ما هي الدولة التي طلبت تعديل سيناريو مسلسل "بطلوع الروح" ولماذا تغيرت النهاية؟

مسلسل “بطلوع الروح”، من الدولة التي طلبت بتعديله ولماذا تغيرت النهاية؟

أصيب اثنان من أبطاله بالكورونا بعد بدء التصوير، وتعرض البلد الذي تصور فيه حلقاته لموجة برد لم يسبق لها مثيل منذ 50 عاماً، وواحدة من أبطاله نالها هجوم حاد على السوشيال ميديا بمجرد نشر بوستر يحمل صورتها مرتدية الزي الداعشي، ومحاسب الشركة المنتجة اختطفته عصابة مسلحة وأفرجت عنه بعد 8 أيام، وموعد العرض تأجل ليكون في النصف الثاني من رمضان، ودولة اعترضت على سيناريو أحداثه وطلبت تعديله، ونهاية المسلسل نفسه التي كتبها مؤلفه تبدلت عما كان مخطط له!

كل هذا حدث مع مسلسل “بطلوع الروح” الذي يبث على شاشة إم بي سي مصر ومنصة شاهد، وأذيعت منه 13 حلقة حتى كتابة هذا المقال من أصل 15 حلقة، شدتني القصة والحبكة والشخصيات وأعجبني الأداء والإيقاع والديكور، التفاصيل كلها مختلفة استطاعت المخرجة المبدعة كاملة أبو ذكري خطف الأضواء من مسلسلات أخرى بدأ الجدل حولها مع بدء رمضان، وأبدعت منة شلبي وأحمد السعدني، ومحمد حاتم الذي يواصل التألق بعد دوره المميز جداً في مسلسل “منورة بأهلها”.

محمد هشام عبيه

المسلسل قصة وسيناريو وحوار محمد هشام عبيه الذي عرفته صحفياً موهوباً، وشرفت بالعمل معه في جريدة الدستور منذ عام 2006، وهو مثال للانضباط المهني والأخلاقي اللامحدود، وموهبته التي تفجرت في عالم الدراما وكتابة السيناريو، نضجت قبلها في الصحافة، المهنة التي يعتز بها ابن مدينة شربين بمحافظة الدقهلية. بعد التخرج من كلية التربية جامعة المنصورة، بدأ “عبيه” حياته المهنية كمندوب مبيعات بشركة أدوية ثم تركها ليعمل في موقع “بص وطل” الشهير، وينضم في 2005 إلى جريدة الدستور ثم يشارك في تأسيس جريدة التحرير 2011 كمساعد رئيس تحرير.

وفي 2016 أسس “عبيه” جريدة اليوم الجديد، ثم تركها ليحترف كتابة السيناريو على يد واحد من أسطوات كتابة السيناريو في مصر، وهو الكاتب الصحفي والمؤلف والسيناريست وائل حمدي، وشارك “عبيه” في كتابة مسلسلات حققت نجاحاً كبيراً منها “رحيم” ومسلسل “زودياك”، وكان مسلسل “60 دقيقة” فارقاً في حياته، وهو أول مسلسل يكتبه بمفرده وكتبته مع ظروف وفاة والده ومسلسل “بطلوع الروح” أول مسلسل يعرض له في رمضان.

بداية الخيط.. تحقيق صحفي

بدأت فكرة مسلسل “بطلوع الروح” من تحقيق صحفي نشرته صحيفة الشرق الأوسط اللندنية عن “نساء داعش في مخيم روج الذي يقع قرب مدينة ديرك، أقصى شمال شرقي سوريا، استلهم المؤلف القصة من سيدة مصرية تحكي في التحقيق أنها ترفض العودة لبلدها خشية من الملاحقة الأمنية، وأن ملفّ زوجها الذي التحق بالتنظيم بداية 2015 وحارب في صفوفه، سينعكس سلباً على مستقبل أطفالها ودراستهم وإكمال حياتهم بشكل طبيعي، وأنها ستقدم طلباً للجوء لدولة ثالثة.

لا تزال تلك السيدة المصرية موجودة في مخيم “روج” حتى اليوم، لكن هل شخصية “روح” التي تؤديها الفنانة الموهوبة “منة شلبي” لها علاقة لها بسيدة المخيم التي ألهمت المؤلف؟

“روح” مش موجودة في الواقع بنسبة 100 %، لكن جزء منها مستوحى من شخصيات عديدة، وبعدما انتهيت من كتابة الشخصيات وبدأ عرض المسلسل، نبهني بعض الأصدقاء أيضاً إلى أن شخصية “أكرم” زوج روح متماسة مع شخصية “إسلام يكن” الشاب المصري ابن حي مصر الجديدة الراقي الذي سافر  وانضم إلى داعش، وشخصية “روح” مُختَلقة في تفاصيلها وخلفياتها، لكن كخط درامي هي تشبه كثيراً الأمهات التي انضمت إلى داعش رغما عنها ومعها أطفالها، هذه هي الحقيقة التي عاشتها نساء داعش.” هذا ما قاله محمد هشام عبيه عن شخصية “روح” وزوجها “أكرم” الذي يؤديه الفنان محمد حاتم.

