أخبار الآن | تحليل
فيما يشن عناصر داعش هجمات متفرقة في سوريا والعراق، يبدو أن التنظيم لم يعد قادراً على بثّ رسائل مقنعة بأنه عائد لا محالة لأنه لم يعد يملك ذراعه الإعلامية المتنفذة. إخفاق داعش الإعلامي يكشف عن إخفاق أعمق يتعلق بالقيادة والتنظيم نفسه.
داعش وود – الأيام الأولى لإعلام داعش
في البداية، كان داعش يستخدم باكورة إنتاجه من الفيديوهات لتجنيد عناصر جدد وبثّ الرعب والخوف. كان الإنتاج برّاقاً يذهب بالأبصار. الرسالة كانت قوية. آلة داعش الإعلامية في ذلك الوقت كانت قادرة على خداع الشباب فباعتهم أوهام. ولهذا السبب تحديداً، نجد أن آلة داعش الإعلامية المتمكنة كانت سلاحاً ذا حدّين. فنجاحها يعني أنّ المُجنّدين الجدد سيشعرون بخيبة أمل أكبر عندما يرون حقيقة التنظيم. منذ ذلك الوقت، التقينا في أخبار الآن مع منشقين قالوا إن الفيديوهات التي كانت تصوّر “الخلافة” لم تكن أكثر من أكاذيب أجادوا إنتاجها وإخراجها. وكلما كبرت الكذبة، زادت خيبة الأمل.
ونقرأ شهادات على هذا الكذب والخداع من مجموعة مميزة من المنشقين. إنهم طلاب علم وشرعيون لعبوا دوراً هاماً في تمكين تنظيم داعش في أيامه الأولى. لكن في الأيام الأخيرة للتنظيم، وجدوا أنفسهم على خلاف مع الطبقة الحاكمة المتنفذة في مسألة “التكفير.” وبالرغم من أنهم تركوا داعش، إلا أنهم لم ينضموا إلى أي مجموعة أخرى وظلّوا مستقلين، الأمر الذي يعطي قيمة ومصداقية لشهاداتهم. هؤلاء هم ما صاروا يُعرفون باسم “مؤسسة التراث العلمي” أو أتباع رجل الدين تركي البنعلي.
كتبوا كثيراً عن ديوان الإعلام المركزي في ظل داعش ووصفوه “بالخبيث”. أبو يعقوب المقدسي، وكان أمير مركز البحوث، عندما لاحقه أمنيو داعش، وصف التنظيم بأنه “دولة أمنية إعلامية.”
أبو عيسى المصري، وكان شرعياً مسناً وضريراً، وصف إعلام داعش بـ” سحرة آل بغداد” نسبة إلى بطانة أبي بكر البغدادي. ويقول: “إعلام البغدادي لا يصدر للناس إلا الوجه البراق الحسن ويوصل الصورة لا كما هي في الواقع، فقد تكون نتيجة المعركة ضدنا وإذا بسحرة آل بغداد يصدرون إصداراً يوهمون به الناس أن الأمور طيبة وكأن المعركة محسومة لنا أو تكاد … الإعلام يصور مشاهد جميلة وكأنها هي الدولة كلها وهو في الحقيقة يتغاضى عن أمور كثيرة هي موجودة بالفعل في الواقع. فتجده مثلاً يصور المشاهد البهيجة الرائعة في بعض الأماكن وفي الوقت الذي توجد فيه كثير من البقاع مليئة بالقمامة. وكذلك يبرز ظاهر المحاكم الحسن فيظن الناس في العالم الخارجي أن الدولة قد نجحت في القضاء وهذا فيه نظر فإن واقع المحاكم كان أليماً جداً.”
ويذكر المصري أن جلسة جمعت أبا محمد فرقان، أمير ديوان الإعلام المركزي، مع طلاب علم بحضور البغدادي ليرد على انتقادات بأن الديوان لا يؤدي دوره الدعوي العلمي، فقال فرقان: “بدك تقنعني إن الشباب ينفروا للجهاد بقال ابن تيمية وقال ابن القيم؟! لا هم ينفرون بالخطاب الحماسي الملهب للمشاعر.”
إعلام داعش اليوم
لم يعد أحد يستخدم لفظ “داعش وود.” فقد ولّت الأيام التي كان فيها ديوان داعش للإعلام ينتج الفيديوهات عالية الجودة. بات واضحاً أن داعش لم يخسر الخلافة وكثيراً من كبار قياداته وحسب؛ وإنما خسر إعلامه المؤثر. بالنظر إلى الإنتاج الحالي الذي يجترئ إصدارات قديمة؛ وإلى نوعية الإنتاج السيئة ندرك أن إعلام داعش اليوم بات في أيدي مراهقين يفتقرون إلى مهارات صياغة الرسالة وتنفيذ الإنتاج.
