رئيسي يبدد أحلام الشعب الإيراني
أطاح المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بآمال الإيرانيين الذين كانوا يتطلعون لمستقبل أفضل، بعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية والتحديات المجتمعية التي عصفت بالبلاد في الفترة الماضية، منذ أن انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018، ورغم اتفاق جميع المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، على معالجة الملف الاقتصادي، الذي يعتبر الأساس في الحالة الإيرانية اليوم، إلا أن المرشد الأعلى فضل مصلحة الجمهورية على مصلحة الأم.
فضرورة بقاء الثورة وديمومتها، تبدو من وجهة نظره أهم من معالجة مشاكل الناس، ومن ثم لم يكن إعلان لجنة الانتخابات الرئاسية في إيران، فوز المرشح المحافظ إبراهيم رئيسي بالانتخابات بنسبة 62% من مجموع الأصوات بالأمر المفاجئ، حيث جرت عملية هندسة واضحة لفوزه قبل بدء سباق الانتخابات، حتى أصبحت الانتخابات أشبه بكرنفال احتفالي يستعرض فيه التيار المحافظ والحرس الثوري قوتهم وسطوتهم بالداخل الإيراني، مكررين مشهد الانتخابات البرلمانية في فبراير 2020، عندما اكتسح التيار المحافظ الأصوات في هذه الانتخابات، وهيمن بصورة مطلقة على مجلس الشوري الإيراني.
سيواجه رئيسي تحديات كبيرة أبرزها أزمة شرعية النظام التي تعرضت لضربة كبيرة بسبب المقاطعة الشعبية الكبيرة التي شهدتها العملية الانتخابية الأخيرة، التي رأت فيها ضرباً من ضروب الثيوقراطية الدينية، إذ لم يشترك سوى 28 مليون ناخب من أصل 60 مليون ممن يحق لهم التصويت، ومن ثم فإن هذه النسبة تؤشر إلى أن رئيسي لا يحظى بمقبولية كبيرة في الداخل الإيراني، حيث ينظر أغلب الإيرانيين على أنه مرشح النظام وليس الشعب، حيث يزداد الإيرانيون إحباطاً وخيبة أمل يوماً بعد يوم، ولديهم قائمة متزايدة من الشكاوى، وكثير من الآمال التي يتطلعون لتحقيقها، بدلاً من تسخير الاقتصاد والطاقة والموارد لآلة الحرب الإيرانية في الشرق الأوسط.
ربما من المفارقات أن هذا التذمر الشعبي تطور خلال السنوات الأربع الماضية من إدارة حسن روحاني الإصلاحية، وعلى رأس القائمة الحالة المزرية للاقتصاد، الناجمة عن الفساد الحكومي وسوء الإدارة، والعقوبات الاقتصادية العقابية واسعة النطاق، التي أعادت إدارة دونالد ترامب فرضها بعد انسحابها من الاتفاق النووي في يونيو 2018، بالإضافة إلى ذلك؛ يبدو أن حقيقة وجود إدارة روحاني في السلطة منذ عام 2013، وخدمتها لفترتين كاملتين، تؤكد أن الفصائل المعتدلة والإصلاحية غير قادرة على إحداث تغيير ملموس، ويرجع ذلك جزئياً إلى محدودية سلطات الرئاسة مقارنة بالمرشد الأعلى والسلطة القضائية والمناصب الأخرى التي لم يتم اختيارها مباشرة من قبل المرشد.
أخيراً هناك القمع الصريح؛ ما زالت أذهان الإيرانيين ماثلة في الاحتجاجات المناهضة للنظام في الحركة الخضراء في يونيو 2009، عندما تم تزوير الانتخابات لصالح الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد، ومن ثم في التظاهرات الشعبية التي نجمت عن أزمة الوقود التي قتلت خلالها قوات الأمن واعتقلت الآلاف في نوفمبر 2019، ثم حدث الإعدام غير المشروع للمصارع نافيد أفكاري في سبتمبر 2020، وأثار هذان الحادثان غضب الجماهير، يضاف إلى ذلك قيام الحرس الثوري بإسقاط طائرة ركاب تابعة للخطوط الجوية الأوكرانية، مما أسفر عن مقتل 176، بينهم عشرات الإيرانيين، خلال توترات شديدة مع الولايات المتحدة في يناير 2020 – بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني بطائرة مسيرة أمريكية.
ومع هذه المظالم سيكون رئيسي أمام مشهد قابل للانفجار في أي لحظة، خصوصاً في ظل الطلاق الذي حصل مع حوزة قم، حيث أظهرت نسب التصويت في الانتخابات، حصوله على أدنى نسبة في مدينة قم، التي تُعتبر تاريخياً حاضنة النظام، في حين حصل على أعلى الأصوات في مدينة مشهد، ما يعني عملياً انتقال السلطة من قم إلى مشهد، وما يمثله هذا الانتقال من تداعي مستقبلي على مشهد النظام السياسي الإيراني في مرحلة ما بعد خامنئي.
