اليمن يشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم
- جماعة الحوثي منعت حملات التطعيم إبان سيطرتها على السلطة
- وجود متحورات أكثر خطورة من فيروس شلل الأطفال في اليمن
في الثامن عشر من آيار/ مايو 2019، في مرعى على سفح أحد جبال مديرية رازح بمحافظة صعدة شمال اليمن، كانت شمس الظهيرة تلفح وجه الطفل هاشم ذو الست سنوات، الذي اعتاد على الخروج يوميًا لرعي الأغنام برفقة شقيقته زينب التي تكبره بعامين، وفي طريق العودة إلى المنزل أحس هاشم بإعياء وألم في كامل جسده، مضت تلك الليلة كالكابوس على هاشم الذي كان يتلوى من الألم، وعند الصباح لم يستطع القيام من فراشه.
بنظراتٍ حزينة تطالع والدة هاشم طفلها الذي أصبح على كرسي مُدولب، وهو ينتظر دوره للدخول إلى طبيب العلاج الفيزيائي في “مركز الأطراف” بصنعاء، حيث تأمل والدته بأن يعود طفلها للوقوف من جديد على قدميه النحيلتين.
تقول والدة هاشم: “بعد 3 أيام من المرض والحُمى، أصبح هاشم لا يستطيع الوقوف على قدميه، في بادئ الأمر اعتقدنا أنه يشعر بالإرهاق من المرض، لكنه أخبرنا أنه لم يعد يشعر بـأطرافه السفلية تمامًا، حينها حل الخبر علينا كالصاعقة، ذهبنا به إلى مستشفى الجمهوري في مدينة صعدة، وهناك أخبرنا الدكتور أن هاشم مصاب بفيروس شلل الأطفال، وأن حالته حرجة، وقد لا يستطيع الوقوف على قدميه نهائيًا”.
ما يثير القلق، أن هاشم ليس سوى واحدٍ من أصل 12 طفلًا بمديرية رازح وحدها مصابون بشلل الأطفال، معظمهم من الفئة العمرية 6 – 12 عامًا، بحسب والدة هاشم، في حين يصر والده الذي يدعى محمد حسين، على رفض الاقتناع أن ما يعانيه ولده (هاشم) هو جراء إصابته بفيروس شلل الأطفال، بدافع قناعته المترسخة أن اللقاحات ليست سوى “مؤامرة على المسلمين”، مستشهدًا بأن القدماء من آبائه وأجداده لم يتلقوا أي لقاح، ومع ذلك لم يصابوا بشيء، وهي الدعاية التي تتبناها وتروج لها جماعة الحوثي منذ تأسيسها على يد الزعيم السابق لها حسين الحوثي في العقد الأخير من القرن الماضي.
شلل الأطفال يُهدد أكثر من 5 ملايين طفل
وكانت منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسف قد أصدرتا، عبر مديريهما الإقليمي في شرق المتوسط وشمال أفريقيا د. أحمد المنظري ود. تيد شيبان، في الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2020، بيانًا مشتركًا، أشار إلى وجود موجات تفشٍّ لمرض شلل الأطفال في اليمن، والذي يهدد حياة أكثر من 5 ملايين طفل.
وأكد البيان ترّكُز معظم الحالات في محافظة صعدة، التي تعاني من مستويات منخفضة للغاية من حيث التلقيح الروتيني، مضيفًا: “كان من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، تزويدهم فيها باللقاح الروتيني أو التكميلي ضد شلل الأطفال، وحرمانهم منه لفترات زمنية طويلة” – في إشارة واضحة إلى منع جماعة الحوثي تلقي اللقاحات.
تحريض مُمّنهج وضحايا يدفعون الثمن
مطلع فبراير/ شباط من العام الجاري، في إحدى قُرى محافظة حجة شمال غرب اليمن، أُصيبت أماني عبدالله (4 سنوات) بفيروس شلل الأطفال، الذي أودى بحياتها في غضون أسابيع قليلة من الإصابة به، بعد أن أدخلها غرفة العناية المركزة في مستشفى الثورة بصنعاء، فقد أدى الفيروس إلى توقف العضلات التنفسية عن أداء وظائفها بشكل تام.
