أخبار الآن | دمشق – سوريا – (قيس الدمشقي)
عند زيارتي لدمشق بعد سنتين من الثورة.. كنت أتوقع أن أرى تلك الحواجز الأمنية العسكرية المنتشرة في العاصمة، فهذا أمر طبيعي ومفردة اعتيادية من مفردات الحرب.
لكن ما لفت انتباهي هو أن معظم العناصر وشموا على زنودهم تلك الرموز الطائفية من صور الحسين ومقام الإمام علي في النجف، وكلمة يازينب، وياعلي .. وغيرها من الكلمات والعبارات.
فكرت للحظة، فقلت في نفسي: شئنا أم أبينا فإن ثمة فرز طائفي بين علوي وسني في هذا البلد حاليا، وما كان ممنوعا من مظاهر طائفية سابقا أصبح اليوم متاحا لكل من يقف مع النظام.
إلى أن بدد حاجز وسط أحياء دمشق القديمة بالقرب من المسجد الأموي كل تبريراتي التي أحاول من خلالها أن أقنع نفسي بأن مدينة الياسمين مريضة ولم تمت.. حيث ما بارح خيالي ذلك العنصر الذي تفضحه ملامحه الفارسية التي يحاول إخفاءها بعباراته العربية المكسرة وقد وضع خاتما في اصبعه يحمل صورة الخيمني.. وتتصدر الحاجز صور للخامنئي وحسن نصر الله على خلفية كربلاء، وقد كتب تحتها (وعدنا صادق .. لبيك يازينب).
فيما كان بعض العناصر يأكلون المناقيش الدمشقية (فطائر) من محل قريب وهم يتكلمون تلك اللهجة اللبنانية الثقيلة، واضعين شارة على أيديهم اليمنى مكتوب عليها.. الوفاء للمقاومة، وهي كتلة حزب الله.
أدركت حينها بأن كل ما رأيته عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كان نقطة في بحر إلباس دمشق عمامة إيرانية شيعية.. وكأنني أمشي في شوارع طهران أو الضاحية الجنوبية معقل حزب الله في لبنان.
عدت إلى المنزل بحرقة العاشق الذي شاهد اغتصاب حبيبته بأم عينه ولم يستطع أن يفعل شيئا.. قررت العودة ومتابعة الأمر ونقل تلك الصورة استعانة بعيني وقلمي كصحفي لطالما أعد وثائقيات عن حضارة دمشق وأسواق دمشق وزينة دمشق ومساجد دمشق وشعب دمشق.
مصرا على عدم ترك "جلّق الشام" وحيدة في محنتها.. فكانت أولى قراراتي بأن التزم بيتي فيها إلى الابد. لا أهجره ولا أهجرها فأترك فراغا مهما كان صغيرا يستغله الإيرانيون وأعوانهم.
وفي اليوم التالي نزلت إلى دمشق. باحثا في عراقتها وتاريخها المجسد بأيقونات لا يمكن لأحد أن يعبث بها. من سوق الحميدية إلى قصر العظم إلى الجامع الأموي وكنيسة حنانيا والعصرونية وسوق الست ومدحت باشا والقيمرية وغيرها من المعالم. لعلي أنفض بقلمي بعض غبار التشويه عن دمشقي.
وكم حز في نفسي أن أرى الرموز الطائفية تباع في محالها. وعلى بعد 10 خطوات من الجامع الأموي. كان هناك رسام يجلس بالقرب من حمام الجامع يرسم صورة من يرغب مقابل أجر مالي محدد.. ولكن الحائط الذي خلفه قد غزته صور رسمها للخامنئي والخميني ونصر الله. وصورة للرئيس الايراني السابق أحمدي نجاد وغيرها من الصور.. حتى بشار الأسد كانت له صورة واحدة تجمعه بنصر الله والخميني على خلفية المسجد الأقصى.
زاد الوجع فقررت أن أجلس في مقهى دمشقي قريب أرتشف فنجان قهوة.. وكان في مقابله محل لصنع الحلويات الشرقية التي تشتهر بها دمشق. وماهي إلا دقيقة واحدة حتى ركزت أذناي بالأناشيد التي يضعها. فإذا بها عبارة عن أناشيد مجالس العزاء الشيعية.
يالها من صدمة. كل شيء يحاصرني هنا، ماذا حل بدمشق!؟
وبعد أيام وبينما كنت أوثق مارأيت من مشاهد وأقلب في هاتفي المحمول صفحتي على الفيسبوك.. فإذا بي أرى خبرا وصورا كانت بمثابة الصاعقة حين شاهدت كيف تحول منزل الشاعر السوري الكبير الذي يشكل علامة ثقافية وأدبية فارقة في تاريخ سوريا، إلى ركن شيعي تملؤه العمائم والصور والأيقونات الشيعية.. فأصابتني موجة بكاء كنت أحبسها منذ وصولي إلى دمشق وأنا أردد أبيات شعر من القصيدة الدمشقية لنزار قباني.
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني … وللمآذن كالأشجار أرواحُ
وكيف نكتب والأقفال في فمنا… وكل ثانية يأيتيك سفّاح
نعم لقد أصبحت مآذن الشام مضرجة بحزنها، وهي ترى شوارع أقدم عواصم الدنيا تصارع سكاكين أولئك الحاقدين الباحثين عن ثأر توهموه، فجاؤوا من قم وطهران ومشهد وغيرها من بلاد الفرس ليجوبوا شوارع دمشق بمسيراتهم الحسينية بمناسبة أو بغيرها قاتلين في نفوس الدمشقيين خصوصا والسوريين عموما، ألف ألف حسين.
إيران اليوم تتعامل مع دمشق على أنها ضاحية في طهران، كل شيء بات مباحا لهم، تمددوا سياسيا وعسكريا وطائفيا، لا أحد قادر على كبح جماح تتبيع دمشق للمرجعيات، وإني لأنتظر متشائما تلك اللحظة التي أرى فيها صورة الخميني مرفوعة فوق مأذنة العروس في المسجد الأموي الكبير.
فهل يمكن لأحد أن يقنعني بأن مارأيته وأراه مجرد كابوس سأستيقظ منه يوما وينتهي؟ أم أن منزل أبي المعتز وفائزة (والدا نزار قباني) قد هجراه إلى الأبد آخذين معهما مطحنة البن (القهوة) وحب الهال وتركوا قطة المنزل فوق شجرة النارنج تواجه مصيرها؟