إن الإطاحة بآمال الإيرانيين مقابل الإبقاء على ثورة الخميني وجمهوريته، ستجعل من فترة رئاسة رئيسي غير مستقرة إلى حداً كبير، خصوصاً في ظل السجل المخالف لحقوق الإنسان الذي يرتبط به منذ حقبة الثمانينات من القرن الماضي، حيث قالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أغنيس كالامارد، تعقيباً على أخبار فوز رئيسي: “إن صعود إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة بدلاً من التحقيق معه في الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاختفاء القسري والتعذيب، هو تذكير قاتم بأن الإفلات من العقاب يسود في إيران”، فضلاً عن ذلك أحجمت الدول الأوروبية والولايات المتحدة ودول عربية عديدة عن توجيه التهنئة له بمناسبة فوزه بالانتخابات، وهو ما يؤشر إلى مدى التحدي الكبير الذي سيواجهه رئيسي في الداخل والخارج، خصوصاً وأنه الرئيس الإيراني الأول الذي يصل لمنصب الرئاسة، وهو خاضع للعقوبات الأمريكية.
هل يصبح قاضي الموت صانع الآمل؟
من الواضح أن قدراً كبيراً من الصورة المحيطة برئيسي تركز في المقام الأول على سمعته المكتسبة كعضو في “لجنة الموت”، التي أشرفت على الإعدام السري لآلاف السجناء السياسيين في صيف عام 1988، والتي وصفها المؤرخ البارز “إرفاند أبراهاميان” بأنها ” عمل عنف غير مسبوق في التاريخ الإيراني – غير مسبوق في الشكل والمحتوى والشدة “، حيث يربط العديد من الإيرانيين الآن رئيسي بهذا الفصل المظلم من تاريخ بلادهم، إذ لا يمكن إنكار عمليات الإعدام التي نفذتها “لجنة الموت”، لكن مشاركة رئيسي، بما يتجاوز الوحشية المحددة الموجودة في متناول اليد، تكشف عن رؤى مهمة في شخصيته السياسية، من العدل أن نتساءل ما الذي كان يفعله شاب في السابعة والعشرين من عمره، وهو يتداول في حياة المعارضين في المقام الأول، تكشف الأشرطة المسربة عن أعمال تلك اللجنة في أغسطس 2016، أنه لم يكن مستثمراً بشكل خاص في الشغف الإيديولوجي، بل كان الولاء للخميني هو الأكثر ثباتاً في مسيرة رئيسي التي استمرت أربعة عقود، إنه رجل مدفوع أولاً وقبل كل شيء بإخلاص عميق لاكتساب السلطة، بدلاً من التمسك المتعصب بالإيديولوجيا، أيا كان ما تتطلبه الأوقات السياسية – ومن أي اتجاه تنبثق هذه المطالب – فهو مستعد للاستجابة، بعد ثلاثين عاماً من مشاركته في لجنة الموت، عندما كان هدفه كقضاء هو مناشدة الجمهور بدلاً من رؤسائه الثوريين قبل الترشح للرئاسة، نصب نفسه اليوم على أنه مصلح جنائي ومكافح للفساد ورئيس للجمهورية.
وفي هذه الصورة؛ يصبح إنعدام الأمن المجتمعي هذا أكثر قابلية للإشتعال من خلال شخصية رئيسي العقابية، ومن الجدير بالذكر أنه أول رئيس إيراني تتضاءل خلفيته التنفيذية إلى حد كبير أمام ما يقرب من أربعة عقود من الخبرة في مجال العقوبات، في الواقع؛ أثناء محاولته تسليط الضوء على ذلك خلال إنتخابات عام 2017، وصف روحاني بشكل لا يُنسى رئيسي بأنه واحد من “أولئك الذين لم يعرفوا شيئاً سوى الإعدام والسجن”، ومن المرجح أن يؤثر هذا الجانب من السيرة الذاتية لرئيسي في كيفية إستجابته للإضطرابات الشعبية – فيما لو حدثت مرة أخرى في قادم الأيام.
إن طريقة صعود رئيسي إلى الرئاسة، ومزاجه العقابي للغاية، ومسألة خلافة خامنئي، تعزز بيئة سياسية خصبة لإدارة رئيسي المستقبلية، ومعها إيران، لتغرق أكثر في مستنقع النزعات الإستبدادية، حيث ستكون الدبلوماسية الإيرانية العامة من أولى ضحايا رئاسة رئيسي، بالنسبة للكثيرين داخل إيران وخارجها، فإن إسمه ملوث إلى الأبد بإنتهاكات حقوق الإنسان وقتل مستقبله، وإذا ظهر مرة أخرى في السنوات المقبلة محور مناهض لإيران شبيه بالمحور الذي قاده الرئيس السابق دونالد ترامب، فسيجد أداة دعاية قوية يجسدها الرئيس الإيراني نفسه، سيكون تشويه صورة البلد، وستكون عملية تشكيل إجماع دولي ضده أسهل بكثير، مما كان عليه خلال سنوات روحاني.