نساء إيران بشجاعتهن التي لا تقهر”
على مدار ثلاثة أعوام امتلأت القبور بضحايا رئيسي وتكدست السجون بالمظالم في أنحاء إيران، أما أفظع من سيقابلهم رئيسي اليوم فهي أرواح ضحايا السنة في العراق وسوريا، ففي رحلات تغطيتي للنزاع في العراق وسوريا، رصدت كيف تقتل الميليشيات التابعة لنظام إيران المواطنين الأبرياء في مناطق السنة بدم بارد ودون أدنى تهمة غير اختلافهم المذهبي.
جميعهم ينتظرون لقاء رئيسي بلهفة المظلوم المتعطش للمحاكمة العادلة.