المرحلة الثالثة من حرب روسيا على أوكرانيا قادمة… المرحلة الأولى الحرب التي شنّها الكرملين أواخر فبراير الماضي، والتي بلغت ذروتها في معركة كييف، باءت بالفشل.
تعثّرت معركة دونباس التي استمرت لأشهر في شرق أوكرانيا، والتي أنتجت المرحلة الثانية، حيث لم يكن لدى روسيا ما يكفي من القوّة لاستكمال السيطرة على المنطقة.
بعد أكثر من 5 أشهر من حربها، توظّف روسيا ما يقرب من 100 % من قوّتها العسكرية التقليدية ضدّ أوكرانيا، لكن مع تحقيق نتائج محدودة. فروسيا تخسر بثبات قوّتها العسكرية، بينما تواصل أوكرانيا الكفاح. وقد أمضت موسكو الشهر الماضي في الإمتناع عن القيام بعمليات واسعة النطاق في دونباس وأماكن أخرى، في محاولة للتعافي من المعارك السابقة، وبالنسبة لأوكرانيا، فإنّ تلك الفجوة تعتبر فرصة سانحة.
وبينما لا تزال روسيا تحاول التقدّم، يملك الجيش الأوكراني الفرصة لتوجيه ضربة حاسمة، من شأنها أن تسمح له بالتغلّب على روسيا وتحديد مسار بقية الحرب.. بعبارة أخرى، فقد تكون نقطة تحول في الحرب.
المرحلة الثالثة الآن يمكن أن تحدّد ما تبقى من الحرب، وإذا ما نجحت، فقد تؤدّي إلى مرحلة رابعة تهزم فيها أوكرانيا روسيا. وتعتقد غالبية الخبراء أنّ الأشهر القليلة المقبلة ستحدّد نتيجة الحرب.
ومن الواضح أنّ الكرملين يتفهّم المخاطر، وتعمل موسكو على إعادة نشر الكثير من قواتها بشكل عاجل من دونباس إلى جنوب أوكرانيا، وذلك في مواقعها الأكثر عرضة للخطر.
نتائج محدودة
وفي حين أنّ القتال شرق أوكرانيا كان محتدماً منذ اليوم الأوّل للغزو الروسي واسع النطاق، إلاّ أنّ المنطقة أصبحت محور التركيز الأساسي لروسيا خلال المرحلة الثانية من الحرب في معركة دونباس، التي بدأت في منتصف أبريل.
وبعد أشهر، كان لدى روسيا ما يقرب من 78 % من ولايات دونيتسك ولوهانسك تحت سيطرتها، والتي تمّ ذكر الإستيلاء الكامل عليها مراراً وتكراراً على أنّه الهدف الرئيسي للحملة الجديدة. ومع ذلك، فقد احتلت بالفعل ما مجموعه 30 % من أراضي المنطقتين منذ الغزو الروسي 2014-2015. وذلك على الرّغم من حقيقة أنّه في ذروة معركة دونباس، ركّزت روسيا ما يقرب من 65 % من قوّتها العسكرية الإجمالية في أوكرانيا في شمال دونباس.
مرّ ما يقرب من شهر منذ أن استولت روسيا بعد أكثر من 60 يوماً من القتال، على سيفيرودونيتسك وليسيتشانسك، المدن التوأم للوهانسك أوبلاست، في أواخر يونيو وأوائل يوليو. وخلال الشهر التالي، أوقفت القوات الروسية “وقفة عملياتية” (operational pause) لاستعادة وحداتها المنهكة بشدّة.
ويتفق الخبراء في استطلاع أجرته صحيفة “كييف إندبندنت“، على أنّ روسيا دفعت ثمناً باهظاً بشكل غير معقول، مقابل مكاسبها في معركة دونباس.