بينما ترتسم على وجهه ملامح الحزن، يقول عبدالله والد الطفلة أماني: “لم يتم تحصين أماني منذ ولادتها بأي لقاح، حيث لم تعد تأتي فرق التحصين كما كانت من قبل، وحتى المراكز الصحية أصبحت لا توفر هذه اللقاحات”- مستغربًا من هدف منع جماعة الحوثي لقاحات الأطفال.
نوارة علي – إحدى الصِّحيات في محافظة الحديدة، تسرد لـ “أخبار الآن” مواقف واجهتها أثناء عملها ضمن فرق التحصين المتنقلة في الحديدة: “عندما كنا من قبل نخرج لتحصين الأطفال، كان الناس يتجاوبون معنا ويُخرجون أطفالهم للتحصين، لكن بعد الدعايات والمعلومات المغلوطة التي يروجها مؤخرًا شخصيات معروفة، أصبح تجاوب الناس تجاه تحصين أطفالهم قليلًا جدًا، بل إن بعض الأسر أصبحت تخفي أطفالها منا، وينكرون تمامًا أن لديهم أطفال، إلى درجة أن هناك من باشر الاعتداء علينا بالضرب والشتم”.
جماعة الحوثي إبان سيطرتها على السلطة في اليمن، في سبتمبر 2014، منعت نهائيًا حملات التطعيم بشكل عام في محافظة صعدة، والتي تُعد المعقل الرئيس للجماعة، بالإضافة إلى بعض المحافظات الشمالية، مثل محافظة حجة وعمران، في ظل الترويج الدائم بأن للقاحات آثار سلبية على المجتمع، حيث يردد المدونون الموالون للجماعة، بالإضافة إلى ما يعرف بـ”المشرفين الثقافيين” الذين عينتهم الجماعة في المديريات، شائعات من قبيل “أن اللقاحات صناعات يهودية تهدف إلى تدمير المجتمع”، وأنها “تضعف من القدرة الجنسية لدى الرجال، وتسبب العقم لدى النساء” وقد توسعت تلك الدعاية في عدة محافظات يمنية.
هذه الدعاية الحوثية تجاه اللقاحات، انتشرت بشكل كبير في أوساط المواطنين في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة، ويظهر ذلك جليًا في كمية التعليقات السلبية على منشورات الصفحة الرسمية لمنظمة اليونيسف في اليمن حول لقاح شلل الأطفال، والتي يهاجم فيها رواد المنصات التفاعلية المنظمة واللقاحات، مدعين أن اللقاحات تؤثر على عقول الأطفال حد تعبيرهم، الأمر الذي اضطر المنظمة لحذف بعض المنشورات من صفحتها الرسمية على فيسبوك.
تواصل “مُعد التحقيق” بوزارة الصحة التابعة لجماعة الحوثي، للسؤال عن سبب منع حملات اللقاحات في مناطق سيطرة الجماعة، إلا أن الناطق الرسمي باسم الوزارة الدكتور أنيس الأصبحي رفض الرد على تساؤلاتنا، بعد وعود بالرد على جميع الأسئلة، فيما قال خالد المؤيد – مدير عام الترصد الوبائي في الوزارة، إنه لا صحة للأخبار التي تتحدث عن انتشار فيروس شلل الأطفال في مناطقهم، بينما رفض التصريح بأي شيءٍ آخر، متعذرًا بأنه غير مخول له التصريح للإعلام.
كارثة صحية في الأفق
يرى الدكتور عبدالباسط العراشي – استشاري الأمراض العصبية، أن عودة فيروس شلل الأطفال للانتشار من جديد في اليمن، في ظل تردي الخدمات الصحية، قد ينذر بكارثة صحية يصعب السيطرة عليها، ويأمل أن يتكاتف الجميع لمكافحة الفيروس، كونه يُعد من أخطر فيروسات القرن، ويدعو جميع الأطراف بأن لا يُقحموا أطفال اليمن في الصراع.
في أكتوبر 2020، أعادت وزارة الصحة التابعة لجماعة الحوثي 492 ألف جرعة من لقاح فيروس “الروتا” إلى منظمة يونيسف بحجة أنها غير مطابقة للمواصفات، بعد أكثر من 3 أشهر من تاريخ استلام اللقاحات، وفي ذات اليوم أصدرت اليونيسف بيانًا تقول فيه “لقاحات الروتا التي تم إعادتها من اليمن قد سبق تقييمها ووجد أنها صالحة للاستخدام خلال العمر الافتراضي للقاح (حتى أغسطس 2021)”.
