أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة – (نسرين طرابلسي)
من أول الدروس التي تلقيتها في إحدى الدورات الإعلامية أن المحاضر قال لنا: لا يوجد وسيلة إعلامية تطغى على أخرى، عندما ظهر الراديو توقع كثيرون أن أيام الصحافة المكتوبة قد انتهت لكن ذلك لم يحدث. وعندما اختُرِع التلفزيون كانت التوقعات تتنبأ بنهاية الصحف والجرائد واندثار الراديو لكن ذلك لم يحدث أيضا.
وعلى ما يبدو أن التلفزيون بدوره لن ينتهي من حياتنا على الرغم من الانتشار الناري لليوتيوب في هشيم وسائل التواصل الاجتماعي.
أجل لا يوجد اختراع يمحي اختراعاً آخر. لكل جهاز زمن ازدهار، وقد تتطور الأجهزة فيصبح شريط الكاسيت والفلوبي ديسك قرصاً مدمجاً، ثم نستغني عنه لنخزن كل شي في فلاشة ذاكرة صغيرة تتسع لمكتبة كاملة من الملفات والأغنيات.
بدأت حكايتي مع الراديو من دمشق، كنا نصحو صباحاً على صوت المؤشر يتحول بيد أمي أو أخي بحثا عن مونت كارلو، من هناك وعبر الأثير تعرفت على متعة الاستماع في نفس البيت الذي علمني متعة القراءة والمشاهدة وأهمية الأداء.
صوت سلمى الشماع وضحكة هيام الحموي وإلقاء جورج قرداحي وخفة روح حكمت وهبة. لا يمكن أن أحدد متى بدأ عشق الراديو وقناعتي بنجومية الصوت بدون أن أتذكر هؤلاء.
للصوت بصمة خاصة، وصفات شخصية وهوية، لا يمكن تزييفها أو ادعاؤها، لذلك يصبح بعض المذيعين نجوما ويبقى الآخرون مجرد أصوات آلية.
وعليه لم يكن صعبا أبداً بعد عشرين عاماً أن أجلس وراء مايكروفون الإذاعة في محطة الغناء العربي 103.7، بلا خبرة أو شهادة أو سابق تجربة، في إذاعة دولة الكويت لأصبح صوتاً معروفا في فترة وجيزة يصاب المستمعون بعدوى الفرح من ضحكتي ويقلد المستجدون صوتي وطريقة إلقائي.
عملت في الراديو لثلاث سنوات متتالية ببرنامج يومي يذاع في فترة الظهيرة لمدة ساعتين كاملتين. خلالهما لا يتوقف ضوء الهاتف عن الإشارة وتنتهي لفافة أوراق الفاكس، ما يثبت بأن المستمعين يرغبون بالتواصل وإرسال التحيات وإهداء الأغنيات والمشاركة بالمسابقات التي كنت أبتكرها يوميا. وصار المعلنون يختارون فترتي لإعلاناتهم.
صار ذهني ماكينة ابتكار للأفكار. ينتهي الموسم الإذاعي لأكون وضعت خطة جديدة لموسم آخر. كسبت احترام الناس وثقتهم في الكويت ولأنني كنت في ذات الوقت وجهاً تلفزيونياً صرت معروفة أينما ذهبت ويلقبونني بــ (ابنيتنا).
في الإذاعة تعلمت أنني أتعامل مع المتلقي الأعمى، فلم يعد للشكل والمظهر تلك الأهمية بالنسبة لي. المهم مافي رأسي. والمهم أن أقنع المستمع بصوتي أنني واثقة وصادقة وقريبة، عندها سيتخيلني جميلة جداً.
مدينة لإذاعة الكويت بكل ما صقل موهبتي، صرت على ثقة بالمقولة الشائعة أن الإذاعة مدرسة. فيها تعلمت وتدربت على نقل المعلومة بسلاسة من رأسي للساني، تطورت سرعة بديهتي. ومهارات الكلام بطلاقة وتفادي الأخطاء والرد الموزون على أي سؤال أو موقف مهما كان محرجاً. وأداء اللغة الفصحى بمرونة، ففي إذاعة رسمية لدولة خليجية لم يكن مسموحا لي الكلام باللهجة السورية، ما جعلني أعمل على تطويع اللغة العربية لتبدو لغة يومية مستساغة في حديث المنوعات والترفيه.
