أعاد مقتل أيمن الظواهري في الحي الديبلوماسي وسط العاصمة الأفغانية كابل الجدل مجددا حول أزمة القيادة داخل تنظيم القاعدة بعد مقتل معظم القيادات التاريخية للتنظيم، كما لفتت عملية الاغتيال الأنظار مجددا إلى علاقة القاعدة بإيران، على اعتبار أن المرشحين لخلافة الظواهري يقيمون في إيران أو على الأقل يتخذونها ممرا حيويا يربط القيادة العامة في أفغانستان بأفرع التنظيم الأخرى، وهذا البعد الحيوي لإيران في استراتيجية القاعدة جعلها بمنأى من الاستهداف بأوامر صارمة من أسامة بن لادن منذ حقبة الزرقاوي إلى اليوم.
أزمة القيادة
الثابت أن وثائق مسربة عن القاعدة ومؤرخة بتاريخ 31 من آذار/مارس 2014 قد قطعت بشكل واضح بأن الشخصيات التي ستخلف أيمن الظواهري في قيادة القاعدة هي: أبو الخير المصري ثم أبو محمد المصري ثم سيف العدل ثم أبو بصير ناصر الوحيشي، وكان عبد الرحمن المغربي ضمن الشخصيات الموقعة على هذه الوثائق، حيث تعهد بتنفيذ بنودها في حال وفاة الظواهري أو مرضه، وبما أن سيف العدل هو الشخصية الوحيدة الباقية على قيد الحياة بين هذه الشخصيات فسيكون تلقائيا الأمير الجديد لتنظيم القاعدة خلفا لأيمن الظواهري. لكن هل يمكن أن يتولى سيف العدل قيادة التنظيم استنادا إلى هذه الوثائق؟ الجواب هو لا، لأسباب أهمها:
أولا: أن الوثائق اشترطت أن يكون سيف العدل مقيما في أفغانستان أو في أحد أفرع التنظيم، وبما أنه مقيم في إيران فإن توليه قيادة التنظيم خيار مستبعد تماما، إلا إذا تمكن من الدخول إلى أفغانستان.
ثانيا: أن أسامة بن لادن لم يكن مرتاحا لفكرة إسناد منصب قيادي رفيع إلى سيف العدل، حيث عبر لعطية الليبي عن ذلك في رسالة سرية عثر على نسخة منها في منزله بأبوت آباد وقال بن لادن بالحرف:” الشيخ أبو الخير والشيخ أبو محمد المصري متقدمون على أخينا أبي خالد سيف العدل مع أني أحسب أن له جهوده التي تفيد الجهاد والمجاهدين ولكن في الأعمال العسكرية التي هي دون استلام القيادة العامة أو النيابة سواء كان نائبا أولا أو ثانيا”.
ثالثا: ستتجنب القاعدة بيعة سيف العدل أميرا عاما لها لتفويت الفرصة على خصومها ومنافسيها الذين سيعتبرون القرار ترسيخا لعلاقة مفترضة بين القاعدة وإيران، وسيهمها في هذا السياق أكثر ما سيروجه تنظيم داعش من تحول القاعدة إلى أداة ابتزاز بيد الحرس الثوري الإيراني كما هو الحال مع أدواتها الأخرى كحركة حماس والحوثيين وحزب الله اللبناني، والقاعدة تعيش في خضم تنافس محموم مع تنظيم داعش على شرعية تمثيل الجهاد العالمي واستقطاب الأجيال المتشددة الصاعدة، ولا تريد أن تهدي لتنظيم داعش انتصارا معنويا باردا عليها.
رابعا: من شأن تنصيب سيف العدل أميرا عاما أن يضع تنظيم القاعدة في مأزق خطير ومحرج، وقد يعصف بمصداقية أهم فروعه وهو الفرع اليمني، فتنظيم القاعدة في اليمن يصدر نفسه باعتباره حائط صد أمام المشروع الإيراني في اليمن، وراهن على هذه السردية في اختراق القبائل اليمنية، لكن كيف يمكنه التوفيق بين هذه السردية وبين القرارات والتوجيهات التي ستأتي من إيران إن بويع سيف العدل أميرا عاما للتنظيم.
هل يعني ذلك كله أن تأثير سيف العدل كان هامشيا في قرارات القاعدة؟ كلا، فالرجل أثبت عناده وقدرته على فرض مواقفه وإن اضطره ذلك إلى تجاوز صلاحياته وموقعه القيادي داخل القاعدة، تجلى ذلك واضحا في رفضه انفاذ الاتفاق الذي وقعه أبو الخير المصري مع جبهة النصرة عشية انفصالها عن تنظيم القاعدة، رغم أن أبا الخير المصري كان حينها الرجل الثاني في القاعدة وسيف العدل كان النائب الثالث للظواهري، وبدا أن كل المراسلات بين هذا الأخير وبين المجموعات الموالية له في سوريا تتم عبر سيف العدل وأبو محمد المصري في إيران.
