أخبار الآن | مقال رأي
بعد أن أثنى على المحاضرة ، أرسل لي قائلاً ، لماذا تفتتح أحاديثك ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ هذا قد يزعج متابعيك الذين لا يودون سماع أي شيء فيه رائحة التدين ، مفترضاً أن معظم من يتابعونني هم مما يسمى بالعلمانيين استناداً للأفكار التي أروج لها!
صدمتني هذه الكلمات ليس لأني أجهل حجم التحول الكبير في الرأي العام بإتجاه العلمانية كما يفهمها الكثير ممن اعتنقوها لمجرد أنها ضد الدين كما يعتقدون ، ولكن لمستوى التطرف الذي وصل له البعض في تبني هذه الأفكار إلى الحد الذي قد يعدّون من يقول (الله بالخير) كافر بمبادئهم وخائن لعلمانيتهم ! وجعلني هذا الموقف أتسائل عن مدى تأثر (العلمانيين) ب (الاسلامويين) وتشبههم بهم؟! ولاحظوا أني وضعت المصطلحين بين قوسين كناية عن كوني أقصد المتطرفين في كلا المعكسرين.
لقد درس علماء الإجتماع ظاهرة تشبّه العبيد بأسيادهم ، وتشبه المظلومين بالظالمين في سلوكهم. فمثلاً وجدت إحدى الدراسات أن الشرطة (من أصل افريقي) في أمريكا كانوا أكثر عنفاً تجاه أبناء جلدتهم من الشرطة البيض ! ودراسة أخرى تحدثت عن تطرف بعض الأسرى في معاقبة زملائهم عندما يمنحون السلطة لفعل ذلك ، كما أن القادة المتطرفين في قمعهم وتسلطهم غالباً ما تعرضوا لهذا المستوى من العنف والقمع في طفولتهم. فهل بتنا نشهد ظاهرة تقليد غلاة العلمانية لغلاة التدين بحيث استعاروا منهم ثنائية دار الحرب-دار السلام فجعلوها دار العلمانية-دار الدين ؟!! هل بات علينا نحن المؤمنيين بالعلمانية كمنهج للحياة (وليس الآخرة) أن نتخلى عن كل من إيماننا الشخصي بالدين كي يرضى عنا حراس المعبد العلماني ؟!
هناك فرق واضح بين من يفهمون العلمانية انها (نبذ) للدين وبين من يفهمونها انها (نبش) للدين لتنقيته وتصفيته مما علق به من تفسيرات بشرية لم تعد صالحة لمجتمعاتنا. العلمانية كما افهمها لا تعني فصل الدين عن السلطة أو حماية السلطة من الدين، بل تعني(أضافة لذلك) حماية الدين من السلطة. فمثلما أريد حماية السلطة من تغول الدين وسطوته،فأنا أريد حماية الدين من تغول السلطة وسطوتها بما يؤدي لتشويه المقاصد الحقة للدين.ومع ادراكي لأهمية الدين للفرد منذ وُجد على هذه الارض ، فان العلمانية كما أفهمها ويفهمها كثير غيري تريد أن تحافظ على نقاء الدين بشكله المباشر بين الفرد ومن يعبده. فالبشر لم يعتنقوا الدين لأنهم كانوا يريدوه أن يستعبدهم ، على الرغم من أنه قد تطور فيما بعد ليصبح في كثير من الأحيان آلية لاستعبادهم للأسف. الناس أعتنقوا وتمسكوا بالدين لأنهم شعروا بحاجة نفسية عميقة للأيمان بالخالق وتفسير الخلق. واذا كان الله (كما نؤمن)لم يخلق الناس لأنه بحاجه لهم فأن الناس هم من شعروا منذ البداية بحاجتهم الى وجود الله وعبادته. أن إنكار هذه الحقيقة الاجتماعية والانثروبولجية الخاصة بوجود الدين يعني إنكار للأساس الذي بنيت عليه العلمانية.
فالعلمانية كمصطلح تشير الى قدسية العلم في فهم الحياة بمختلف مناحيها. واذا كان العلم يقر بأهمية الدين في حياة الفرد فمن الخطأ المنهجي إنكار الدين من أساسه.
ما نريده كعلمانيين نقل الدين من المجال العام إلى المجال الخاص بحيث يصبح علاقة مباشرة (دون وسيط) بين الانسان ومن يؤمن أنه خالقه أو مستحق لعبادته. ولأن العلمانية تتأسس على الحرية أو الليبرالية في التفكير فأن من السخف والتناقض إنكار حرية الآخرين (بضمنهم المتدينين) في تبني الأفكار والمعتقدات والسلوكيات التي يؤمنون بصحتها. العلمانية الاقصائية هي الوصفة المثالية للتطرف الديني.والقاعدة عندي أن التطرف (في فرض التدين أو في فرض العلمانية) سيؤدي إلى تطرف في العلمانية أو في تطبيق الدين. والبلدان التي تعيش في تطرف علماني ستعاني من قلق اجتماعي وانساني ، كما إن البلدان التي تعاني من تطرف ديني ستعاني من تخلف علمي وتكويني.
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن