أخبار الآن | غازي عنتاب – تركيا (ميساء الحمادي)
يعيش أطفال سورية في تركيا وسط جملة من الإشكاليات التي باتت تسم شخصياتهم بفعل الآثار المتعددة للحرب والعنف. وتعاني فئة الأطفال حتى عمر الخامسة من صعوبات في التعلم تُضاف على صعوبات التكيّف والتواصل وغيرها.
وبالرغم من بعض النشاطات التي تقوم بها المنظمات والمؤسسات المعنية بالأطفال، محلية ودولية، إلا أن برامجها يبدو أنها لم تأت بنتيجة تُذكر.
وتتوجه الأنظار دائما إلى المؤسسات التعليمية والتربوية السورية في تركيا، خاصة رياض الأطفال للمرحلة العمرية المبكرة، والدور الذي تقوم به على الجانين التعليمي والتأهيلي بعد الصور المشوهة عن الوطن التي تستوطن ذاكرتهم، والدمار والخراب والتشويش حول معنى سورية في نفوسهم.
مشكلات نفسية واجتماعية
وللاطلاع على آلية عمل وبرامج هذه المؤسسات قمنا بزيارة نماذج من رياض الأطفال السورية في مدينة "غازي عنتاب"، (لن نذكر الأسماء بشكل صريح).
عند دخولنا مدرسة "أ" لنلتقي مديرتها، تفاجئنا بأعداد كبيرة لأطفال قدموا إلى المدرسة لتعلم النطق فقط. وقد أرجعت المديرة "د" سبب الحالة إلى ضعف التواصل الاجتماعي الذي بات مقتصرا على الأجهزة الالكترونية من قبل الأهالي، وهو ما يعني غياب اهتمام الوالدين بأطفالهم الأمر الذي انعكس في مستوى العلاقة بين الطفل وقلة استجابة أبويه لمطالبه العاطفية قبل كل شيء.
الطفل "عمر" كان ممثلا لهذه الحالة، فقد كان يرفض الذهاب إلى المنزل لأنه "يكره" أمه ويريد أن يمتلك سلاحا ليقتلها، وعندما بحثنا عن السبب كانت المفاجأة فهي تقضي معظم وقتها شاردة الذهن وفي يدها هاتفها المحمول .
ويبدو أن ردة أفعال الأطفال لا تزال مرتبطة باستجابات العنف، وهو ربما بسبب أجواء القتل والدمار والعنف المصاحب لأي حديث يتناول سورية. الطفل "جواد" مثلا يهدد رفاقه الأطفال دائما بإحضار مسدس والده لاستعادة اللعب التي أخذها الأطفال منه.
وعندما سألنا عن المختص النفسي والاجتماعي أجابتنا: "لا يوجد مصاريف لتعيين مختصين، تقوم المدرسات بذلك". لكن المدرسات أيضا هن غير مختصات ويعتمد تعينهن على العلاقات والأقارب، كصورة مستنسخة عن سوء العمل والفساد في مؤسسات النظام.
في روضة أخرى "س"، تحدثنا مديرتها عن مشكلة أكبر وأعمق: "انعدام الاستقرار والإحساس بالأمان، فدائما ما يتخذ الطفل لنفسه ركنا خاصا ويحدده بألعابه ليسميه بيته، لأنه يعرف أن بيته الذي يقيم فيه ليس ملكا لوالده بل لصاحبه التركي الذي يأتي دائما لأخذ الإيجار. وغالبا ما يراه الطفل فيولّد في نفسه حقدا عليه وأنه سبب في عدم استقراره" .
وتتطور مشكلات البقية من الأطفال لتتداخل مع المشاكل الاقتصادية للأهل، فبات طفل السادسة مدركا تماما ما تعنيه فاتورة الكهرباء أو الماء بينما كانت كل هذه التفاصيل غائبة تماما عن نظره وتفكيره .