القوة الروسية غير كافية لكل ما يريده الكرملين
استمرت “الوقفة العملياتية” إلى حدّ كبير حتى نهاية يوليو. وخلال ذلك الوقت، تمكّنت روسيا من تحقيق مكاسب تكتيكية فقط بالقرب من باخموت في دونيتسك أوبلاست، مثل الإستيلاء على محطة فوهليهيرسك من قبل مرتزقة فاغنر في 26 يوليو.
كما قال معهد دراسة الحرب (ISW)، وهو مركز أبحاث مقرّه الولايات المتحدة، في 27 يوليو، إنّ الجيش الروسي كان قادراً على القيام بعمليتين هجوميتين مهمّتين فقط، ضدّ مدينتي باخموت وسيفرسك، على التوالي.
وأضاف المعهد أنّه بخلاف ذلك، لم تتمكن روسيا من الحفاظ على وتيرة عمليات هجومية مماثلة، أو تحقيق مكاسب إقليمية مماثلة في أماكن أخرى في أوكرانيا. ويعتقد مركز الأبحاث أنّ الهجوم الروسي المطوّل في دونباس سيتوّج على الأرجح قبل الإستيلاء على أيّ مناطق حضرية رئيسية أخرى في أوكرانيا. ولا تزال القوة الروسية التي يصل قوامها إلى 150 ألف جندي، غير كافية لكل ما يريده الكرملين في أوكرانيا.
ويعتقد الخبراء أنّ روسيا ارتكبت الخطأ الإستراتيجي المتمثل في تشتيت قوّتها الضاربة المحدودة، عبر عدّة محاور في أوكرانيا بدلاً من محور واحد فقط. كان عليها أن تتخلى عن كييف وشمال أوكرانيا، وعن عدم الإنسحاب من الجنوب، اضطرت روسيا إلى انهاك الكثير من القوّة العسكرية على حساب هجماتها في دونباس.
وقال أندري زاغورودنيوك، وزير الدفاع الأوكراني السابق ورئيس مركز استراتيجيات الدفاع ومقره كييف: “هم يفتقرون إلى القوّة للحصول على نتائج بنسبة 100 %”. وتابع: “يمكننا أن نرى أنّه بعد النجاح في لوهانسك أوبلاست، وجدوا صعوبة في تعزيز مكاسبهم في دونيتسك أوبلاست. لقد تحدثنا إلى العديد من المحللين، بما في ذلك زملائنا الأمريكيين، ومعظمهم يشك في قدرة روسيا على الإستيلاء الكامل لدونيتسك أوبلاست”.
مسرح جديد
قد لا تنتهي معركة دونباس بالكامل، لكنّ قطاعي خيرسون وزابوريزهيا يكتسبان أهمية متزايدة بشكل لافت، ويحقق الجيش الأوكراني مكاسب متزايدة. ووفقاً للسلطات الأوكرانية المحلية، فقد تمّت إستعادة 60 بلدة وقرية في ضربات تكتيكية على طول خط الجبهة البالغ طوله 230 كيلومتراً في منطقة خيرسون أوبلاست، وذلك اعتباراً من 3 أغسطس.
ووصلت القوّات المسلّحة الأوكرانية إلى نقطة الإستهداف العلني لخطوط الاتصالات الأرضية لروسيا، وإخراج بنيتها التحتية عن مسارها عبر نهر دنيبرو. كما تمّ تدمير أكثر من 50 مكباً للوقود والذخيرة خلال الأسابيع القليلة الماضية.
من بين الجسور الـ3 التي يمكن استخدامها لتزويد الجيش الروسي في خيرسون، أصبح إثنان منها غير صالح للإستخدام مع ضربات هيمارس HIMARS. الجسر الأخير المؤدّي إلى خيرسون، سد محطة كاخوفسكا للطاقة، يقع بالفعل في نطاق الإستهداف الأوكراني.
تتقدم ببطء خطة قطع الإمدادات العسكرية الروسية ومنعها في خيرسون، التي نوقشت لأسابيع في وسائل الإعلام.
