أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة – (نسرين طرابلسي)
في الدراما التلفزيونية أتابع الكاتب عادة، فهذا مسلسل لمحفوظ عبد الرحمن وذاك لممدوح حمادة ونص لدلع الرحبي مثلا، فلكي يكون لدي الصبر لثلاثين حلقة يجب أن تكون الكتابة جيدة ومليئة بالذرى والتشويق والفكر، في الدراما السينمائية أتابع المخرج من أجل كلام قليل وصورة بصرية جاذبة حافلة بالرموز تؤدي للمعنى الأعمق، لذا حفظت أسماء فلليني وسبيلبيرغ ورومان بولانسكي.
المشاهد العادي في السينما والتلفزيون يتابع النجم الممثل، من هنا ظهرت مصطلحات مثل نجم يستطيع أن يحمل مسلسلا أو نجم شباك. لكن الدراما السورية بالنسبة لنا كسرت هذه القواعد، فصارت البطولات جماعية، ومسلسل يخرجه حاتم علي أو رشا شربتجي له طعم آخر. حين تنجح دراما في جعلك تتابعها من أجل الكاتب والمخرج والممثل معا فهذا يعني أننا حتما أمام عمل جاد يفهم أبعاد الدراما ووظيفتها ومهمتها ضمن شرط الظروف الشائكة المربكة وسيكولوجية المشاهد التي باتت أكثر تعقيدا أحياناً وأكثر سطحية غالباً.
مسلسل غداً نلتقي بالنسبة لي حقق المعادلة الصعبة. فهو يتوجه أولا لجمهور منقسم حتى ضمن العائلة الواحدة بين مؤيد ومعارض لكل شيء، ابتداء من نظام الحكم في سوريا وليس انتهاء بتصنيف الموت بين قتيل أم شهيد! ثم يتوجه لقاعدة عريضة من الجمهور العربي، الذي لم يفهم أغلبه بعد ما الذي يحدث بالضبط في سوريا، حيث تلعب به مصطلحات نشرات الأخبار بين عبارتي ثورة وحرب أهلية، بين مؤامرة كونية وطائفية، ثم على العمل أن يحقق نسبة مشاهدة في سوق الدراما الرمضانية، حيث يختلط الغث بالسمين ويصبح رهنا للمزاج العام الكسول والمتطرف في آن.
تعلمنا في المعهد العالي للفنون المسرحية أن الكوميديا الهزلية تزدهر في أوقات الحروب. يبدو أنه لم يتغير الشيء الكثير من أيام الرومان فيما يتعلق بالذائقة الشعبية وبطريقة تفكير تجار المهنة. لذا أكل رامز جلال الجو، بالذهاب للأقصى ودغدغة رغبات جديدة اكتشفناها عند الجمهور الكريم ألا وهي التشفي والسادية. مثل مصارعة الإنسان مع حيوان كاسر وجائع في استوديوم ممتلئ بالمهللين.
السخرية تمنع الحقد، هكذا قال لي إياد أبو الشامات عندما قابلته في لقاء إذاعي قبل رمضان.
لكن طيلة متابعتي للمسلسل كان هناك سواد ومرار يعبر شفيفا في الروح مثل نصل حاد ورحيم، مثل دبوس يخترق ببطء بالوناً منفوخاً بدون أن يفقعه. يا للخدعة، لم أجد أثرا للسخرية يا إياد!
كان التحدي الشجاع الذي خاضه فريق عمل غداً نلتقي أكبر من المعتاد. فلم يعتمد على العناتر والعبارات الطنانة لا عكيد ولا مخترة. لم يهرب إلى الفانتازيا أو التاريخ، لم يتخف وراء التابوهات الممنوعة ليداعب غرائز المشاهدين بعد فترة صيام طويلة آخر النهار، وعلى الرغم من العفوية التي طبعت المسلسل يبدو كل شيء فيه مدروساً لخدمة الواقع. لتناول شريحة تحتل عناوين الأخبار ويتصور معها المشاهير، ويكتب عنها المقالات، وتذرف عليها الدموع، لكن أحدا لا يفكر فيها وبمعاناتها بعمق بعد انقضاء المناسبة. تَمْسحنا وربما اعتدنا، مثلما نعتاد الألم المزمن مع مرور الوقت وننسى كيف يكون الشعور بلا ألم.
بدأ مشروع الثلاثي إياد أبو الشامات ورامي حنا وكاريس بشار مثل خلطة سرية لنكهة مميزة، منذ مسلسل زهرة النرجس 2008 وعلى قيد الحياة 2009، ولم يحظيا برأيي بالمتابعة الجماهيرية الكافية لعرضهما على قناة (مشفرة) آنذاك. وثمة شاعر إسمه رامي حنا يصوغ قصائده بالكاميرا، بمشاهد هادئة وبطيئة من دون أن تصيبك بالملل، ويجيد مزج الموسيقى بالصورة والقليل من الكلام ليتسلل مابين الجلد واللحم ويرفع الشخصيات دوما أعلى ببضعة سنتمترات من الأرض بعد أن يمرغها بالواقع.
اللاجؤون السوريون في لبنان، هل هذا هو موضوع المسلسل حقاً؟!
لنبتعد بضعة خطوات عن العمل ونقول كل ماورد في المسلسل من أحداث وشخصيات هو مما كان يحدث ويحدث وسيحدث كل يوم. لكن الحرب تجعل من الجميع ضحايا ويصبح كل شيء أكثر إيلاما. الفقر والحب والوحدة والغربة والجنون والقسوة والتعاطف والشعر حتى المرض الأكثر شيوعاً (السكري) يصبح أكثر إيلاما. كل شيء يبدو متطرفا أكثر، كل شيء على شفا الموت بلحظة وفي أخرى على شفا الحياة، تناقضات حادة في التفصيل الواحد، ضحكة وردة ودمعتها، مهنتها كمغسلة موتى وشكلها الجميل كزهرة ندية، رقصتها وعرجتها، عطاؤها وعازتها، عفتها وبيعها لنفسها.