تحقيق بي بي سي.. صفقة الرقة السرية

من ضمن المصادر المهمة التي ألهمت مؤلف “بطلوع الروح”، تحقيق صحفي استقصائي لاثنين من صحفيي “بي بي سي” بالقسم الإنجليزي هما “كوينتين سومرفيل” و”ريام دالاتي” وتم ترجمته للعربية بعنوان “مهمات الرقّة السرية” ويكشف التحقيق عن اتفاق سري استطاع من خلاله المئات من مسلحي داعش وأسرهم الفرار من مدينة الرقة السورية، تحت أنظار التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة و”قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها الأكراد.

يظهر التحقيق الصحفي في الحلقتين الأخيرتين من المسلسل حسبما أكد لي “عبيه”، ويكشف التحقيق إن رتلاً من الشاحنات يضم قيادات داعش من القادة المحليين والأجانب كانوا متحصنين في المستشفى الوطني في الرقة، هربوا منها خلال تلك الصفقة السرية، وانتشروا في مناطق أخرى من سوريا، واستطاع عدد منهم عبور الحدود إلى تركيا.

كتيبة الخنساء

يتمحور جزء كبير من المسلسل عن دور النساء والعالم الحقيقي لتنظيم داعش، بدون تنظير أو سفسطة فارغة، وأظن أن هذه المعالجة الدرامية لم يتناولها أي عمل درامي عربي آخر بهذه الروعة والجودة والجرأة، ويبرز في المسلسل دور كتيبة الخنساء التي  تأسست في الثاني من فبراير من عام 2014 على يد “أم ريان“، المرأة الأقوى في التنظيم آنذاك، وهي مهاجرة تونسية جاءت مع عائلتها من العراق بعد أن زوّجت ابنتيها إلى قياديين في داعش، سيدة كانت في السابعة والأربعين من عمرها وذات قوام ممشوق ورياضي، وقيل فيما بعد – ضمن تحقيق لموقع قناة الغد – أنها هربت مع أربعة من النساء لكني لم أستطع توثيق ذلك من مصادر أخرى.

لجأ تنظيم داعش إلى تشكيل كتيبة الخنساء خوفاً من تكرار عملية قام بها مجهولون يرتدون زياً نسائياً ويغطون وجوههم بالبراقع، قتلوا خلالها عناصر من داعش عند أحد الحواجز. شكلت “أم ريان” الكتيبة في البداية من 35 امرأة، كانت النسبة الأكبر فيهم لتسعة من الشيشانيات وسبعة من التونسيات وأربعة سعوديات وثلاثة من كل دولة من مصر وسوريا وليبيا والعراق، ويمنيتان وكويتية واحدة، والدور المنوط لهن كان تفتيش النساء في الشوارع والمحال التجارية، ومحاسبة النساء واعتقالهن وجلدهن حال ما خالفوا الشريعة وقوانين تنظيم الدولة وإعدامهن إن لزم الأمر أو ترشيح بعضهن لتنفيذ عمليات انتحارية.

إلهام شاهين وأم ريان

تؤدي الفنانة إلهام شاهين دور (أم جهاد) زوجة زعيم التنظيم في الرقة، وتقود كتيبة الخنساء، سألت مؤلف المسلسل إذا كانت شخصية “أم جهاد” هي بالفعل “أم ريان” قائدة كتيبة الخنساء عند تأسيسها أم لا، فأكد لي أن شخصية “أم جهاد” خليط من بعض الشخصيات الموجودة في الرقة ومن زوجات قيادات جماعات متشددة، وتشبه إلى حد ما زوجة قيادي من قيادات جماعات الجهاد تم اتهامه في قضية اغتيال كبرى في مصر.

أم جهاد وفتيحة المجاطي المغربية

في تصريحات لموقع إعلام دوت كوم، قال الكاتب الصحفي والباحث علاء عزمي المسؤول عن المراجعة والمادة البحثية في المسلسل أنه عند البحث استوحى شخصية أم جهاد من قصة فتيحة المجاطي المغربية الملقبة بأم آدام التي تم تصنيفها ضمن أكثر النساء خطورة في داعش بالعالم. 