ثمة خيار آخر قد تلجأ إليه القاعدة لو قررت تنصيب سيف العدل قائدا عاما لها وهو ترتيب دخوله إلى أفغانستان بتنسيق مع شبكة حقاني التي مازال تحالفها مع القاعدة قائما، هذا إن لم يدخل الرجل مسبقا إلى أفغانستان في الشهور الماضية أو على الأقل خلال الفترة التي أعقبت مقتل أيمن الظواهري، لكن هل ستسمح إيران بخروجه من أراضيها، وهي التي دأبت على الاحتفاظ بكل أوراق الابتزاز التي تملكها وتشهرها في وجه المجتمع الدولي من حين لآخر لجني ما أمكنها من المكاسب في النسخة الجديدة من الاتفاق النووي.
عبد الرحمن المغربي
في 12 من كانون الثاني /يناير 2021 أعلن وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو إدراج القيادي في القاعدة عبد الرحمن المغربي في لائحة العقوبات، ووضع مكافأة مالية بقيمة 7 ملايين دولار مقابل أي معلومة تؤدي إلى تحديد مكانه، وأكد بومبيو أن عبد الرحمن المغربي ينشط انطلاقا من إيران وتحت غطاء صلب من الحرس الثوري الإيراني. في الفقرات التالية سنقتفي أثر عبد الرحمن المغربي ونسلط الضوء على أدواره داخل تنظيم القاعدة، وامكانية خلافته للظواهري في قيادة التنظيم.
ولد عبد الرحمن المغربي واسمه الحقيقي (محمد أباتي) في مدينة مراكش وسط المغرب عام 1970 هاجر إلى أفغانستان والتحق بمعسكرات القاعدة. سريعا لفتت شخصيته أنظار قادة كبار في التنظيم، فعهدوا إليه بمسؤوليات كثيرة. لم يكن عبد الرحمن المغربي ضمن كوادر القاعدة الذين لجأوا إلى إيران عقب الاجتياح الأمريكي لأفغانستان وإنما توجه بمعية عطية وأبو يحيى الليبيين ومصطفى أبو اليزيد وعزام الأمريكي إلى منطقة وزيرستان على الحدود الأفغانية الباكستانية حسب رسالة سرية كتبها (وكيل خان) إلى أسامة بن لادن في 2004. وفي ذات الرسالة أخطر (وكيل خان) أسامة بن لادن بأن عبد الرحمن المغربي منخرط في النقاشات مع مبعوثي الزرقاوي لتسوية بعض نقاط الخلاف قبل إعلان هذا الأخير بيعته للقاعدة، يدل هذا على أن محمد أباتي قد اضطلع مبكرا بأدوار حيوية في أهم المنعطفات التي مر منها تنظيم القاعدة، ثم اقترب الرجل أكثر من دائرة صنع القرار في التنظيم بزواجه من ابنة أيمن الظواهري.
استعمل عبد الرحمن المغربي الاسم المستعار (منير) في تحركاته ومراسلاته الخاصة، وبقي يعمل في الظل إلى أن تعرض لمحاولة اغتيال في 13 من كانون الثاني /يناير 2006 عندما شنت طائرة أمريكية من دون طيار غارة جوية استهدت اجتماعا مفترضا لقادة كبار في تنظيم القاعدة شمال غرب منطقة باجور على الحدود الأفغانية، حينها قال الرئيس الباكستاني برويز مشرف بأن الغارة استهدفت مقربا من أيمن الظواهري، ثم صدر تصريح من المخابرات الباكستانية مفاده أن القصف استهدف عبد الرحمن المغربي وأبو خباب المصري، لكن تبين لاحقا أن أيا منهما لم يقتل في العملية.
استلم عبد الرحمن المغربي مسؤولية إدارة مؤسسة السحاب الذراع الإعلامية للقاعدة، وهو منصب حساس للغاية، حيث سيكون على علم بالمنازل الآمنة لقادة القاعدة، لاستلام التسجيلات الصوتية والمرئية الخام منها، وتوضيبها وحذف المشاهد ذات الحساسية الأمنية منها، وكشفت وثائق أبوت أباد أن المغربي مسؤول أيضا عن التواصل والتنسيق مع وسائل الإعلام العالمية لإجراء المقابلات مع قادة القاعدة أو تزويدها ببعض المواد الحصرية.
بعد مقتل مصطفى أبو اليزيد تولى عطية الله الليبي مكانه كقائد عام لتنظيم القاعدة مهمته تنسيق التواصل بين أسامة بن لادن وبين أفرع التنظيم الأخرى (مسؤول الأقاليم)، والإشراف عليها في حال غيابه. راسل أسامة بن لادن عطية الله الليبي طالبا منه ترشيح بعض الشخصيات الجديرة بمنصب نائب القائد العام. رد عليه عطية الله الليبي في رسالة مؤرخة ب 17 من تموز/يوليو 2010 وأخبره أن المغربي هو الرجل المناسب لأنه:” عقلية طيبة جدا ودين متين نحسبه كذلك، وخلق عال وكتمان وصبر وفكر صائب ووعي ممتاز ويصلح للقيادة” وأضاف ” أنه الآن مسؤول السحاب لكن يمكن اقتطاعه منها وترقيته”. في 07 من أغسطس/آب 2010 أرسل بن لادن تعقيبا على رسالة عطية الله قرر فيها تعيين عبد الرحمن المغربي نائبا أولا أو ثانيا لمسؤول الأقاليم لمدة سنة قابلة للتجديد، حسب وضعية “أبي خليل” الرجل الذي اقترحه بن لادن لمنصب النائب الأول.
قبل أن يتم تعيين المغربي نائبا لمسؤول الأقاليم (القائد العام) كانت له صلاحيات واسعة فيما يخص السياسة الإعلامية لتنظيم القاعدة، إلى الدرجة التي يطلع فيه على رسائل أسامة بن لادن السرية إذا تضمنت فقراتها تعليمات أو مقترحات ذات الصلة بالدعاية والإعلام، وهو ثالث ثلاثة ممن يتمتعون بهذا الامتياز بعد عطية الله الليبي ومصطفى أبو اليزيد حسب وثيقة من وثائق أبوت أباد.
بعد مقتل عطية الله الليبي تم تعيين عبد الرحمن المغربي قائدا عاما لتنظيم القاعدة ومشرفا على أفرعه في العالم. ولا شك أن مهام القائد العام تنطوي على مسؤوليات كثيرة منها: تنسيق التواصل بين قادة الأفرع وبين أمير التنظيم ومتابعة ترتيبات العمل الخارجي (العمليات التي يخطط لها التنظيم خارج أفرعه)؛ وفي حال غياب أمير التنظيم لدواع أمنية أو صحية يباشر القائد العام بنفسه تدبير أمور التنظيم الى حين عودته. وقراءة في وثائق أبوت أباد تكشف أن أسامة بن لادن يعتمد كليا على قائده العام في إدارة شؤون تنظيمه، ولا يمكن لأحد أن يتواصل معه إلا بواسطته، إنه بمثابة الحاجب في التقليد السلطاني القديم أو رئيس الوزراء في النظام السياسي الحديث.
سيف العدل أم المغربي
لا شك أن طريق عبد الرحمن المغربي إلى منصب أمير تنظيم القاعدة الشاغر لن يكون سالكا، فهو وإن حاز ثقة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري إلا أن هناك شخصيات أخرى متنفذة لا يروق لها الرجل، هذا ما أخبر به عطية الله الليبي أسامة بن لادن في رسالة خاصة، إذ طلب الليبي من بن لادن تعيين عبد الرحمن المغربي نائبا للقائد العام بواسطة رسالة صوتية حتى يدعن الجميع لقرار التعيين لأن هناك بعض (الكبار) -حسب تعبير الليبي- لن يقبلوا بصعود المغربي إلى ذلك المركز الحساس في التنظيم. فمن هم هؤلاء الكبار وهل يمكن أن يكون سيف العدل واحدا منهم؟
الثابت أن هناك تباينا في المواقف بين سيف العدل وبين عبد الرحمن المغربي، تجلى ذلك في الموقف من توجهات أبي مصعب الزرقاوي، إذ من المعروف أن سيف العدل كان متحمسا لسياسات الزرقاوي، واحتضنه عندما أنشأ هذا الأخير معسكره الخاص في منطقة هيرات بأفغانستان وأمن له الدعم والرعاية، وكتب سيرة مختصرة له أشاد به فيها، ثم حاول سيف العدل إعادة بعث تجربة الزرقاوي في سوريا بعد انفصال جبهة النصرة عن القاعدة، مستعينا في ذلك بأبي القسام الأردني النائب السابق لأبي مصعب الزرقاوي. في حين لم يكن عبد الرحمن المغربي مرتاحا إلى توجهات الزرقاوي وأفكاره، وتداول بشأن ذلك مع عزام الأمريكي الذي عبر بدوره عن امتعاضه من سياسات الرجل، حسب رسالة خاصة بعثها عزام الأمريكي إلى أسامة بن لادن.
