أخبار الآن | (تحليل)
مثلت النساء دورا هاما في الحياة اليومية لتنظيم داعش أثناء احتلاله لأجزاء واسعة في العراق وسوريا، كانت بجلها تنحصر في العمل بفرقة “الحسبة” النسوية التي تراقب الأسواق والمال والعباد في تلك المناطق، إضافة إلى أعمال أخرى من يوميات الحياة البسيطة.
ولم يعرف في أيام ذروة قوة التنظيم عام 2014، دور كان قد أثار الجدل للنساء في داعش، مع ما تحمله ايديولوجيا التنظيم من أدوار محدودة لهن، إلا أن هذا التصور الذي ورد إلى إذهاننا كان على ما يبدو خاطئا حتى وقت قريب، مع ظهور ملفات تكشف نقيض ما سلف..
الباحث في شؤون الجماعات المتشددة، أيمن جواد التميمي، أعد بحثين على مدونته تتناول وثائق تم نشرها عبر تلغرام لأحد المنشقين عن داعش، وتتحدث عن الخلافات التي طرأت على التنظيم بسبب ما يعرف بـ “الدعوة النسوية”.
وقال التميمي في مقابلة مع أخبار الآن، إن البحث الذي أعده تناول التحقيقات التي جرت مع نساء ناشطات في مجال الدعوة النسوية أيام قوة التنظيم، والملف الآخر يتناول قضية أم مظفر الدمشقية التي شكلت على ما يبدو قضية رأي عام داخل التنظيم.
القناة التي تحدث عنها التميمي، هي قناة “النذير العريان” على تلغرام، وهي قناة تنشر بشكل متتابع ملفات حساسة ظلت لسنين طي الكتمان في صناديق سوداء داخل التنظيم، تكشف هذه المرة عن صراع لم يكن مألوفاً، صراع يحكي قصة النساء المتعلمات في داعش وكيف أثرن لغطاً ضاق به صدر التنظيم قبل أن يدفنه ويتكتم عليه خشية انهيار إحدى ركائزه الأساسية.
“النذير العريان” المعروفة بانتقاداتها لداعش من منظور أكثر تطرفًا، نشرت ملفين داخليين مثيرين للاهتمام حول الدعوة النسائية، وكتبت تعليقاً على الملفات:
“بسم الله،
حتى ملف الدعوة النسائية لم يسلم من الانحراف، كيف لا والقائمات عليه، إلا من رحم ربي من أصحاب العقيده الزائغة.. وممن عرفن بالإرجاء والتمييع في الدين.. وهن كلهن حديثات عهد باسلام بل منهن من لم تسلم بعد والله المستعان.
كيف لا وهن باغلبهن قد تلقين منهجهن المشبوه من أزواجهن.. كزوجة بلال الشواشي وزوجة أبو آنس الأسدي وزوجة البنعلي.. وابنة مصطفى البغا.. بل حتى من سلم لها اختبارهن.. أم الحسن الجزراوية زوجة أبو الحسن الجزراوي أمير الدعوة كانت مثل زوجها ممن يعذرون بالجهل بالشرك الاكبر. بل فيما بعد تم عزلها.. بسبب تجنيها على من اختبرتهن وتقولهن ما لم يقلن.. حسدا.
يعني بالمختصر كل منهن تسعى لشهرة شخصيه على حساب دين الله.. وينتصرن لأنفسهن لا لدين الله حالهن حال أزواجهن والله المستعان على هكذا معلمات.. لا يفقهن في دين الله شيء.
ستكشف الأيام أن العيب ليس في الخلافة أو الدولة بل العيب في قياداتها من أعلى الهرم إلى أسفله. نسأل الله أن تكون هناك خلافة على المنهج النبوي قريباً. إن شاء الله، سوف يفرح الموحدون في ظلها وسيجري تصحيح شؤونهم”.
إلى هنا ينتهي تعليق “النذير العريان” على الملفات، والتي يشير التميمي إلى أنها مثيرة للاهتمام في إظهار بعض الخلافات التي حدثت في مجال الدعوة النسائية. ويبدو أن الدكتورة إيمان مصطفى البغا، وهي باحثة إسلامية سورية اشتهرت بالانضمام إلى داعش، وقعت في جدل حول معهد كانت تديره، مما أدى إلى إغلاق معهدها وجميع المعاهد الشرعية النسائية.