تنوه إحدى المعلمات الموجودات إلى تغير مفاهيم ومعاني الأشياء المحيطة بالطفل بفعل الحرب، فتقول: "كانت الطائرة فيما مضى رمزا للفرح، إذ كان الأطفال يتسابقون للحاق بها. الآن باتت رمزا للدمار والهلاك فكل طائرة تأتي سوف ترمي شيئا يقتلهم ليختبئوا فجأة تحت مقاعدهم" .
أما مشكلة "هادي" كانت هي الاجتماع مع عدد كبير من الأطفال في مكان واحد. فقد قضى سنتين في تركيا وله صديق واحد فقط لا يعلم أصلا كيف يكون هناك عدد كبير من الأطفال يلعبون سويا. وعندما يصرخون ويلعبون يخرج مسرعا رافضا الانضمام إليهم .
أما ما تفعل تلك المعلمات حيال هذه المشكلة وغيرها، فالجواب هو: "لاشيء".
تعليم .. وتجارة
لا تقتصر حالة الاستسهال في التعامل مع الأطفال على الجانب النفسي والاجتماعي، فالتعليم أيضا له نصيب من الإهمال. معظم المدرسات هن من الحاصلات على الشهادة الثانوية، وفي بعض رياض الأطفال من لم تنلها. وهو ربما السبب في فشل روضة "سراج" وإغلاقها. فقد فشلت في كسب ثقة الأهالي في الحد الأدنى من التعليم. وهذا حال عدد من الرياض التي مررنا عليها مع بداية الفصل الدراسي الجديد، إذ أصبحت رياض الأطفال موجودة على شكل مشاريع تجارية استثمارية وفرصة لباب جديد للكسب المادي.
ما يلفت الانتباه أيضا تلك الأسعار المبالغ فيها كأقساط للأطفال، فغالبية الأسر السورية هنا تحاول تأمين احتياجاتها الرئيسية، فيكون القسط هو بين (300-400) ليرة تركية، بينما القسط في رياض الأطفال التركية (80) ليرة متضمنة باص النقل والوجبة الرئيسية المغلفة الصحية.
تقول "عبير": "ابنتي في روضة تركية للسنة الثانية، هنا تعليم واهتمام كبير بقواعد التربية وتعليم الطفل على نظام حياتي وتعامل الطفل مع محيطه بشكل حضاري، ويكفي أنها تتعلم لغة جديدة" وتتابع: "سجلتها قبل ذلك في روضة سورية، لم أستطع تحمل الإهمال وعدم الجدية وأساليب التربية التقليدية. لقد كانت مكانا يجمع الأطفال للعب فقط دون اكتراث بأي جانب تأهيلي أو تعليمي".
تقارير وبرامج
قدّرت التقارير الصادرة من منظمة اليونسيف حول سوريا عدد الأطفال السوريين بمليوني طفل متضرر من الحرب. لكن تلك التقارير ارتكزت إلى وضع الأطفال الذين عاشوا الحرب وكوارثها داخل بلدهم وأكثر من مليون طفل لاجئ في مخيمات مختلفة في دول متفرقة. أما هذه الحالات التي نراها يوميا فهي تعد وفق معاييرهم أنها خرجت سالمة دون أضرار جسدية ونفسية.
إن هذه الظواهر والحالات ليست إلا إنذارا لوجود جيل جديد في المستقبل غير قادر على التكيّف في أي مكان ويعاني من مشكلات اجتماعية شتى تستدعي وضع برامج وطنية من مؤسسات معنية بالشأن.
تقول "سيرين" المرشدة النفسية في عنتاب: "رفعنا عدة تقارير وخطط وبرامج أنا وزملاء لي إلى المعنيين والمهتمين لكننا لم نجد الاستجابة أبدا. نحن نعتمد على مبادرات شخصية ونحاول تأسيس مركز أهلي يساهم في تخفيف الآثار النفسية الكبيرة للحرب على أطفالنا".