التوتّر المتزايد واضح
في الآونة الأخيرة، شوهدت القوات الروسية تعيد نشر عشرات من قواتها بشكل عاجل من دونباس إلى شبه جزيرة القرم في اتجاه خيرسون أو إقليم زابوريزهيا عبر مدينة ميليتوبول.
ووفقاً للسلطات الأوكرانية، فقد نشرت روسيا ما مجموعه 25000 جندي تقريباً في خيرسون. وأعيد نشر ما يقرب من 10000 من هؤلاء الجنود عبر آخر معبر خرساني متاح في نوفا كاخوفكا. كما تقوم روسيا بالفعل بتركيب الكثير من الصنادل العائمة للحفاظ على إمدادات مجموعتها العسكرية التي أعيد انتشارها مؤخراً.
وقالت ISW في الأول من أغسطس إنّ إعادة انتشار وحدات VDV المحمولة جواً الروسية في الجنوب، قد يوقف كلّ العمليات الهجومية الروسية ضدّ سلوفينسك. لكن مع ذلك، تمتلك روسيا دفاعاً قوياً ومتعدد المستويات في خيرسون، وقد استقدمت تعزيزات عاجلة إلى زابوريزهيا أوبلاست.
ويمكن أن تبدأ معركة جديدة في أيّ مكان في مناطق السهوب الجنوبية لأوكرانيا. وقد تختار أوكرانيا الذهاب إلى خيرسون أو محاولة توجيه ضربة نحو ميليتوبول، وهي نقطة نقل رئيسية بمطار استراتيجي.
ميزة تقنية
وأصبحت المرحلة الثالثة من الحرب ممكنة إلى حدّ كبير بفضل المساعدة الهائلة من الغرب، خصوصاً المدفعية الثقيلة والذخيرة والمكونات.
وكانت معركة دونباس مأساة في حدّ ذاتها عندما نفدت ذخيرتها “السوفيتية القديمة” للمدفعية الأوكرانية في وقت ما في أوائل الصيف. فقد صمتت البنادق الأوكرانية في خضم اندفاع روسيا المدمّر للمطالبة بـ سيفيرودونيتسك. كانت نقطة حاسمة في الحرب، وكان يمكن أن تكون بمثابة نهاية لكل أمل. بعد تجريدها من الأسلحة الثقيلة، لن يكون لدى أوكرانيا فرصة جادة ضدّ روسيا. ولحسن الحظ، كانت تلك الفجوة اللوجيستية الكارثية قصيرة نوعاً ما.
بفضل الإمدادات الغربية الهائلة، تمكن الجيش الأوكراني من التحوّل بسرعة إلى قطع المدفعية والذخائر المتوافقة مع معايير الناتو، في كلّ تنوعها من جيوش غربية مختلفة. وتمكنت أوكرانيا أيضاً من استئناف النشاط المدفعي بكثافة بسرعة مع القطع الغربية الجديدة.
كذلك وبفضل الإمدادات الغربية المستمرة، تتقدم أوكرانيا ببطء وثبات من حيث قوتها التكنولوجية مقارنة بروسيا، التي تستخدم أسلحة أقل تقدماً ودقّة، وإنْ كان ذلك بأعدادٍ أكبر.
نتيجة لذلك، تفقد روسيا ببطء قوتها الشاملة في أوكرانيا في معاركها المكلفة الجارية. أصبحت المزيد من الوحدات القتالية غير فعالة وتتطلب التجديد، ويرفض المزيد من الأفراد العسكريين المشاركة في الأعمال العدائية، وهناك المزيد من التركيز على المرتزقة غير النظاميين مثل مجموعة فاغنر.
ومع ذلك، فلا يمكن القول إنّ روسيا تعاني من ضعف شديد في القوّة البشرية ذات القدرات القتالية.
