في الثامن من يونيو عام ٢٠١٤، وردت أنباء عن أول هجوم انتحاري تنفذه امرأة في بلدي. ومثل كثير من النيجيريين، تمنيت ألّا يكون الخبر صحيحاً. كنتُ أعلم في قرارة نفسي أن هذا السلوك الخبيث سيأتي وبالاً على بلدي وسيسئ إلى صورة المسلمين الذين تدعي جماعة مثل بوكو حرام الدفاع عنهم. ومع تواتر التفاصيل، علمنا أن الانتحارية كانت طفلة صغيرة خبّأت المتفجرات في حجابها. شعرتُ بالخوف والامتعاض في آن واحد. ومع وقوع هجمات مشابهة في الأسابيع والأشهر التالية، أدركنا الحقيقة المرّة وهي أن بوكو حرام بدأت فصلاً فظيعاً آخر في حملتها الوحشية. بعد ست سنوات، لا تزال المجموعة تخدع النساء والفتيات وتجبرهن وتغسل أدمغتهن حتى يصبحن قنابل بشرية. ناهيك عن آلاف الأرواح البريئة التي حصدتها هذه الهجمات، فإنها جعلت أمهاتنا وبناتنا عرضة للشكّ والاتهام. وما يؤلم أكثر من هذا، هو تشويه صورة المسلمين في أذهان من لا يعلمون الحقيقة حقّ علمها.
بوكو حرام/داعش غرب إفريقيا
تأسست جماعة (بوكو حرام) في ٢٠٠٣، ووصلت ذروة هجماتها العنيفة في ٢٠٠٩. وهي رديفة لجماعة داعش في إفريقيا وتنشط في المنطقة الحدودية المسماة (بحيرة تشاد) التي تربط بين نيجيريا، والنيجر، والكاميرون وتشاد. الاسم الرسمي للمجموعة كان (جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد)، ولكن عندما أعلنت الولاء لداعش في ٢٠١٥، غيّرت اسمها إلى (ولاية غرب إفريقيا). خلافات داخلية إيديولوجية وعملاتية، تتعلق إحداها باستخدام النساء في العمليات الانتحارية، أدى إلى انشقاق في المجموعة في ٢٠١٦. داعش اعترف بواحدة من المجموعتين وأطلق عليها اسم (ولاية غرب إفريقيا)، بينما الأخرى لم تلقَ قبولاً عند داعش و احتفظت باسمها الأصلي: (جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد). المجموعتان تسيطران على مساحات شاسعة في المناطق النائية من بحيرة تشاد وتتخذانها ملجأ آمناً ومنطلقاً لشنّ هجمات في البلدان الأربعة المحاذية لها.
فيما يلي استعراض لتاريخ استغلال النساء كانتحاريات: الأسباب التي دفعت إلى تأصيل هذه الممارسات والجدل الذي دار حولها.
الانتحاريات
استغلت بوكو حرام النساء لتنفيذ هجمات انتحارية أكثر من أي جماعة جهادية أخرى، أو حتى عسكرية عبر التاريخ. بدأت المجموعة تستخدم الانتحاريين في يونيو ٢٠١١ عندما فجّر عضو المجموعة محمد مانغا سيارته المفخخة قرب مركز للشرطة النيجيرية في أبوجا العاصمة ما أسفر عن مقتل ستة أشخاص بمن فيهم هو. كان ذلك أول هجوم انتحاري في تاريخ نيجيريا. وتبعته هجمات أخرى كثيرة. أما أول تفجير انتحاري نفذته امرأة فكان بعد ذلك بثلاث سنوات في ٨ يونيو ٢٠١٤ عندما فجرت فتاة عبوة ناسفة أخفتها في حجابها فقتلت نفسها وجندياً من الفرقة ٣٠١ التابعة للجيش النيجيري في ولاية غوبي، شمال شرق البلاد. لم يصدق أحد ما حدث. صُعق النيجيريون عندما أدركوا أن بوكوحرام بدأت ترسل فتيات لتنفيذ هجمات انتحارية. وفيما كان النيجيريون يحاولون استيعاب هذا التطور الخطير، أرسلت بوكو حرام رسالة واضحة بأن تلك كانت أول انتحارية لكنها لن تكون الأخيرة. فتاة أخرى فجرت نفسها في مستودع للوقود في لاغوس، العاصمة التجارية لنيجيريا الغنية بالنفط. قُتلت الفتاة ومعها اثنان. وتسارعت بعدها وتيرة هجمات الانتحاريات.
تمّ اعتراض هذه الفتاة وعمرها ١٣ عاماً وهي تحمل متفجرات في كانو، شمال غرب نيجيريا، المصدر: الشرطة النيجيرية
لم يمضِ وقت قصير حتى عُرفت بوكوحرام في أقاصي الأرض باستخدامها النساء والفتيات قنابل بشرية. أرسلت ٢٤٤ انتحارية لتنفيذ هجمات في الفترة من أبريل ٢٠١١ إلى يونيو ٢٠١٧ لتصبح أكثر مجموعة في تاريخ الجماعات الجهادية والمتمردة تستخدم انتحاريات؛ أكثر من نمور التاميل الذين استخدموا ٤٤ انتحارية في ١٠ سنوات. ومنذ ٢٠١٧، كانت بوكو حرام ترسل عشرات النساء كل عام؛ لكنّ البيانات توقفت عند ذلك التاريخ.
وحشية بوكوحرام غير مسبوقة، فلم تكتف باستغلال نساء بالغات، وإنما استغلّت الطفلات. أصغر انتحارية كان عمرها سبع سنوات. ثلاث طفلات أعمارهم سبع سنوات نفذن هجمتين في ٢٠١٥ و٢٠١٦. في ٢٢ فبراير ٢٠١٥، فجرت طفلة عمرها سبع سنوات حزامها الناسف في سوق في بلدة بوتيسكوم شمال شرق نيجيريا ما أسفر عن مقتل خمسة وجرح ١٩ آخرين. وفي ٩ ديسمبر ٢٠١٦، قامت طفلتان تبلغان السابعة من عمريهما بتفجير نفسيهما في سوق في مايدوغوري، شمال شرق نيجيريا، ما تسبب في مقتل شخص وجرح ١٧ آخرين.
واللافت هنا أن الانتحاريين من بوكوحرام يضعون المتفجرات في مركبات أو على ظهر درجات هوائية أو نارية، لكننا نجد أن الانتحاريات يلبسن المتفجرات في الحجاب إن كنّ طفلات أو تحت الملابس إن كنّ بالغات حتى يبدو أنهن حوامل. تستهدفن الأسواق، ومواقف المواصلات، والمدارس ومخيمات النازحين ومحطات الوقود وثكنات الجيش.
أسباب استخدام الانتحاريات
الجماعات الجهادية استغلالية وتجيد تغيير تكتيكاتها بما يتناسب مع تغير الوضع الأمني على الأرض. وبوكوحرام ليست استثناء. ثمة أسباب مختلفة لاستغلال هذه الجماعات النساء والطفلات كقنابل متحركة. نضيئ على بعضها فيما يلي.
١. لا رقابة أمنية مشددة على النساء
كما رأينا سابقاً، بوكوحرام كانت ترسل انتحاريين في السنوات الثلاث الأولى من هجماتها ما بين العامين ٢٠١١ و٢٠١٣. في هذه الفترة، أصبحت الأجهزة الأمنية الرسمية وفرق الحماية الشعبية على اطلاع تام بأساليب الانتحاريين ودراية بكيفية التعامل معهم. ولهذا وجدنا أن هذه الأجهزة صارت تتنبه وتشتبه في الرجال والأولاد الغرباء عن الحيّ أو المنطقة وكانت تفتشهم تفتيشاً دقيقاً في نقاط التفتيش التي انتشرت في البلدات والمدن في شمال نيجيريا وعلى الطرق الخارجية. كل هذا صعّب على هذه الجماعة أن تستخدم رجالاً لنقل المتفجرات إلى المواقع المستهدفة، لأن الجهات الأمنية كانت توقف تقدم هؤلاء فتطلب منهم خلع ملابسهم على مسافة من نقاط التفتيش قبل أن يُسمح لهم بالدخول. ولهذا كان على المجموعة أن تبتكر طرقاً أخرى لنقل متفجراتها بأن يستغلوا النساء والبنات اللواتي ينظر إليهن المجتمع على أنهنّ بريئات ولا يلفتن الانتباه أو يثرن الشكوك. وهكذا استطاعت بوكوحرام الوصول إلى الأماكن المستهدفة من دون إثارة انتباه الأجهزة الأمنية. كما أن النساء والطفلات يضعهن الحجاب ويلبسن ملابس طويلة فضفاضة تُسهّل إخفاء المتفجرات. وحتى تزيد الطين بلة، فإن عناصر الأجهزة الأمنية الرسمية وفرق الحماية الشعبية هم رجال يدركون أنه محظور عليهم دينياً وثقافياً تفتيش النساء أو لمس أجسادهن أو حتى النظر إليها. بوكوحرام استغلت كل ذلك لمصلحتها.
٢. الانتحاريات استقطبن تغطية إعلامية أكبر
نشرُ الخوف بين السكان من أهم أهداف الجماعات الجهادية. ويتحقق هذا بارتكاب جرائم فظيعة تحظى بتغطية إعلامية فيما يُسمى “الدعاية الحدث.” الأنباء عن انتحاريات تستقطب في العادة تغطية إعلامية واسعة لأنها تثير مشاعر الناس أكثر من تفجير ينفذه رجل؛ ففيها تحدٍ للعادات والأعراف وفيها عنصر المفاجأة والصدمة. هذه الهجمات جعلت بوكوحرام في واجهة الأخبار المحلية والدولية. وفي حقيقة الأمر، فإن المجموعة استحوذت على حصة من الإعلام العالمي في أبريل ٢٠١٤ عندما اختطفت ٢٧٦ طالبة من مهجع المدرسة في قرية شيبوك شمال شرق نيجيريا. وعندما بدأت ترسل الانتحاريات، ساد تصوّر أن المجموعة ربما أجبرت الطالبات ومختطفات أخريات على حمل متفجرات وتنفيذ هجمات انتحارية.
٣. النساء والأطفال موجودون
ثمة آلاف النساء في المناطق التي تسيطر عليها بوكوحرام. بعضهن زوجات وبنات مقاتلين وأعضاء في بوكوحرام، وأخريات اختطفتهن الجماعة بعد أن هاجمت بلداتهن. لم تكتف الجماعة باستغلال النساء كجارياتٍ للجنس والخدمة في المنزل، بل بحثوا عن طرق لاستغلال النساء في القتال؛ فدربوهنّ على تصنيع القنابل ونقلها وتفجيرها كانتحاريات. الطفلات والمراهقات لم يشكلن تحدياً لهم لأنهن في هذه السن لا يتمتعن بنضوج معرفي. فكان سهلاً على الجماعة أن تزرع الخوف فيهنّ وتجندهنّ بالإقناع أو الخديعة أو مجرد الإجبار. وفي بعض الأحيان، كان عناصر من الجماعة نفسها يتبرعون بأطفالهم وبناتهم “هبةً لوجهه تعالى.”
نساء متعاونات أو عصيّات
من نافلة القول أن استغلال داعش النساء والبنات كانتحاريات لا يعني أنهن اخترن طواعية قتل أنفسهن والآخرين من أجل هذه الجماعة. من الصعب أن نحدد درجة التعاون أو العصيان لدى هؤلاء النساء والبنات بكل بساطة لأنهن قضين في تلك الهجمات. لكن نستطيع أن نلج إلى داخل هؤلاء البنات والنساء عندما نسمع قصصاً لبعض من كُتبت لهن النجاة أو رفضن تفجير قنابلهن. أمينة، مثلاً، عاشت في قرية في منطقة بحيرة تشاد. في سن السادسة عشرة، تقدم لخطبتها رجل من قرية أخرى. قبلت، بالرغم من معارضة أهلها. وتركت القرية. ما لم تعلمه هو أن الرجل الذي خطبها كان عنصراً من بوكوحرام. في نهاية الأمر أجبرها على أن تضع حزاماً ناسفاً حتى تنفذ هجمة انتحارية. أرسلت مع ثلاث انتحاريات أخريات إلى سوق شعبية أسبوعية، يزدحم فيها المتسوقون والباعة يوماً في الأسبوع. استقلين قارباً للوصول إلى السوق. فرقة حماية شعبية شكّت في أمرهن، ففجرت اثنتان منهن حزاميهما الناسفين. أمينة لم تفجر حزامها، لكنها أصيبت في الانفجار وبُترت ساقاها. أُخذت إلى المستشفى وكانت حالتها حرجة. استطاعت الجهات المعنية أن تصل إلى أهلها لكنهم رفضوا استقبالها خوفاً من وصمة العار. بعد وساطات، عادت إلى بيت أهلها. اليوم، تجثو أمينة على ركبتيها وتعتمد على أهلها حتى تعيش.
اختطفت عائشة وعمرها ستة عشر عاماً. خُيّرت بين الزواج من قائد في بوكوحرام أو تنفيذ هجمة انتحارية. اختارت الانتحار. عندما وصلت إلى نقطة تفتيش عسكرية، رفضت أن تفجر القنبلة. أخذت تبكي وتصرخ طالبة العون. ساعدها الجنود في تفكيك العبوة الناسفة. ومثلها فاطمة التي رفضت تفجير حزامها الناسف.