الهجوم قبل العرض

يرى مؤلف المسلسل أن الضجة التي حصلت قبل بدء العرض كانت بسبب موقف بعض الجمهور الشخصي والسياسي من الفنانة إلهام شاهين، وهناك جزء له علاقة بأصحاب الأفكار التوجهات المتشددة التي حاولت ضرب النار مبكراً لتخويفنا وإرهابنا، وهناك جزء من الجمهور العام يتأثر بمثل هذه الدعاية، ويمشي وراء هؤلاء لكن الميزة الكبرى أنه بعد بدء عرض المسلسل قل الهجوم عليه، واكتشفوا أن المسلسل ما هو إلا دراما اجتماعية إنسانية في بيئة خطرة، ولم ندخل في نقاش جدلي ديني لأن المسلسل ببساطة كان صراعاً ما بين الفطرة والوحشية، فلم يجدوا ما يهاجمونه.

هاجر.. من ملهى ليلي إلى كتيبة الخنساء

قد يظن البعض أن أحداث المسلسل خيالية، ربما لعدم متابعتهم، أو لعدم منطقية الحكايات، لكن بالبحث وقراءة شهادات الناجيات من جحيم داعش أو التحقيقات الصحفية الاستقصائية، تكتشف أن الواقع كان أكثر قسوة.

أحمد إبراهيم صحفي سوري أخفى اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، مقالاته في موقع الجمهورية ترصد واقعاً مريراً في الرقة والمخيمات. في يوليو من عام 2015، نشر قصة “هاجر” الفتاة السورية ذات الخمسة وعشرين عاماً التي كانت تعمل في ملهى ليلي وانضمت إلى كتيبة الخنساء، وهي قصة مثيرة للدهشة والاهتمام وتكشف المأساة في حياة نساء تنظيم داعش وهي واحدة من قصص عديدة لفتيات عرب وأجانب انضممن لداعش، ولعل أشهر الأجنبيات هي سالي جونز “الأرملة البيضاء” مغنية الراب البريطانية التي قيل أنها قتلت في غارة أمريكية بطائرة مسيرة عام 2017، خلال محاولتها الهروب من الرقة، لكن تقارير أخرى زعمت أنها لا تزال على قيد الحياة وكذلك “أم جبريل” الأمريكية التي تواجه حكماً بالسجن لـ 20 عاماً أمام محكمة أمريكية.

العقاب بالعضاضة

أعود إلى حكاية “هاجر” التي هربت من التنظيم وعادت إلى حياتها الطبيعية، ترتدي الثياب التي كانت ترتديها قبل انضمامها إلى داعش وتدخن سيجارتها بينما تتحدث إلى أحمد إبراهيم، تحكي عن العضاضة التي تستخدم كتيبة الخنساء في معاقبة النساء، فتقول: “هي آلة حديدية تشبه كثيراً الكماشة. منها نوع له سنّان في الفك العلوي وسنّان في الفك السفلي. ومنها بأربعة أسنان لكل فك. تقوم الموكلة بالمهمة من كتيبة الخنساء بإطباق فكي الكماشة على صدر من تجري معاقبتها، مما يسبب لها ألما لا يطاق وجروحاً. وأحياناً تطبّق على الأعضاء التناسلية بطريقة وحشية وفي حركات تشبه الاغتصاب”.

مرض الهيموفيليا

تربطني صداقة قديمة بوالد أحد الأطفال المصابين بمرض الهيموفيليا، تعيش الأسرة في كابوس دائم خشية تعرض طفلهم الجميل للنزف أو عند وجود نقص في البلازما أو العلاج اللازم له (الفاكتور) وأصبح الأب خبيراً في كل ما يتعلق بعلاج نجله، منذ عرفته وهو يسافر أسبوعياً أو مرتين شهرياً من الشرقية إلى القاهرة من أجل العلاج المكلف جدا والذي يفوق قدرة المقتدر وغير المقتدر. تحاول مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني غير الهادفة للربح والمستشفيات الجامعية وهيئة التأمين الصحي لتوفير العلاج للمصابين بهذا المرض المزمن، وكان اختياره في أحداث المسلسل مهماً بالنسبة لي وأعتقد لكل من يعانون من هذا المرض، وأعتبره نقطة تستحق الإشادة والتحية.

أكد لي مؤلف المسلسل “محمد هشام عبيه” أن اختيار مرض الهيموفيليا بالتحديد المصاب به نجل روح “منة شلبي” بطلة المسلسل كان اقتراحاً من فريق البحث في قناة mbc، وذلك بعد ما أرسل المعالجة الفنية وتم الاتفاق على كل شيء، وكان رؤيتهم تتلخص في أن تناول المرض يمكن أن يساهم في التوعية به عربياً، كما أن معاناة الأم بمرض ابنها وبحثها الدائم عن علاجه خلال وجودها في الرقة كانت مفيدة للدراما وتصاعد الأحداث.

