بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الأمريكية 2020 وبغض النظر عن ما يريده او يتمناه كل منا للنتائج، فأن هناك حقيقة واحدة لا يختلف عليها الجميع وهي ان كل العالم مهتم بنتيجة الانتخابات الأمريكية وكأنها باتت فعلاً كلاسيكو الأرض الذي يترقب الجميع موعد حلوله لمتابعته عن كثب!ويقيناً فان عدد من سيتابعون النتائج في يوم الانتخابات ومن كل انحاء العالم(بخاصة النخب) سيكون كبير جداً. كما ان حجم التغطية الاعلامية للانتخابات الأمريكية سيفوق بكثير تغطية اي حدث سياسي وربما غير سياسي في العالم.
لماذا هذا الاهتمام الواسع بنتائج الانتخابات الأمريكية؟
لقد سمعنا وقرأنا مؤخراً كثير من التعليقات والتقارير التي تتحدث عن موازين القوى العالمية ومن هي الدولة التي تتربع على قمة التأثير العالمي حالياً بخاصة بعد نشر بعض التقارير الاقتصادية عن تفوق الناتج المحلي الاجمالي للصين على الامريكي (رغم عدم دقة القياس او تشويشه على المتلقي).
وكعراقي، او كشخص ليس أمريكياً ولا صينياً، أطرح سؤال على من يعتقد ان القوة الامريكية تراجعت ولم تعد مؤثرة، وان هناك دول اخرى تفوقت وباتت اكثر تأثيراً: اذا كان ما تقولوه صحيح فلماذا هذا الاهتمام الواسع بنتائج الانتخابات الأمريكية؟ لماذا جميع رؤساء العالم وقادته والصحافة العالمية ستكون عيونها مسمرة لشاشات CNN و Fox news وسواهما من منصات الاعلام الكبيرة، غداً لمتابعة نتائج استطلاع يوم الخروج exit poll ومعرفة من سيفوز؟ أليس هذا دليل على تأثير أمريكا (سواءً احببنا ذلك ام كرهنا) على كل العالم، إقتصاداً وسياسةً وأمنا؟! لماذا سيتحول العالم غداً الى فريقين أحدهما يشجع ترامب والاخر يشجع بايدن اذا كانت أمريكا غير مؤثرة؟!
لماذا يعرف الكثيرون في العالم ويتابعون اسرار وخبايا الحملات الانتخابات الأمريكية وكيفية احتساب الاصوات والولايات الزرقاء والحمراء الخ من أمور الانتخابات الأمريكية؟!
في المقابل، كم هم عدد الذين يعرفون شيئاً عن الانتخابات الروسية؟ أو عن انتخابات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني التي تجري لاختيار الرئيس الصيني؟ وكم هي مدة الرئاسة الصينية ؟ بل ما هو إسم الرئيس الصيني اصلاً؟!
ما أكتبه هنا ليس دعاية لـ الانتخابات الأمريكية أو قوتها، بل تنبيه لواقع يحاول الكثيرون صرف الانتباه عنه لجعل متخذي القرار في بلدانهم لا يزنون قراراتهم بميزان المصلحة الحقيقية، بل بميزان الايدلوجيا وبعض القيم التي لم تعد صالحة للاستعمال البشري.
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام وهي أن العالم الساخط (في معظمه) حالياً على أمريكا ترامب نتيجة الضرر الذي سببته للنظام الدولي، لديه أمل في أن تتغير الأدارة الأمريكية نتيجة الانتخابات وبالتالي تتغير سياسات أمريكا تجاه بلدانهم وتجاه النظام العالمي ككل. لا بل اني أكاد أجزم ان كل دول العالم المهمة دولياً وأقليمياً مثل الصين وروسيا واوربا، وتركيا وايران وسواها ستكون مشغولة غداً بالانتخابات الأمريكية ربما اكثر من انشغالها بشؤون بلدانهم! وهناك من سيأمل بشدة لو ان بايدن يفوز وربما سيكون هناك بعض من يتمنون العكس.
في المقابل لا سبيل لمن يرغبون برؤية الصين (مثلاً) وهي تغير من سياستها الدولية والاقليمية تجاه بلدانهم او النظام العالمي ككل، الا ان يأملوا بحصول انقلاب او ان الرئيس الصيني يموت! هكذا الحال بالنسبة لروسيا (رغم وجود انتخابات فيها)! ومناسبة كلامي هذا هو ادراك ان قوة اي دولة لاتقاس فقط بنظامها الاقتصادي، بل الاهم من وجهة نظري هو أن ننظر الى نظامها السياسي ونقوم مدى فاعليته وتأثيره الكليان.
وعلى الرغم من ان النظام السياسي الامريكي مليء بالثقوب والمشاكل البنيوية والوظيفية،لكنه يبقى افضل بكثير من جميع الدول العظمى او شبه العظمى(مع بعض الاستثناءات).
إن قوة النظام السياسي الامريكي وحيويته هي التي تسمح له بأعادة ضبط نفسه كل فترة وأعادة ضبط (المصنع) تجاه مختلف شؤون السياسة الداخلية والخارجية ايضاً. فمثلاً، لو تم فوز بايدن، يتوقع ان يعاد تفعيل الحلف الاطلسي والعلاقات مع اوربا، وكذلك عودة أمريكا لاتفاقية المناخ، واعادة النظر بالموقف الامريكي من كوريا ش وإيران، وكذلك الموقف الامريكي تجاه الصين وآسيا (رغم ان التغيير لن يكون كبير في هذا الملف).هذه التغيرات في سياسة أمريكا لا يمكن توقع حصول شبيه لها من دول عظمى اخرى.
أخيراً، فان حجم التأثير الستراتيجي للدول العظمى لا يقاس بحجم ناتجها المحلي-وإن كان هذا العامل مهم- بل يقاس بحجم إمكاناتها المادية وغير المادية. وأهم مافي تلك الامكانات غير المادية هو شبكات التأثير السياسي والتي تمثل رأس المال السياسي الحقيقي لأي دولة. هنا تتجلى قوة أمريكا وقدرتها على التأثير بشكل يتفوق كثيراً على أي من منافسيها الدوليين.
لقد استطاعت أمريكا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وعبر كثير من الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى الاجتماعية بناء شبكة علاقات دولية وقارية تتيح لها التأثير في المشهد السياسي الدولي والاقليمي والمحلي بطريقة سريعة ومؤثرة.
وباتت قوتها الناعمة (والتي يجب الاعتراف انها تآكلت كثيراً في السنوات القليلة الماضية) جزء لا يتجزأ من سر تفوقها الدولي على جميع المنافسين. هذه حقيقة يصعب دحضها حالياً وهي قد تتغير مستقبلاً، لكن القياس الموضوعي الراهن لا يترك مجال للشك بحجم التأثير الامريكي الدولي.
إن على صناع السياسة الخارجية والمختصين بالشؤون الدولية ادراك وتقييم كل الروافع السياسية والاقتصادية بل وحتى الاجتماعية لاي دولة قبل اصدار أي أحكام قصيرة النظر. مع ذلك فان العلاقات الدولية هي مجال حيوي ديناميكي وهو دائم التحول والتغير، لذلك فليس من المستبعد تغيير موازين القوى الدولية مستقبلاً، لكن ذلك لا يبدو ممكناً على المدى القصير.
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولاتعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن