كان الرئيس الراحل لوكالة الاستخبارات الباكستانية، الجنرال حميد غُـل، مغرما بالتباهي بأن تاريخ أفغانستان سيسجل أن وكالة الاستخبارات الباكستانية، بمساعدة أمريكا، هزمت الاتحاد السوفييتي.
وبعد ذلك يضيف بخبث أن المؤرخين سيذكرون أن الاستخبارات الباكستانية، بمساعدة أمريكا، هزمت أمريكا.
لم يكن تفاخر غُل من ذلك النوع من التبجح الفارغ الذي اشتهر به الرجال العسكريون بمجرد أن يخلعوا زيهم الرسمي ويتذكروا ماضيهم على أنه أكثر مجدا مما قد توحي به التفاصيل.
كان محقا عندما زعم أن تكتيكات وكالة الاستخبارات الباكستانية المتمثلة في رعاية المحاربين والإرهابيين ــ المسلحين والمجهزين والممولين بسخاء من قبَل الولايات المتحدة ــ في مواجهة الجيش الأحمر في أفغانستان هي التي أجبرت الكرملين على الانسحاب المخزي.
في وقت لاحق، وباستخدام ذات النهج، ونفس الأفراد وذات الأساليب، أنشأت باكستان وقامت برعاية مجموعة من المجاهدين الذين أطلقوا على أنفسهم مسمى “طالبان“، أو “طلاب” الإسلام، والذين سرعان ما استولوا على أفغانستان وحكموها باعتبارها فرعا تابعا مملوكا بالكامل للاستخبارات الباكستانية.
كانت الأمور وردية بالنسبة إلى غُل وأمثاله إلى أن أصدر أسامة بن لادن، والذي حظي بضيافة “الإمارة الإسلامية” الجديدة التي أسستها حركة طالبان، الأمر بتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية ضد الولايات المتحدة من مخبئه في أفغانستان.
أسفر الرد الأمريكي الغاضب عن الإطاحة بحركة طالبان ونفي بن لادن تحت حماية الاستخبارات الباكستانية إلى ملاذه في معقل عسكري باكستاني، ولم يكن بوسع الاستخبارات الباكستانية أن تتبجح كثيرا عندما تعقبت الولايات المتحدة بن لادن إلى مجمع آمن في أبوت أباد وقتلته بالاستعانة بقوات خاصة هناك في عام 2011.
ولكن بعد أن ضاقت أمريكا ذرعا بتورطها إلى ما لا نهاية في مستنقع أفغانستان، وساعدت الاستخبارات الباكستانية عميلتها طالبان على إعادة التسلح والتنظيم واستئناف عملياتها ضد النظام الذي تدعمه الولايات المتحدة في كابول، تحول المد لصالح الاستخبارات الباكستانية.
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن القوات الأمريكية ستنسحب بالكامل من أفغانستان بحلول الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، الذي يوافق الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. والآن، تحول التاريخ الذي ظل لفترة طويلة يرمز إلى تصميم أمريكا على ضرب جذور الهجمات الإرهابية ضدها إلى دلالة إلى افتقارها إلى الإرادة اللازمة لمواصلة الجهود في هذا الاتجاه.
أيا كانت ترتيبات الخلافة التي تعتزم الولايات المتحدة من خلالها حفظ ماء وجهها وإخفاء استسلامها، فإن انسحابها من أفغانستان، وهي لم تحقق بعد أي من أهدافها البعيدة الأمد، يُعَـد هزيمة. وبعد أن أصبحت طالبان أقوى من أي وقت مضى وباتت جاهزة لاستعادة السلطة في كابول، ستكون الاستخبارات الباكستانية الظافر الخارجي الوحيد. وكما تنبأ غُـل، فإنها ستكون بذلك هزمت أمريكا بمساعدة أمريكا. الآن، تلقت باكستان ما قيمته عقدين من المساعدات العسكرية الأمريكية، بما يقدر بنحو 11 مليار دولار.
ظلت الاستخبارات الباكستانية لفترة طويلة مهووسة بفكرة مفادها أن السيطرة على أفغانستان من شأنها أن تمنح باكستان “العمق الاستراتيجي” اللازم لتحدي خصمها الرئيسي، الهند. ووجود نظام طالبان (أو على الأقل حكومة ائتلافية تهيمن عليها طالبان) في كابول أفضل ضمان لتحقيق هذه الغاية.
الواقع أن فصائل طالبان تدين بالفضل للمحسنين الباكستانيين حتى أن هيئات اتخاذ القرار داخلها ــ مجلس شورى كويتا، ومجلس شورى ميرامشاه، ومجلس شورى بيشاور ــ كما عَـلَّـقَ الرئيس الأفغاني أشرف غني في انتقاد لاذع، مسماة على اسم البلدات الباكستانية التي تتمركز بها هذه الفصائل.
لكن من الحكمة أن يخفف خلفاء غُـل من نبرة احتفالاتهم، فأولا، يزيل انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مصدرا بالغ الأهمية للنفوذ لصالح باكستان في واشنطن. وقد لا تكون من الأنباء الطيبة لباكستان أن يصبح الأمريكيون أقل احتياجا إليها.
علاوة على ذلك، كما تعلم الاستخبارات الباكستانية، تتلخص مشكلة إنشاء ورعاية الجماعات المسلحة المحاربة في أنها لا تظل دائما تحت سيطرة مُـنشئها، الواقع أن الدرس المستفاد من رواية فرانكنشتاين لمؤلفتها ماري شيلي ــ أن المخلوقات التي نمنحها الحياة يمكنها تطوير عقول واحتياجات خاصة بها ــ يتجلى بوضوح في أماكن أخرى أيضا، وخاصة في الدور الذي تلعبه إسرائيل في بناء حماس كمنافس لمنظمة التحرير الفلسطينية.
حدث ذات الشيء في باكستان، حيث أسفرت فترة التعاون بين السلطات الباكستانية والولايات المتحدة أثناء الحملة الأمريكية في أفغانستان بعد الحادي عشر من سبتمبر عن تمرد “طالبان الباكستانية”. وفي حين احتاجت حركة طالبان الأفغانية إلى ملاذ باكستاني، ومنازل الاستخبارات الباكستانية الآمنة، والتمويل والأسلحة، لتنظيم التمرد الذي دفع الولايات المتحدة إلى نقطة الانسحاب، فقد هاجمت طالبان الباكستانية عرابيها السابقين لعدم كفاية ولائهم للإسلام المتشدد.
لا شك أن الاستخبارات الباكستانية تأمل أن تتمكن بمجرد رحيل القوات الأمريكية وترسخ حركة طالبان الأفغانية بأمان في كابول من إقناع طالبان الباكستانية بالتسامح ونسيان التجاوزات السابقة التي ارتكبتها الوكالة. إذا حدث ذلك، تبعا لهذا المنطق، فسوف يُـسـتَـعاد السلام، وتسيطر الاستخبارات الباكستانية على أفغانستان، ويكف المجاهدون الباكستانيون عن استهداف منشآت وقوافل الجيش الباكستاني، وينضمون إلى الاستخبارات الباكستانية في تكثيف الهجمات على “العدو الحقيقي”، الهند.
لكن من الممكن أيضا أن تجد الاستخبارات الباكستانية نفسها في مواجهة بديل كابوسي. فقد لا تظل الجماعات الباكستانية المسلحة، التي تشجعت بفضل نجاح شقيقاتها في أفغانستان، فريسة لمداهنات وتملق المؤسسة العسكرية. وبدلا من ذلك، قد تشن هجمات إرهابية بهدف محاكاة ما حققته طالبان في أفغانستان ولكن في باكستان.
فإذا كان من الممكن إدارة أفغانستان كإمارة إسلامية، فربما يتساءلون، لماذا لا يمكننا أن نفعل الشيء ذاته في باكستان؟ لماذا نرقص على أنغام الاستخبارات الباكستانية ما دام بوسعنا أن نرقص على ألحاننا؟
في مثل هذا السيناريو، قد تبدو لحظة انتصار الاستخبارات الباكستانية الـمُـسكِـرة في الحادي عشر من سبتمبر هذا العام جوفاء على نحو متزايد، حيث تلدغ الأفاعي التي رعتها صدرها. صحيح أن طالبان الباكستانية ــ دون دولة ترعاها ــ لديها فرصة أقل لتحقيق النجاح مقارنة بنظيرتها في أفغانستان. لكنها قد تظل قادرة على إحداث قدر كبير من الضرر، مما يزيد في خضم هذه العملية من سُـخط جماهير الناس في باكستان وتخلصهم من وهم الهيمنة العسكرية على بلدهم.
إذا حدث هذا، فسوف نكون في احتياج إلى تمديد رواية غُـل لنقول إن الاستخبارات الباكستانية، بصفتها عميلا للمؤسسة العسكرية الباكستانية، ساعدت في “هزيمة” نفسها أو على الأقل تشويه سمعتها.
ترجمة: مايسة كامل Translated by: Maysa Kamel
Copyright: Project Syndicate, 2019.