من ناحيته قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إنه تم رصد أكثر من 15 حالة إصابة بفيروس شلل الأطفال في مديريات متفرقة من محافظة صعدة، وذلك في الأسابيع الأولى من أغسطس 2020، وفي مطلع ديسمبر 2021، أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانًا، حذرت فيه من عودة تفشي فيروس شلل الأطفال في اليمن، وقال البيان إن المنظمة رصدت أكثر من 50 حالة إصابة مؤكدة بالفيروس، وذلك خلال الفترة 2019-2021، معربة عن قلقها إزاء ارتفاع حالات الإصابة، والتفشي السريع للفيروس.
حاول مُعد التحقيق التواصل مع الدكتور أدهم عبدالمنعم – ممثل منظمة الصحة العالمية في اليمن عبر البريد المُسجل، للسؤال عن المستجدات فيما يخص تفشي فيروس شلل الأطفال في مناطق سيطرة جماعة الحوثي، إلا أنه تجاهل الرد بالرغم من قراءته البريد الإلكتروني، الأمر ذاته تكرر مع ممثل يونيسف باليمن.
متحورات أكثر خطورة
يقول الدكتور محمد مصطفي – مدير قطاع الرعاية الصحية في وزارة الصحة التابعة للحكومة الشرعية لـ”أخبار الآن”: “ما يحصل من تفشي للفيروس في محافظة صعدة خصوصًا، هو بسبب أن جماعة الحوثي تمنع تنفيذ حملات اللقاح من 2005 لأسباب عقائدية، حيث رصدت منظمة الصحة العالمية 15 حالة إصابة بالفيروس في صعدة فقط خلال 2019 وأعلنت عن تفشي الفيروس في مناطق سيطرة الحوثيين، أما بالنسبة للمناطق والمحافظات التابعة للحكومة الشرعية، فقد ظهرت أول حالة إصابة بشلل الأطفال في مديرية ذوباب في المخا، كانت طفلة قادمة من مناطق سيطرة الحوثيين في 30 أغسطس 2021، حيث كان أول ظهور لمتحور (cVDPV2) في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وقمنا بالتجاوب بسرعة مع هذا الأمر، حيث تم تنفيذ 3 حملات لتحصين الأطفال في كل هذه المناطق”.
ويشير مصطفى إلى وجود متحورات أكثر خطورة من فيروس شلل الأطفال في اليمن: “حاليًا هناك 3 متحورات أو أنماط لفيروس شلل الأطفال في مناطق سيطرة الحوثيين وهو (cVDPV1) و(cVDPV2) و(cVDPV2s)، بينما في المناطق المحررة هناك نمط واحد وهو (cVDPV1) وذلك نتيجة حملات التحصين المستمرة، وتحصين الأطفال بالمطعوم الثلاثي”.
من جهته اتهم وزير الصحة التابع للحكومة الشرعية الدكتور قاسم بحيبح، جماعة الحوثي بالتسبب في عودة انتشار فيروس شلل الأطفال في اليمن، ويقول لـ “أخبار الآن”: “نعلم من التجربة العامة أنه عند ظهور حالة واحدة مصابة بفيروس شلل الأطفال، فهذا مؤشر بأن هناك بالفعل العشرات أو المئات من المصابين”. معبرًا عن قلقه أن الأعداد والحالات المؤكدة حتى الآن بلغت 113، إلا أن ذلك يشكل قمة جبل الجليد فقط ويدل على وجود حالات أخرى”.
وأشار إلى أن معظم هذه الحالات تركزت في كلٍ من محافظات (صعدة، الحديدة، البيضاء والجوف)، حيث تخضع هذه المحافظات لسيطرة جماعة الحوثي، موضحًا أن اللقاح الخاص بفيروس شلل الأطفال، موجود لدى جماعة الحوثي منذ فبراير الماضي، ولكنهم يرفضوا التعاون أو التجاوب مع منظمة الصحة العالمية واليونيسف، في البدء بتنفيذ حملات التحصين حتى اللحظة.