معين خواجا، وهو صحفي ومتابع لإعلام داعش خاصة المرئي يقول: “علينا أن نتذكر أنهم خسروا أرض الخلافة التي أعلنوها وخسروا المدن والبلدات التي احتلوها. صاحب هذا تراجعٌ في نوعية وكمية إنتاجهم الإعلامي. الفيديوهات التي أنتجوها عندما كانوا في ذروة سطوتهم تركزت على الأرض والسكان وأسلوب الحكم والسياسة الخارجية والحملات العسكرية. وعندما فقدوا كل ذلك، لم يعد لديهم ما يتحدثون عنه في فيديوهاتهم. هذا من ناحية؛ من ناحية أخرى، فقدوا الأفراد المسؤولين عن ذلك الإنتاج. منهم من قُتل أو اعتٌقِل أو هرب. هذه الأسباب مجتمعة أدّت إلى هذه النتيجة الحتمية. لم يعد لديهم ما يتحدثون عنه.”
فشل دابق الذريع
تذكرون دابق؟ لا نقصد المعركة الملحمية آخر الزمان التي استند إليها داعش في أدبياته؛ وإنما نقصد المجلة التي روّجت لتلك الدعاية والتي بدأ إنتاجها في يوليو ٢٠١٤، قبل ستة أعوام بالضبط. صحيفة الإندبندنت قالت إن داعش لم يعد قادراً على إنتاج دابق لأنه لم يعد ممكناً إخفاء خسائرهم.
آخر نسخة من دابق كانت في يوليو ٢٠١6. ومن السخرية بمكان أن داعش خسر بلدة دابق شمال حلب في أكتوبر من ذلك العام. في الأثناء بدأ التحالف والجيش العراقي والبشمركة وقوات قسد حملة لتحرير الموصل والرقة. في ظل هذه الظروف أنتج داعش مجلة روميّة الناطقة بثماني لغات وصدر منها ١٣ عدداً.
في دراسة نشرها مركز مكافحة الإرهاب ICCT في ٢٠١٨، يصف الباحث هارورو إنغرام مجلة روميّة بأنها جزء من محاولة التنظيم مواصلة حملته الدعائية. ويشرح كيف لجأ داعش إلى إعادة استخدام الأخبار والمقالات بترجمة مواد تنشرها صحيفة النبأ الأسبوعية. ويتابع أن آخر ثلاثة أعداد من المجلة كانت تفتقر إلى المهارة في الإنتاج واحتوت على أخطاء في الخط والتصميم. آخر عدد صدر في سبتمبر ٢٠١٧.
عندما يسقط القناع
في الماضي، كان إعلام داعش مهماً لأنه كان قادراً على خداع الشباب وتجنيدهم. اليوم، هذه الآلة الدعائية الفاشلة ستجعل سهلاً على الجميع وحتى المتعاطفين مع داعش أن يدركوا حقيقة التنظيم. فما هو واقع التنظيم اليوم؟ هل يستطيع العودة بقوة كما يقترح بعض المحللين؟ أم أنه لا يزال تنظيماً مستضعفاً؟
لا دولة من دون أرض
منذ البدء وداعش يسعى بكل وسيلة إلى أن يبدو وكأنه “دولة”. ولهذا كان مهماً لهم أن يحتلوا أرضاً، ومبانٍ حكومية، وأن يكون لهم قرطاسية تحمل شعارهم، وأختام وحتى أنهم حاولوا صك عملتهم. مع مرور الوقت، أصبح داعش براغماتي بحيث تخلى عن كثير من تلك الجوانب وركز على إنقاذ حياة قادته وعائلاتهم.
بالرغم من هذا، ما من شك في أن وهج التظاهر بأنه “دولة” كان عاملاً حاسماً في الدعاية التي انتهجها حتى يبيع وهم الشرعية للمجنّدين الجدد والداعمين والمتعاطفين.
لكن حلم “دولة داعش” لم يتحقق عندما وقفت في وجهه قوة التحالف الدولي وشركائهم المحليين الذين لم يترددوا في التضحية بالحياة والمال في سبيل اقتلاع هؤلاء المفسدين في الأرض الأشبه بقطعان المغول. في النهاية خسر داعش الأرض والخلافة المزعومة.
ضياع أرض التمكين
سنأتي على ذكر الخليفة بعد قليل، لكن أولاً لا بد من التطرق إلى أهمية حيازة الأرض. بالنسبة لداعش، لم يكن ضياع الأرض أمراً سهلاً. نعم، للوهلة الأولى قد يظن المرء أن فقدان الأرض يعني فقدان القدرة على الوصول إلى المصادر الاستراتيجية. لكن الأمر يتعدى ذلك. فالأرض تتعلق بمسألة جدلية بين الجهاديين. داعش اختار منهج أن حيازة الأرض تعني الشرعية بحيث يتميّز عن الجماعات الأخرى. وبالتالي فإن خسارة تلك الأرض يعني بالضرورة، وضمن حدود أيديولوجيتهم ومبادئهم، أنهم سيفقدون الشرعية. فلا “دولة” من دون “أرض التمكين.” حتى أنصار داعش ينظرون إلى التنظيم على أنه لم يعد أكثر من مجموعة مسلحة لا تملك ما يميزها عن جماعات جهادية أخرى.