روسيا تشكّل ما يسمى “الفيلق الثالث للجيش”
من المعروف أنّ روسيا تقوم بتشكيل ما يسمى “الفيلق الثالث للجيش”، ومقرّه مدينة مولينو في إقليم نيجني نوفغورود. ومن المتوقع أن يضم “الفيلق”، وفقاً للإستخبارات الأوكرانية والغربية، ما يصل إلى 10000 إلى 15000 مجنّداً قادمين من الحياة المدنية مع خبرة عسكرية قليلة أو معدومة من أجل المال فقط.
ويعتقد الخبراء أنّه إلى جانب “كتائب المتطوعين” الأكثر شكوكاً والأقل قدرة من أيّ وقت مضى التي تمّ تشكيلها في بعض المناطق الروسية، فمن المحتمل أن يكون لتلك القوّة تأثير محدود للغاية على الأعمال العدائية في أوكرانيا.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ التخلّص من الأجهزة والمركبات القديمة، التي كانت تجمع الغبار في القواعد الروسية منذ عقود، يمثل أيضاً مشكلة أكبر بكثير ممّا يتخيّله معظم الناس.
وقال زاغورودنيوك: “كما هو الحال مع أيّ شيء، فإنّ النظام بأكمله قوي مثل أضعف جزء منه”.
“إذا كان لديك 100 دبابة، لكنّ عشرة أطقم دبابات مدربة فقط، فذلك يعني في الواقع، أنّ لديك عشر دبابات فقط. أكبر مشكلة للجيش الروسي هي القدرة التنظيمية لتوليد المزيد من القوّة. القدرة الإنتاجية لنظامهم ليست فقط يكفي. سيتعين عليه قضاء الكثير من الوقت في تعبئة المجنّدين وتدريبهم وتكليف ضباطهم وما إلى ذلك”.
لذا، وفي حين أنّ نافذة الفرص تلك مفتوحة، فإنّ أوكرانيا لديها فرصة للتغلّب على روسيا بينما لا تزال تعوّض خسائرها. يجب أن يكتمل ذلك قبل نوفمبر، عندما يأتي الشتاء في أوكرانيا وسيجعل البرد والمطر من الصعب للغاية الإستمرار في الهجوم. ومن الأهمية بمكان أن لا تضيّع أوكرانيا تلك الفرصة، فالوقت ليس في صالحها، فيما حرب الإستنزاف التي لا نهاية لها، هي ببساطة ليست خياراً يمكن أن تتخذه الدولة.
أمّا في الوقت الحالي، فمن غير الواضح أين يمكن لأوكرانيا توجيه الضربة الرئيسية، ممّا يترك روسيا تخمّن وتشتّت قواتها بين كلّ المناطق الممكنة، وذلك ما تفعله الآن.
ويعتقد زاغورودنيوك أنّ الضربة المركّزة على طول محور واحد فقط، مع استخدام كلّ المزايا التي توفّرها الأسلحة الغربية، يمكن أن تكون ناجحة.
ويقول الخبير: “لكن يتعيّن على شركائنا الغربيين الاستمرار في تزويدنا بالأسلحة والمعدّات على الأقل بالوتيرة نفسها أو حتى أسرع، ومن المهم أن لا يقعوا في المداولات، ففي كل مرّة تدخل فيها الحرب مرحلة جديدة، لاحظنا أنّهم يدخلون في المداولات، إذا كان هناك نجاح، أو إذا كان بإمكاننا القيام بذلك، وما إلى ذلك… تميل تلك المداولات إلى إثارة الشك الذاتي”. وختم: “فقط أعطنا ما نطلبه، وسننهي تلك الحرب في أقرب وقت ممكن. إذا سئم أي أحد حقاً من تلك الحرب، فهي أوكرانيا”.
شاهدوا أيضاً: ماريوبول جحيم على الأرض.. ومعركة الشرق الأوكراني مفصلية