تناقش الملفات أيضاً بعض النساء الأخريات من أصول أجنبية اللاتي تورطن في مجال الدعوة النسائية، بما في ذلك ثلاث من أصل شمال أفريقي “مصر وليبيا وتونس” تورطوا في انتهاكات وخلافات بشأن عملهن. كما يبدو أن الطبقة في ريف الرقة الغربي كانت مركزًا لتجمع النساء الأجنبيات داخل أراضي داعش.
وفيما يلي صور الملفات كما جاءت في قناة “النذير العريان”:
وكشف التميمي أن الوثائق التي نشرتها قناة النذير العريان على تلغرام تتناول ما اسماه “الانحراف المنهجي” في التنظيم بين النساء الناشطات، وخاصة فيما يتعلق بقضايا التكفير التي اتهمت أم مظفر الدمشقية بعدم الانصياع لرغبات داعش بتكفير شخصيات معينة.
التحقيق
عصر يوم الرابع والعشرين من شهر رجب في العام 1437 هجري والذي يوافق الأول من شهر أيار / مايو للعام 2016.. بدأت جلسة تحقيق مع الدكتورة إيمان مصطفى البغا أو كما تعرف بأوساط داعش (أم مظفر الدمشقية) والسبب طرحها مسائل تخالف معتقدات التنظيم.
وقال التميمي، إن المشاكل التي تعرضت لها الدكتورة إيمان وخاصة فيما يتعلق بمسائل العقيدة والمنهج كانت على عكس ما كتب عنها ديوان ما يعرف بالمساجد والذي كان يمدحها دائما ويصفها بالصادقة، إضافة إلى تعاطف الكثيرين في أوساط داعش معها بسبب فقدانها ابنها.
التميمي أكد أن الدكتورة إيمان أو أم مظفر الدمشقية خضعت لجلسات تحقيق عدة، بسبب مسائل عقائدية وفقهية لم ترق للتنظيم.
الدكتورة إيمان مصطفى البغا (أم مظفر الدمشقية)
وقبل الغوص في قصة التحقيق مع أم مظفر الدمشقية وأسبابها ونتائجها وأثرها على التنظيم، نرجع إلى الدكتورة ايمان وقصة التحاقها بداعش..
ولدت الدكتورة إيمان في سبعينيات القرن الماضي بدمشق، وهي ابنة رجل الدين السوري الشهير مصطفى البغا الذي لطالما ساند رأس النظام في سوريا بشار الأسد بحربه ضد الثورة، كما ترأس أخاها الدكتور محمد الحسن البغا عمادة كلية الشريعة في العاصمة السورية لسنوات عدة. وعلى خطا ابيها درست إيمان العلوم الشرعية في جامعة دمشق لتحصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه، إلى جانب حصولها على دبلوم تأهيل تربوي من ذات الجامعة..
لاحقاً عملت إيمان أستاذة للدراسات الإسلامية في جامعة الملك فيصل في الدمام بالسعودية إلى جانب عملها في الدعوة لمدة تجاوزت الخمسة وعشرين عاماً، كما تولت مسؤولية قسم الثقافة في الهيئة العالمية لإعجاز القرآن في الدمام.
عام 2014 كان عاماً مفصلياً في حياة الدكتورة إيمان.. إذ تركت حياة بأكملها وراء ظهرها وسافرت مع عائلتها لتلتحق بتنظيم داعش في سوريا، رغم أن أقاويل تحدثت أنها لحقت ببنتها وابنها إلى بلاد الشام الذين كانا متعجلين بالانضمام إلى داعش، بعد أن سهل لهما (أبو أسامة الغريب) القدوم إلى سوريا ولاحقا أشيع أنها رفضت زواج ابنتها من أبو أسامة وثار بينهما خلاف وصل إلى قضاء المظالم واستمر حتى اندحار داعش، كما فقدت ابنها ذو الثلاثة عشر عاماً في أحد معارك التنظيم ونعته مرارا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت إيمان أول امرأة متخصصة في الفقه الإسلامي تُبايع داعش، وكانت المرأة الوحيدة التي وقَّعت على بيان نصرة البغدادي تحت عنوان “المشاعل العلمية في نصرة دولة الخلافة الإسلامية”، في شهر نوفمبر 2014، مع نحو 50 شرعيًا تابعًا للتنظيم في أنحاء العالم، إلى جانب إعجابها الشديد بشخص أسامة بن لادن زعيم القاعدة والذي كانت تكتب الكثير عنه في مقالاتها وتصفه باسم مستعار.
اعترفت في إحدى تغريداتها على حسابها على موقع تويتر، أنها كانت داعشية قبل أن يوجد التنظيم، وكان لها فتاوى أثارت الجدل حتى داخل أوساط داعش وهو ما يمكن اعتباره الخيط الأول الذي سنلقي عليه الضوء في ملف الدعوة النسوية في أيام التنظيم.
معهد ذات النطاقين أولى بذور الشقاق
بعد عام ونصف من انشاء أم مظفر لمعهد ذات النطاقين في مدينة الرقة السورية، بدأت المشاكل واحتدم الخلاف حول المعهد ومن أعطى الأمر بإنشاءه إذ أن الدعوة النسوية اقتصرت داخل أراض التنظيم على حلقات خاصة للنساء في المساجد ولم يكن هناك أي معهد خاص بهن داخل الأراضي التي استولى عليها داعش، وخضعت أم مظفر خلال ذلك الوقت لأكثر من جلسة تحقيق كانت تخرج منهم دون إدانة.
ويقول التميمي، إن الكثير من الخلافات حدثت بين النساء، فعلى سبيل المثال كانت الكثير من النساء تتهم الدكتورة إيمان بالانحراف عن المنهج، وتم رفع تلك الشكاوى إلى قيادة التنظيم، وهو الذي قاد إلى عقد عدة جلسات مع أم مظفر للتحقيق معها.
ومازاد الطين بلة، إنشاء معهد آخر في مدينة الطبقة اشرفت عليه “ام محمد التونسية” زوجة القيادي ابو محمد التونسي، والذي بدوره كذلك أثار الجدل وحفيظة القائمين على التنظيم لما اعتبروه مخالفا لما درج، وإثارته كذلك لفتن وتحريض ضد معتقدات داعش التي يحاول ترسيخها في نفوس مؤيديه ومناصريه.
إحدى الوثائق التي سربتها قناة “النذير العريان” على تلغرام، كشفت عن جلسة تحقيق مطولة مع أم مظفر الدمشقية، استمرت نحو 5 ساعات بعد اتهمامها بعدد من القضايا كان أبرزها:
- عقلانيتها في تناول المسائل الشرعية.
- طرح مسألة التعايش مع الأديان الأخرى على خلاف ما يروجه التنظيم.
- وصفها للمخالفات الشرعية بألفاظ قانونية كقولها على سبيل المثال عن السرقة أنها جريمة اقتصادية.
- انكارها لمسائل شرعية كان داعش يروج لها.
- عدم تكفيرها لوالدها الدكتور مصطفى البغا رغم مساندته لرأس النظام بشار الأسد.
- طرح مسألة إنشاء معهد ذات النطاقين وتبعيته إلى والي الرقة بشكل مباشر على خلاف السائد واستقلاليته عن ديوان الدعوة والمساجد.
- وجود فتاوى نشرتها أم مظفر الدمشقية على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي وصفها القائمون على التحقيق بالشاذة.
- دخولها في صراعات مع نساء آخريات كان لهن دور قيادي في التنظيم.
- اتسام أم مظفر بالكبر والتعنت.
- اتصافها بعدم الصدق في أقوالها وحبها للسيطرة ورغبتها بعدم منازعة إحدى النساء لها في رئاسة المعهد.
بعد التشاور بين أعضاء التحقيق وهم ابو محمد العراقي (المقرب من زعيم التنظيم وموفده إلى الرقة) وأبو خباب المصري، وأبو سليمان الشامي، ومظفر الدمشقي (زوج ابنة الدكتورة إيمان) وكُنيت باسمه، خرجت التوصيات التالية:
- الدكتورة عقلانية ولا تسلم بما يريده التنظيم بسهولة.
- ليست صاحبة منهج وتتحرز من اتهام أحد البكفر والردة.
- هي أمراة غاية في التكبر والتسلط على من حولها.
- أم مظفر ضعيفة العلم في المسائل العقدية والمسائل الفقهية كذلك.
- بثها لأفكار تخالف ما درج عليه التنظيم وعليه يجب تدارك ذلك بسرعة.
وخلصت التوصيات السابقة إلى ضرورة إغلاق المعهد الذي يضم نحو ثلاثمئة طالبة، وضرورة فصل النساء عن بعضهن البعض.
التميمي أكد أن التحقيق أوصى بإغلاق معهد ذات النطاقين الذي تديره أم مظفر والاقتصار على الدعوة النسوية داخل المساجد فقط.
وعلى ما يبدو لم ترق التوصيات السابقة لأم مظفر الدمشقية واتهمت ابو محمد العراقي بانه هددها بالقتل، مستخدمة وفق ماتم تسريبه من جلسة التحقيق زوجة ابنتها مظفر الشامي والذي كان يعمل في ديوان القضاء والمظالم.
اختتمت جلسة التحقيق بكتابة اسم من كتب مجريات الجلسة وهو أبو خباب المصري، وراجعها أبو سليمان الشامي.
بعد ذلك أوصى أبو محمد العراقي الذي يعتبر أحد أذرع زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي وموفده إلى الرقة بإغلاق المعهد وأي معهد آخر يشهد نشاطاً نسوياً، والاكتفاء بدورات دعوية للنساء في المساجد.
أصل الخلاف
ويلفت التميمي إلى أن الصراع الذي نتج عن ملف الدعوة النسوية كان مرده إلى الاختلاف حول العقائد، واتهامات متبادلة عن الغلو والإرجاء، والذي أدى لاحقاً إلى إغلاق المعاهد النسوية في أراض التنظيم.
وضمن ما سبق، برر القائمون على قناة “النذير العريان” نشر تلك الوثاق على تلغرام بعد كثرة الشكاوى في موضوع الدعوى النسائية والتي كانت بابها موصدا ولم تتوافر في حينها معلومات كثيرة عن تلك الشكوى إلا شكوى تقدمت بها مسؤولة الدعوى النسوية في الرقة وتدعى (أم أنس الهاشمية المصرية) والتي على ما يبدو أنها كانت على خلاف حاد مع أم مظفر الدمشقية.
وتطرح القناة على تلغرام مجموعة من القضايا الخاصة بملف الدعوى النسائية كان أبرزها كما أسلفنا ملف أم مظفر الدمشقية والتي على ما يبدو أنها شكلت قضية رأي عام إن صح التعبير في ذلك الوقت، إضافة إلى قضايا أخرى هي قضية معهد أم همام التونسية والذي تم اغلاقه بقرار من ابو محمد العراقي، وقضية أم عمارة الليبية زوجة (أبو دجانة المغربي) التي اتهمت مع زوجها بقضايا اختلاس وزج زوجها على اثرها بالسجن، وقضية تدريس أم دجانة المصرية لمناهج لا تروق لداعش.
وعن مصير أولئك النساء بعد طرد داعش من سوريا والعراق، يقول التميمي، إن أغلبهن تعرضن للقتل وقسم آخر يقبع داخل المخيمات التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
وأكد التميمي لأخبار الآن أن ملف الدعوة النسوية يدلل بشكل واضح على عدم الانضباط داخل صفوف التنظيم أيام ذروة قوته، والذي كان عاملاً على سقوط التنظيم فيما بعد.
قضايا ملف الدعوة النسوية داخل داعش التي حاول التنظيم طيلة السنوات السابقة التعتيم عليها، تشكل سابقة في كشف المزيد من الخبايا التي عمل داعش على طمسها، وتؤكد حقيقة ربما ليست بجديدة على من يتابع ملف التنظيم، وهي أن كل من يخالف قادته وأصحاب النفوذ فيه فإن مصيرهم إلى الهلاك، وأداة ذلك التكفير والاتهام بالخيانة وكل ماكان يروج له التنظيم من مدينة فاضلة أو مجتمع يؤمن كل درجات العدل لمن يحيون بكنفه ليست إلا ترهات تتساقط في أولى بذور خلاف قد تنشأ بين المتنفذين ومن دونهم داخل التنظيم.
أقرأ أيضا:
جهاز المخابرات العراقي يعلن اعتقال عبد الناصر قرداش المقرب لعبدالله قرداش خليفة البغدادي