بالعودة إلى مؤسسة التراث العلمي، كتب أبو عيسى المصري مقالاً بعنوان “سلطان باريشا” بعد شهر تقريباً من قتل البغدادي في بلدة باريشا شمال غرب إدلب في أكتوبر ٢٠١٩. يقول أبو عيسى إنه “يجب التفريق بين حال التمكين وحال الاستضعاف” ويسوق الأدلة من القرآن الكريم والسنة على هذا الأمر. ويخلص إلى أن قيادة داعش اليوم “ليس لهم سلطان ولا دولة والواحد منهم خائف يترقب يأتيه الكفار إلى بيته فلا يستطيع أن يمتنع منهم.” ويتابع: “الخلافة .. اسم يطلق على كيان يبسط سيطرته على بلاد المسلمين ويحكمها بالشريعة … وأمير هذا الكيان يسمى خليفة المسلمين …”أين هذا الكلام من دولة انتقل بيت مالها إلى الصحراء، فإذا أردت أن تأخذ عطيتك من بيت مال المسلمين فلا تحتاج إلى الذهاب إلى خازن ولا أمين … اذهب واسأل رعاة الغنم في الصحراء يدلوك.”
زعيم غائب يعني فشلاً ذريعاً
لا يزال الجميع يتكهن حول هوية زعيم داعش الذي يخلف أبا بكر البغدادي، ويُعتقد أنه من تركمان تلعفر. ما لا يختلف عليه أحد هو أنه يختبئ في مكان ما. فلم يره أحد قرب الخطوط الأمامية في المعركة التي يحاول التنظيم شنها لفتح العراق وسوريا.
عُثر البغدادي في مكان يعتبره التنظيم “دار كفر.” وعديد كبار قيادات التنظيم وُجدوا في أماكن مشابهة. ويبدو الآن أن الزعيم الجديد لداعش يختبئ أيضاً عن بقية عناصر التنظيم. هذا النوع من القيادة لن يستطيع أن يعيد داعش إلى أيامه الغابرة.
في الواقع أشارت مؤسسة التراث العلمي إلى مسألة “دار الكفر”. ابن جبير في مقال بعنوان “سقوط الخرافة” كتب عن مجموعة الرجال ذوي “الرأي والحكمة” الذين يُفترض أنهم اختاروا الخليفة من ظهرانيهم. يقول: “فمن نهاية البغدادي يتضح لنا أي رأي وأي حكمة كان عليها القوم! حتى أخرجوا أميرهم من الصحاري والبراري الشاسعة وجاؤوا به إلى ضيعة في ريف إدلب؛ دار الكفر التي كانوا يكفرون من يخرج إليها قبل انتهاء دولتهم.”
ويضيف أيضاً عن صفات الخليفة أنه يجب أن يكون معلوماً للمسلمين. يذكر حادثة وقع يوم قرر “مجلس شورى” التنظيم إعلان “الخلافة” وتولية أبي بكر البغدادي. يقول: “وقع اختلاف بينهم (مجلس الشورى) حول ظهوره برسمه ليراه المسلمون فيطمئنون ويبايعونه، واستشاروا تركي البنعلي (الذي أسس أتباعه مؤسسة التراث العلمي) فأشار عليهم بخروج البغدادي للناس باسمه ورسمه بل رأى في ذلك أمراً لا بدّ منه، وأنه من حق المسلمين عليه أن يعرفوا من هو خليفتهم، فتمّ الأمر رغم معارضة ‘فرقان’ يومها بحجة الأمنيات البالية.”
أبو عيسى في “سلطان باريشا” يعدد الشروط الشرعية الواجب توفرها في “الخليفة” ومنها أن “لا إمامة لمجهول ولا لمعدوم.” ويشرح معنى البيعة بأنها “إعطاء الأمير المُمكّن العهد على السمع والطاعة في غير معصية.”
في الختام، لا يواجه داعش اليوم آلة إعلامية متهالكة وحسب وإنما فشلاً ذريعاً على مستوى القيادة العليا.
داعش لا يزال يشكل خطراً؛ لكن بقاياه اضمحلّت بفضل التضحيات التي قدّمها من تصدّى لهذا الإرهاب. هذه التضحيات لم تذهب سدىً؛ بفضلها يظهر فشل داعش اليوم ليس فقط كصورة وإنما أيضاً كواقع.