كنت أول من قام بإعداد وتقديم برنامج تحقيقات إذاعية بعنوان (عيون فاحصة). وساعدني أنني كنت محاطة بمجموعة من الشباب الكويتي الموهوب بالموسيقى والهندسة الإذاعية معظمهم أصبحوا نجوما في مجالهم مثل الملحنين عبد الله القعود وطارق العوضي والمخرج جاسم الفرس وغيرهم كثر. وكانت أوقاتا لا تنسى تلك التي يستجيبون فيها لأي فكرة إبداعية ونبدأ فورا بالتنفيذ باندفاع.
لم يكن سهلا نقل تلك الأجواء إلى التلفزيون الرسمي للدولة، لكن عالم الأخبار السياسية كان للإذاعة فيه مدرسة أخرى. هناك جرس وميقات ومزاج آخر وأنت تقرأ الأخبار في الراديو. فعلى التلفزيون ينسجم الناس مع الشكل والأناقة وتصفيف الشعر والمكياج، لذا يصبح المضمون تالياً من حيث الأهمية. في الراديو الخطأ يخدش السمع، في الراديو عليك أن تكون صافياً ومتمكناً فالأذن تعشق قبل العين في هذا الجهاز الخطير. لذا أتذكر بود واحترام رؤساء تحرير النشرات الإخبارية في إذاعة الكويت، بعضهم كان يعد نشرة تقوّم قراءتنا لشدة دقتها، وتنظم نفسنا من التقطيع الصائب للجمل.
حملت كل هذا معي إلى راديو الآن fm، لأتقلد منصباً إداريا وأصر على أن يكون جزء منه برنامج (صبحية الآن) حتى لا تتكلس مهارات العمل الصحفي والإذاعي وراء رتابة المهام الإدارية. أخذت وقتاً لأتعود الحديث باللغة البيضاء التي تمتزج فيها العامية ببعض الفصحى. ففي زمن الحرب وأنت تتوجه لسوريا، بلدي المكلوم، ولمناطق لا كهرباء فيها يتوقع الناس في أي لحظة أن يسقط عليهم صاروخ أو برميل متفجر، تعود للراديو أهميته في الملاجئ كوسيلة وحيدة لايصال الخبر. بل إن الأمر يتجاوز مسؤولية إيصال الخبر وتصبح مهمتك تشجيع الواهن ومواساة أهل الشهيد ورتق ماتقطع وانفتق من نسيج اللحمة الوطنية. يلقى على عاتقك عبء الأمل الذي يخرج بصيصه من صوتك، والجمرة التي تقبض عليها وأنت تحاول أن تكون موضوعيا من دون أن تكون رمادياً أو رخواً فيما يتعلق بالموقف الأخلاقي والمبدئي للثورة السورية.
عليك أيضاً أن تجد وسيلة للتواصل مع الناس في الداخل، أن تغطي أخبار كل المناطق، وعندما يصل واتس آب من أهالي حي الوعر بحمص يستغيثون كيلا ننساهم، في ذات الوقت التي تحترق فيه حلب ويأتيك نداء من درعا وصوت من ريف حماه وعشرات الرسائل من ريف دمشق لا يمكنك أن تؤجل أو تسوف أو تتجاهل. تصبح معجونا بالعمل وتحمل معك كل الآهات والأنات والدموع إلى البيت.
في اليوم العالمي للراديو أريد أن أشكر كل من وضع ثقته ببرنامج صبحية وبراديو الآن FM سوريا. كنا معا نحن وأنتم في ذات المحرقة، وأؤكد لكم أننا لم نخرج سالمين في معظم الأحيان.
شكرا لكل الفنانين السوريين الذين قدموا أعمالهم مجاناً وساهمو في صنع موجة FM ثورية حقيقية طيلة ثلاث سنوات. كلنا سوا، وصفي المعصراني، خاطر ضوا، وائل نور، ميلاد الحكيم، فراس إمام، يزن الهجري، وحسام اللباد وعشرات الفنانين الذين لم يحبسوا نغماتهم ولم يتاجروا بها في زمن عزت فيه لقمة العيش.
في اليوم العالمي للراديو.. هناك الكثير من الذكريات والكثير من الحقيقة..
وأعدكم بأنني كلما فُتِحَ لي أثير الإذاعة على سوريا سأقول يسعد صباحكم ياسوريين وين ماكنتوا.. هكذا إلى أن أفقد صوتي.