وأضاف: “لابد أن يعلم الجميع أن الفيروس لم يكن موجودًا في اليمن منذ عام 2009، وكان ذلك بفضل الكثير من الجهود التي بذلتها الدولة والمنظمات الدولية والجهات المانحة، من خلال حملات التطعيم الروتينية التي شملت جميع محافظات اليمن خلال العقود الماضية للتخلص منه، ولكن عودة انتشار شلل الأطفال مرة أخرى في عام 2020، أنهى كل الجهود التي بُذلت في العقود الماضية، ولابد أن يغلب الحوثيون مصلحة المجتمع ومصلحة أطفال اليمن، وأن يعلموا بأن الجيل القادم مهدد بالخطر بسبب فيروس يمكن الوقاية منه باللقاح”.
وانضم اليمن إلى المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال عام 1988، والتي تستهدف 200 بلد حول العالم، وتُعد اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية من أبرز الشركاء في المبادرة، حيث تدير اليونيسف عملية شراء وتوزيع أكثر من بليون جرعة من اللقاح المضاد لشلل الأطفال سنويًا، وتعمل على شراء اللقاح نيابة عن الحكومات الوطنية، والمبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال، من أجل ضمان كفاية الإمدادات والحصول على أسعار تنافسية للتحصين الروتيني وحملات التحصين.
وبحسب وزارة الصحة اليمنية، فإن اليمن يستقبل من 2 – 4 مليون جرعة لقاح سنويًا من حلف اللقاح العالمي، تتنوع ما بين لقاحات شلل الأطفال والحصبة والحصبة الألمانية، إلا أن الكمية تضاعفت منذ اندلاع الحرب بسبب عودة انتشار بعض الأوبئة، وبحسب اليونيسف فقد بلغ إجمالي عدد اللقاحات التي تم إعطاؤها للأطفال 19، 992، 050 جرعة خلال عامي 2020 و2021.
عرابو نظرية المؤامرة
لم تأتِ الدعاية الحوثية من فراغ، بل إن ذلك نتاج قناعة تامة لدى القيادة الحوثية بنظرية المؤامرة، حيث ظهر عبدالملك الحوثي – زعيم الجماعة في خطابٍ متلفز له في آذار/ مارس 2020، ليتحدث عن فيروس كورونا covid-19، قائلًا “إن الفيروسات والأوبئة هي حرب بيولوجية، تصنعها الدول المتطورة في معامل بإمكانيات عالية، من فيروسات وجراثيم، وهناك دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لاستغلال هذه الفيروسات والاستفادة منها للفتك بالبشر وإلحاق الضرر بدول ومجتمعات” حسب قوله.
وعقب تصفيتهم لحليفهم السابق، الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، سعت جماعة الحوثي للسيطرة على وزارة الصحة بكل الأشكال، حيث قام مهدي المشاط – رئيس ما يُسمى بالمجلس السياسي الأعلى التابع للجماعة، بتعيين رجل الدين في جماعة الحوثي طه المتوكل وزيرًا للصحة، والذي بدأ بإقصاء الكفاءات الإدارية والمهنية، وعيّن آخرين موالين له ولجماعته منذ اليوم الأول له في الوزارة.
وبالرغم من أن وزارة الصحة ليست سيادية مثل وزارات المالية والدفاع والداخلية، إلا أن الجماعة كانت تسعى للسيطرة عليها، لا سيما أنه خلال الأعوام الماضية كانت أموال المنظمات الدولية تتدفق إليها، فأموال المنظمات الدولية تصل إليها بشكل مستمر دعما للقطاع الصحي.
يمر هذا العام الثامن للصراع اليمني، الذي اندلع في آذار/ مارس 2015 إبان انقلاب جماعة الحوثي على الرئيس عبد ربه منصور هادي، وسيطرتها على السلطة السياسية والعسكرية في البلاد، حينها أعلنت المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج والدول العربية، إنشاء تحالف عسكري عربي لإعادة الشرعية في اليمن وإنهاء الانقلاب.
وبحسب الأمم المتحدة فإن الصراع في اليمن، أنتج أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تشير الإحصائيات أن هذه الحرب خلفت أكثر من 300 ألف قتيل، و700 ألف جريح ومُعاق، و4 ملايين شخص شُردوا من منازلهم، وأن هناك أكثر من 2 مليون يمني مهددين بخطر المجاعة.