بالتدرج السلس في وعورة النفس والروح يصبح كل ماكان يمكن أن يُدان عادةً منطقياً. يسلبك الموقف، تصبح بلا موقف وأنت تتفرج على حقيقة الإنسان. كل الشخصيات مثالية بعيوبها ومثالية في حسناتها. من يستطيع أن ينكر على شخصية مبنية بكل هذه العناية مثل الشاعر محمود أقوالها وأفعالها. أصلا أي محاولة درامية لجعل المعارض أفضل بقليل كانت ستهدم العمل وتصنع فيه رقعة نافرة، أي محاولة درامية لجعل الموالي أسوأ مما بدا كانت ستثقب رئة العمل.
كنت أنتظر زلة كلما توغل العمل، كنت أقول في هذه الحلقة سيفلت منهم الإيقاع، الآن سيتعبون، لكن العمل بقي رغم كل التشويش والفوضى متوازنا.
خمس سنوات من المراقبة كانت كفيلة ليتشرب الكاتب عبثية مايحدث. من دون أن يضطر للتحايل على الواقع، سألت إياد أبو الشامات هل درست أحوال اللاجئين أو زرتهم لتنهل من حكاياتهم، فأجاب بصدق لا. عرفت لاحقا أثناء متابعتي للعمل كم هو صادق وغير صادم. المسلسل برأيي كان أشبه بعملية تغسيل الميت، لحظات حقيقة سافرة لا أحد يستطيع أن يقول حيالها إلا: مابتجوز علينا إلا الرحمة.
في المسلسل رأينا الدمار الذي حل ببلدنا بلا مشهد واحد للمدن المدمرة، ورأينا الديكتاتور متجسدا بدون صورة واحدة لبشار الأسد، ورأينا تخبط المعارضة بلا مشهد لمؤتمر واحد، ورأينا داعش بلا قطع ولا رأس، شفنا التعفيش والدعس والحواجز والبراميل والتضليل الاعلامي وفضيحة المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية والإنسانية …
رأينا النتيجة فتكشف السبب، وعرفنا الحيف الذي يمر به أهلنا اللاجؤون بلا وجود شخصية واحدة متكاملة من البلد المضيف، سائق تاكسي عابر وزوج والدة غيفارا وعبارة خاطفة بأن أهل لبنان لا يعثرون على فرصة عمل فكيف بالسوريين، كانت كافية للإدانة والتبرير. شاهدنا الأرواح الممزقة فعرفنا أصل الحكاية. لا يمكن أن ينتج إنسان مشوه الروح إلا دماراً. نفس الشخصيات بلحظة معها حق وبلحظة أخرى مامعها حق. بلحظة تتمنى التخلص منها وبلحظة تبكيها. إن هذا العمل يشبهنا، لم يكذب علينا لذا فهمناه وأحببناه وشكرناه.
دوما يتحدث النقاد عن احترام عقلية المشاهد. ولنعتبر هذا المسلسل نموذجا يحترم عقلية المشاهد. لم يدع صانعوه يوما موقفاً سياسياً أكبر منهم. مسلسل رمادي؟؟ أجل مثل الواقع تماماً. إضاءة خافتة، كهرباء مقطوعة، مسحة كآبة موحدة. الأمكنة محدودة، والنقلات مع مشاهد تجوال وردة بباريس كانت من الذكاء بحيث طمأنت وأقلقت بذات الوقت. أعطتنا النهاية بدون أن تفقدنا رغبة معرفة كيف سارت الأحداث، هنالك ضوء وإشراق وأمل ولكن ليس هنا بل هناك. لم يضحك صناع العمل علينا. قالوا لنا إنك ربما تسافر وتحصل على جنسية وباسبور ومع ذلك ترغب بالموت مثل رشيد الذي لعب دوره رامي حنا.
أعاد لنا المسلسل نجوم الدراما بعد أن شردهم الداء التركي في مسلسلات ممطوطة، فعاد مكسيم خليل بشخصية تثق بأبعادها، بعد أن كاد التمثيل مع سيرين عبد النور يحوله إلى مجرد عارض وسيم للأزياء يمر في بعض المشاهد ملوحاً *ببطولة مطلقة!*
أثبت لنا العمل أن الممثلة ضحى الدبس سيدة جميلة جدا بلا نفخ ولا رموش اصطناعية بأداء وانفعال وحس عالي ورفيع، وكافأنا بظهور منى واصف بمشهد واحد يذكر بأعمال عالمية سخية قد يؤدي بها آل باتشينو دورا صغيراً.
محمد حداقي بشخصية مركبة وأداء مذهل، خضع لتربية تسلطية ظالمة. وانتهى مجرماً قاتلاً لا يجرؤ على رفع عينه بمن ظلمه، أليست هذه ترجمة حرفية لمتلازمة ستوكهولم؟؟
قدم لنا العمل (نصا إخراجا وأداءاً) متسقاً من البداية حتى النهاية، قصيدة شعر حزينة، مجردة من كل المحسنات البلاغية، ومن كل مبالغات اللغة البصرية، مسلسل لا يوجد فيه منظر طبيعي سياحي ولا مائدة طعام عامرة ولا عنتريات الزعامات الفارغة ولا فستان واحد مغري ولا شقفة لحم أبيض ولا حفلة عرس لتقطيع الوقت.
مسلسل غدا نلتقي عمل ستحاسبون على مقاسه لا حقاً. ولن نقبل منكم أقل منه في القادم من الإبداع.