خديجة إبراهيم كانت في طريقها إلى المستشفى في مايدوغوري، عندما عرض عليها رجلان وامرأة أن تركب معهم السيارة إلى حيث تريد. أحسنت فيهم الظن، لكنهم اختطفوها إلى مكان غير معلوم. خدّروها وألبسوها حزاماً ناسفاً. كان هدفهم تفجير سوق في مدينة كانوا، على بعد ٤٨٠كم من حيث اختُطِفت. في الطريق، تعطلت السيارة، فانشغلوا بتصليحها. عندها أفاقت خديجة وهربت منهم.
من هذه القصص، ندرك أن بوكوحرام أجبرت نساء على تنفيذ هجمات انتحارية بالتخدير والترهيب والإكراه. لكننا في نفس الوقت نجد أمثلة لنساء نفذن هجمات انتحارية طواعية. ثمة أدلة على أن نساء اعتنقن أيديولوجية بوكوحرام وهاجرن معهم إما مع عائلاتهن أو فرادى. ثمة فيديوهات لفتيات التشيبوك ممن بقين مع بوكوحرام يقلن إنهن يؤمِنّ اليوم بأيديولوجية بوكوحرام. وقد تم اعتراض بضعة نسوة أثناء طريقهن للانضمام مرة أخرى إلى بوكوحرام بعد أن تمّ إنقاذهن.
وهنا نقول إن البنات الطفلات لا يتمتعن بالقدرة على فهم هذه الهجمات ومنح الموافقة على تنفيذها. وفي حالات أخرى تخاف النساء والبنات من وصفة العار إن عدن إلى أهلهن. ولهذا، محتمل جداً أن فتيات شيبوك اللواتي تحدثن في تلك الفيديوهات أجبرن على قول إنهن يدعمن بوكوحرام. ويبقى التفسير الأخير وهو عقدة ستوكهولم: التعاطف مع الخاطف.
الجدل حول استخدام النساء كانتحاريات
في ٢٠١٦، أدت الخلافات الداخلية على طريقة العمل والإيديولوجيا إلى انقسام المجموعة إلى اثنتين. بعض كبار القادة في المجموعة اتهموا قائدها، أبا بكر شيكاو، بالتطرف في التفسير والفساد والجهل في العقيدة. كتبوا رسالة إلى داعش تتضمن تسع مظالم، تعلقت إحداها باستخدام النساء والأطفال كانتحاريين ومهاجمة المدنيين المسلمين بمن فيهم النساء والأطفال. بعد أخذ ورد، قررت قيادة داعش عزل شيكاو وتعيين بدلاً منه حبيب بن محمد بن يوسف (المعروف باسم أبي مصعب البرناوي)، الابن الأول لمؤسس الجماعة. شيكاو رفض العزل وقاد فصيلاً منشقاً وعاد إلى الاسم الأصلي للجماعة وهو جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد، فيما اتخذ الفصيل الآخر الاسم الذي منحه إياه داعش وهو ولاية غرب إفريقيا.
منذ الانشقاق، ظل شيكاو حتى العام الحالي ٢٠٢٠ يستخدم النساء والبنات في تنفيذ هجمات انتحارية ضد أهداف سهلة في نيجيريا والنيجر وكاميرون وتشاد.
أما ولاية غرب إفريقيا، فتدّعي أنها لا تهاجم المسملين إلا أولئك الذين يعملون مع الحكومة أو المنظمات الدولية أو المُتهمين بالتجسس. فمثلا في ٢٠١٨، أعدمت المجموعة حواء ليمان وسيفورا أحمد، وكلتاهما مسلمتان، لأنهما تعملان ممرضتين مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر. في يوليو من هذا العام، قتلت الجماعة خمسة عاملين في الإغاثة من بينهم عبدالرحمن بولاما، الذي اختطف قبل أقل من أسبوع على زفافه. الجماعة قالت إنها قتلت هؤلاء المسلمين لأنهم يعملون مع الكفار.
ومع التحولات الأخيرة في قيادة ولاية غرب إفريقيا، ثمة مؤشرات على أن الجماعة صارت أكثر وحشية. في يونيو الماضي، قتلت المجموعة واحداً وثمانين مسلماً مدنياً في قرية فودوماكولورام شمال شرق نيجيريا لأنهم رفضوا دفع رسوم فرضتها المجموعة. ولهذا، لن يكون مستغرباً إن بدأت هذه الجماعة في المستقبل القريب باستخدام النساء كانتحاريات يهاجمن المسلمين المدنيين أسوة بـ بوكوحرام.
* بولاما بوكارتي محامي وحقوقي نيجيري وباحث في معهد توني بلير للتغيير العالمي في لندن
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن