أخبار الآن | الرقة – سوريا – (عزام الحاج)

قبل بضعة أيام طرح أحد القضاة السابقين، في صفحته على الفيسبوك، مسألة غاية في الأهمية في ما يخص السجلات المدنية السورية من خلال طرحه لحادثة تجري بشكل يومي تقريباً. والحادثة ببساطة أن لواء ثوار الرقة، الذي يسيطر على جزء من ريف الرقة الشمالي، اعتقل ثلاثة مراهقين- كلهم بعمر 15 عاماً- لأنهم لا يحملون بطاقات هوية؛ وبقوا رهن الاعتقال لمدة أربعة أيام تعرضوا خلالها للتعذيب.

وبينما تنص القوانين السورية على وجوب أن يستخرج كل مواطن بطاقة هويته عند بلوغة سن 14 عاماً، فإن ملايين السوريين في مناطق سيطرة الميلشيات المتصارعة لا يجدون اليوم سبيلاً للحصول على بطاقات هوياتهم أو تسجيل مواليدهم أو عقود زواجهم أو شهادات وفاة لموتاهم بسبب فشل مؤسسة السجل المدني في الاستمرار بعملها بعد انحسار سيطرة النظام عن معظم الأراضي السورية.

سجلات مدينة ضائعة

هذه الحادثة تفتح أيضاً موضوعاً أكثر اتساعاً في هذا المجال هو تسجيل الوقوعات وما يستتبعها من أحوال مدنية تمس الحياة اليومية للمواطنين السوريين مثل حقوق الإرث والملكية والحركة والتنقل وما سواها.

يُعرِّف قانون الأحوال المدنية السوري، الصادر بموجب المرسوم التشريعي رقم ٢٦ لعام ٢٠٠٧ الواقعة، بأنها "كل حادثة أحوال مدنية من ولادة أو وفاة أو زواج أو طلاق وما يتفرع عنها". وبما أن معظم الأراضي السورية اليوم تقع خارج سيطرة السلطة المركزية ومؤسساتها المدنية والقانونية، فإن ثمة فوضى قانونية وإدارية في هذا المجال تطال كل المواطنين المُخضعين لسلطات الأمر الواقع المتعددة والمتنوعة المشارب.

ويزداد الأمر سوءاً عند ملاحظة أن مؤسسات الدولة قاطبة كانت "مُبعثنة"، أي أن موظفيها هم في الغالب أعضاء في حزب البعث، وتالياً فإن ولاءهم للنظام السياسي يتغلب على ولاءهم للمجتمع والدولة بوصفها مؤسسات.

وتصبح الحال أشد قتامة في محافظة الرقة وبلداتها وقراها، حيث تتقاسم ثلاث قوى أساسية السيطرة عليها. فبينما يسيطر "داعش" على المدينة وأريافها الغربية والشرقية وباديتها الجنوبية، يتقاسم كل من لواء ثوار الرقة ووحدات PYD الريف الشمالي المحاذي للحدود السورية التركية.

"ملتاصة" .. ضياع السجلات المدينة للرقاويين

المحامي "أكرم دادا" من منطقة تل أبيض، يختصر وصفه للحال بكلمة "ملتاصة"، للإشارة إلى هذه الفوضى. لكنه يرى أن الأمور أدهى وأمرّ في هذه اللحظة لأن التنقل من قرية لأخرى أو من بلدة لأخرى متعذر ومحفوف بالمخاطر ويتطلب موافقات من قوى الأمر الواقع. إذ أن انتقال شخص سجله المدني مقيد في سلوك، حسب بطاقة الهوية، إلى تل أبيض مثلاً، يتطلب موافقة ما يُسمى بـ"دار الشعب" التابعة للإدارة الذاتية الكردية، لأن الهاجس "العسكري والأمني" الخاص بـ"قوات حماية الشعب" هو الأساس. ويضيف أن هذه الإدارة تنقصها الكوادر البشرية المؤهلة؛ وكل ما حققته هذه الإدارة منذ استيلائها على تل أبيض هو تشغيل المشفى الوطني حيث تمنح "بيان ولادة" وحسب للمواليد الجُدد.

إلا أن المحامي والحقوقي "أنور الخضر" يرى أن المسألة في جوهرها سياسية، فقوات "حماية الشعب" الكردية تريد إحياء مؤسسات النظام القديمة ولذلك فإنها تستعين بالموظفين البعثيين القدامى، وتالياً فإن بمقدورها تنظيم السجلات المدنية نظرياً، فهل ترغب بذلك فعلياً؟.

والحال لا يختلف كثيراً في نتائجه في المناطق الخاضعة لـ "داعش". فالهاجس الأمني المستحكم بذهنه ورغبته في تقديم نفسه بديلاً محتملاً للنظام إضافة إلى رغبته في التحكم الشمولي بمفاصل المجتمع وحياة الناس كافة دفعته إلى استبقاء معظم الكوادر البشرية العاملة أصلاً في مؤسسات النظام السابق، على أن يحولوا ولاءهم السياسي له. وبهذا تمكّن "داعش" من إصدار وثائق وشهادات وبيانات في العديد من الميادين الحياتية اليومية للناس.

بين "داعش" وقوات PYD

لكن تلك الوثائق سرعان ما تحولت إلى أدلة إدانة لحامليها، وهذا ما جرى مع السيد "إبراهيم الشاهين"، من إحدى القرى الصغيرة في منطقة تل أبيض.

فالسيد الشاهين كان يحمل شهادة ملكية وقيادة دراجة نارية صادرة عن "داعش"، وبعد اندحاره وانكفائه جنوباً تحت الضربات الجوية لقوات التحالف اعتقله أحد حواجز قوات PYD حال سيطرتها على المنطقة منتصف حزيران الماضي بتهمة مناصرة "داعش" الإرهابي، بدليل حيازته شهادة قيادة الدراجة النارية، وما يزال رهن الاعتقال حتى هذه اللحظة.

ما من شك أن "اللوصة" التي أشار إليها السيد دادا هي التعبير الأمثل للدلالة على مظاهر "فشل الدولة" واخفاق مؤسساتها في الاستمرار بمعزل عن النظام السياسي المتداعي، لكنها التعبير الأبلغ أيضاً عن فشل قوى الأمر الواقع في توفير الحد الأدنى من التنظيم الإداري والقانوني في مناطق نفوذها، وهي فوق هذا كله تحدي كبير يواجه الثورة والثوار يدعوهم إلى التفكير في إعادة بناء الدولة بالتزامن مع إسقاط النظام وملحقاته.