عبد الرحمن المغربي كان ملازما لعطية الله الليبي وعزام الأمريكي لفترة طويلة في منطقة القبائل، وأنتجوا معا الكثير من الإصدارات المرئية التي نشرتها مؤسسة السحاب، وهؤلاء يمثلون تيارا فكريا داخل القاعدة يحاول النأي بها عن بعض الأفكار الوهابية، لذلك كان عزام الأمريكي أول قيادي في القاعدة أعلن صراحة رفضه للفتاوى التي كانت رائجة في المنتديات الجهادية، وأول من خرج منددا بعبارات حادة بتنظيم داعش أول ظهوره، وأول من فاتح أسامة بن لادن بموضوع إعلان القطيعة بين القاعدة ودولة العراق الإسلامية، وكل هذه الخرجات شاور فيها عبد الرحمن المغربي وتقاطعت مواقفهما بخصوصها. وبما أن المغربي كان ملازما لعطية الله الليبي وكان نائبا له فلا شك أنه على علم برفض أسامة بن لادن إسناد المناصب القيادية إلى سيف العدل، فهل سيسمح بقيادته للقاعدة ضدا عن رغبة مؤسس التنظيم.
ثمة نقطة مهمة في سياق الحديث عن المغربي وهي علاقة الرجل بإيران. فالذي لا شك فيه أنه لم يكن من الذين دخلوا إلى إيران عقب التدخل الأمريكي في أفغانستان، والثابت أيضا حسب الكثير من وثائق أبوت أباد أنه كان موجودا في منطقة وزيرستان حتى أنه تعرض هناك لمحاولة اغتيال في 2006، والتقى فيها بكبار قادة القاعدة وانتج فيها أفلاما لمؤسسة السحاب، والذي نقطع به أيضا أنه حتى 2014 مازال ينشط في المنطقة الحدودية بين أفغانستان وباكستان استنادا الى الوثيقة التي تحدثت عن ترتيبات ما بعد الظواهري، لكن لا يمكن تجاهل التقارير الاستخباراتية التي أكدت أن الرجل ينشط انطلاقا من إيران، وتصريحات مايك بومبيو في هذا السياق لا بد أن تقوم على أساس متين من المعطيات والمعلومات الدقيقة، والذي نرجحه أن يكون عبد الرحمن المغربي بمثابة همزة الوصل بين القيادات الموجودة في إيران وتلك الموجودة في أفغانستان، وأن يكون تردده بين البلدين ضمن صلاحياته كقائد عام (مسؤول الأقاليم) مهمته التنسيق بين أمير التنظيم وأفرعه الأخرى وكذا تنسيق المشاورات بين قيادات الصف الأول. وساعده في مهمته هذه هويته الخفية، وشح المعلومات المتوفرة عنه.
خيارات التنظيم
إذا تعذر على سيف العدل تولي منصب أمير القاعدة إما بسبب إقامته في إيران أو انفاذا لرغبة بن لادن بعدم إسناد المناصب القيادية إليه، وتعذر المنصب أيضا على المغربي، بسبب فيتو (الكبار) أو لسبب آخر من الأسباب فأمام القاعدة جملة من الخيارات لعل من أهما:
نقل القيادة العامة من أفغانستان إلى إحدى فروع التنظيم الأخرى، وقد يكون الفرع في منطقة الساحل الأقرب لهذه المهمة، ولو بقي ناصر الوحيشي أو أبو الخير المصري على قيد الحياة لانتقلت إمارة التنظيم إلى اليمن أو سوريا، لكن وبما أن الرجلين قد قتلا وأوضاع الفرع اليمني والسوري مزرية فسيبقى الفرع في الساحل البديل الممكن ولو لمرحلة انتقالية على الأقل.
ثانيا: أن يبايع مجلس شورى القاعدة شخصية أخرى من غير الشخصيات الكبيرة المرشحة للمنصب، وهذا ما أضافه المغربي في نهاية الوثيقة التي كتبتها ووقع عليها بخط يده.
ثالثا: وهو الخيار الأقرب إلى الواقع وهو ترتيب دخول سيف العدل إلى أفغانستان بمساعدة من شبكة حقاني، حتى وإن تطلب ذلك بعض الوقت، ويمكن خلالها لمجلس الشورى تعيين أمير بالوكالة أو قائد مؤقت إلى حين إعداد موقع آمن في أفغانستان لسيف العدل.