الدولة التي طلبت تعديل السيناريو

كان من ضمن الخطط التي وضعها فريق العمل والشركة المنتجة للمسلسل، أن يتم التصوير في مدينة الرقة في سوريا باعتبار أن الأحداث الأصلية حصلت في الرقة، لكن الجهات الأمنية في سوريا طلبت قراءة نسخة السيناريو أولاً قبل منح أي تصاريح للتصوير، وبعدما حصلوا على النسخة، اعترضوا على بعض المشاهد في السيناريو وبخاصة تلك تتعلق بدور الأكراد في إنهاء احتلال داعش للرقة.

 

 

هنا كان فريق عمل المسلسل أمام خيارين، إما قبول الشروط التي وضعتها الأجهزة الأمنية في سوريا، أو البحث عن مكان آخر للتصوير. وبالفعل رفضوا طلب تعديل السيناريو واختاروا التصوير في لبنان لصعوبة تزوير التاريخ وتغيير الحقيقة المؤكدة بأن الرقة تم تحريرها على يد “قوات سوريا الديمقراطية” التي يسيطر عليها الأكراد بالتعاون مع قوات التحالف التي تضم قوات أمريكية وفرنسية.

 

تغيير النهاية

ظروف صعبة واجهت القائمين على العمل في لبنان، منها إصابة “منة شلبي” و”أحمد السعدني” بعد بدء بداية التصوير بالكورونا، ومرور “لبنان” بموجة برد عنيفة تعطل التصوير بسببها، فالجليد كان يقطع الطرق، كل هذا أثر على إنجاز العمل بشكل كامل حسبما أكد لي المؤلف وكاتب السيناريو والحوار.

“اضطررنا لتعديل ما يتعلق بالنهاية، كان المفترض أن تبدأ أحداث المسلسل في الرقة وتنتهي في “مخيم روج”، لكن بسبب صعوبات التنفيذ، اضطررنا إلى أن تكون النهاية على حدود الرقة، كان لدي رغبة قوية جداً أن أتعرض لعالم نساء داعش في المخيمات الموجودة حاليا لأنها تمثل خطراً شديداً، فهي معمل لتفريخ أجيال جديدة من النساء والأطفال الموجودين بأفكار داعشية ومتطرفة، في ظل تعقد الوضع القانوني الخاص بهم، ورفض دولهم استقبالهم.” انتهى كلام السيناريست محمد هشام عبيه.

يعيش سكان هذه المخيمات في ظروف قاسية تساعد على زيادة الكراهية تجاه المجتمع والعالم وبالتالي هي قنابل موقوتة وتحدث أعمال قتل بسبب محاولة البعض الخروج من سيطرة الفكر الداعشي، فيكون جزاؤهم القتل وحرق خيامهم، وهذا عالم آخر تماماً كان يتمنى مؤلف المسلسل تناوله، لكن ضيق الوقت حال دون ذلك.

حكاية أميرة المصرية في مخيم روج

في تحقيق جريدة الشرق الأوسط الذي ألهم محمد هشام عبيه، لم نعرف أي تفاصيل عن السيدة المصرية في مخيم روج، لا اسمها ولا عمرها. حاولت البحث أكثر عن الحياة في المخيم، الحياة التي لم يسعف الوقت القائمين عن المسلسل لتصويرها، فوقعت يدي على  قصة  نشرها موقع ” نورث برس“ (وكالة أنباء سورية) في ديسمبر 2021 (عز البرد) لسيدة مصرية تدعى “أميرة محي الدين صادق” تبلغ من العمر 32 عاماً، وتسكن مع طفليها في المخيم، ويعاني أحد أطفالها من الربو والحساسية.

لا أعرف إن كانت أميرة هي نفسها التي تحدثت لصحيفة الشرق الأوسط ورفضت العودة إلى مصر أم لا، لكن الانتهاء بالحياة في خيمة لا تحمي أطفالها من قسوة البرد ولا طفلها المريض بالربو، تكشف لك الجريمة التي ارتكبها تنظيم داعش في حق هذه الأسر مرتين، مرة عندما جندوهم وجردوهم من حياتهم الطبيعية في الرقة، ومرة أخرى بالحياة القاسية الحالية داخل مخيم، ولا يعرف أحد متى ينتهي هذا السيناريو.. هل تكون هناك انفراجة أم سيكون بطلوع الروح!

 

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن