انهيار أسطورة.. أسامة بن لادن الحالم بخلافة “المهدي المنتظر”
داخل مخبأه السري في منطقة أبوت آباد (شمال شرق باكستان)، جلس أسامة بن لادن أمام حاسوب شخصي يستخدمه ليشاهد مقاطعًا مرئيةً أعدتها وسائل الإعلام عنه في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر/ أيلول 2001، بيد أن ملامح الشخصية التي رسمت في الإعلام، لم ترض غرور زعيم القاعدة الحريص على “الكاريزما الشخصية” التي ساهمت بشكل مباشر في صياغة أسطورته خلال سنوات طويلة.
بعد دقائق، التقط “بن لادن” دفتره وقلمه، وشرع في صياغة رسالة لـ”عطية الله الليبي” مسؤول العمليات الخارجية في تنظيم القاعدة، والمعروف، آنذاك، بالشيخ محمود، طالبًا منه أن ينسق مع صحفي يعمل بفضائية قطرية شهيرة لإعداد وثائقي عن “سيرة أخطر رجل في العالم” بمواد حصرية ترسلها قيادة التنظيم للقناة الفضائية، بحسب ما تُظهر إحدى الوثائق التي عثرت عليها وحدة القوات الخاصة الأمريكية التي اغتالت أسامة بن لادن، في مخبأه بأبوت آباد في الـ2 من مايو/ آيار 2011.
بدا زعيم تنظيم القاعدة حريصًا على تعزيز روايته الخاصة والهالة التي نسجها حول شخصيته- منذ أن تحول من تابع للفلسطيني عبد الله عزام وممول لمكتبه الجهادي (مكتب خدمات المجاهدين) في ثمانينات القرن العشرين، إلى الأب الروحي/ عراب الحركة الجهادية المعولمة- لأنه إن لم يفصح عن تلك الرواية فسيضع الإعلاميون والمؤرخين له تاريخًا بما يتوافر لهم من معلومات سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، كما يقول في رسالته المذكورة.
سارت الرسالة في دروب الاتصال السري الخاصة بالتنظيم، إلى أن وصلت لـ”الليبي”، الذي كان لديه تصورًا سابقًا عن المادة المنشودة، يتضمن الحديث عن حياة وتاريخ أسامة بن لادن وتطور أفكاره الجهادية- على حد تعبيره في رسالته للرد على زعيم القاعدة-، وفي حين حالت الأحداث اللاحقة دون ظهور “الإصدار الترويجي” الذي تتحدث عنه الرسائل إلا أنه أكدت على محورية الدعاية في خلق أسطورة “بن لادن الخاصة”.
سيرة ذاتية مجردة
رغم مرور 10 سنوات على مقتله، لازال الغموض يكتنف جوانبًا عديدة من قصة صعود وأفول نجم زعيم تنظيم القاعدة المؤسس، حتى بعد نشر وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية جزءًا من وثائقه السرية (وثائق أبوت آباد)، والتي تكشف زيف أسطورة “بن لادن” التي يحاول تنظيمه المأزوم استثمارها بين الحين والآخر.
تشير وثائق أبوت آباد إلى جوانب شخصية “زعيم القاعدة” مجردةً من البريق الإعلامي الذي صاحبها على مدار أكثر من 20 عامًا قضاها في إمارة التنظيم، منذ تأسيسه الأول أواخر ثمانينات القرن العشرين، كما تلمح إلى جزء من سياقات النشأة والتحول الذي مر به.
في مفكرته الشخصية التي تبلغ 228 صفحة، تبدو نرجسية أسامة بن لادن مسيطرةً عليه وهو يحاول تسويق سرديته الخاصة لأبنائه، فهو: “نابغة صغير يجيب على كل أسئلة المعلمين، الذين لا يتذكر حتى أحدًا منهم، قبل أن يكملوا السؤال، ومتدين بالفطرة دون أن تحتضنه جهة أو جماعة ولو كانت الإخوان التي انتظم فيها لفترة والتي ينفي أنه تأثر بها أو بزعيمها اليمني عبد المجيد الزنداني، وكذلك يرفض كل العروض الدنيوية التي يغريه به والده زاهدًا فيها- مع أنها كانت في مقابل عرض دنياوي آخر هو الذهاب مع والدته لزيارة أخواله-.. إلخ”، كما تظهر جذور عداوته للغرب في ثنايا حديثه، إذ يرى أن أهله منحلون أخلاقيًا ينبغي اعتزالهم وعدم السفر إلى بلادهم، ولعل تلك الصدمة المبكرة التي فشل في التكيف معها أدت لتحولاته اللافتة لاحقًا ليصير قائدًا للحرب ضد ما اعتبرها مجتمعات كافرة.
زعيم القاعدة سيطرت عليه فكرة أنه مبعوث العناية الإلهية
ولعل سعيه لتعزيز فكرة تدينه الفطري والتزامه دون معلم أو مرشد، نَبع من تصوره عن نفسه بأنه “الخليفة القحطاني” الذي سيقود جيش المدد المعروف- في مرويات ملاحم وفتن آخر الزمان ضمن كتب التراث الإسلامي- بجيش عدن أبين لينصر المهدي المنتظر المتعلق بأستار الكعبة، ثم يحوز إرثه بعد وفاته، لذا فهو جدير بأن يُتبع ولا يتبع، ويقود ولا يقاد، استنادًا إلى شرعية استقاها من رؤاه المنامية، ورسختها أحلام تابعه عبد الوكيل النوبي (أبوبلال) التي رأها في العاصمة الأفغانية كابول، بحسب المفكرة.
ويوضح أبوالوليد المصري، مصطفى حامد، مستشار بن لادن السابق، في كتابه: (صليب فوق قندهار)- الذي أثار غضب قيادة القاعدة العليا وفقًا لوثائق أبوت آباد- أن زعيم القاعدة سيطرت عليه فكرة أنه مبعوث العناية الإلهية لتحرير المقدسات الإسلامية، منذ معارك جلال آباد الشهيرة عام 1989، لاسيما بعد أن تكررت رؤى وأحلام أتباعه بأنه “الخليفة القحطاني” الذي يكون في آخر الزمان، لذا كان مقتنعًا ومعتدًا بنفسه يتحرك وفقًا رؤيته وينتظر من الآخرين أن يضبطوا حركاتهم على إيقاعه.
أسامة القحطاني.. وهم خليفة “المهدي” المتبدد
أسهمت تلك الرؤى والأحلام في تضخم الأنا/ الغرور لدى “بن لادن”، المنحدر من أصول يمنية، فلم يعد يرى نفسه كثري عربي يشارك في المعارك الحربية على الجبهة الأفغانية فحسب، بل قائدًا ملهمًا ترسم الأقدار له الطريق ليكون “خليفة المهدي المنتظر” ذات يوم.
وبناءً على تلك الرؤى، وضع رجل الأعمال السابق، تصورًا خاصًا بحربه الشاملة مع الولايات المتحدة الأمريكية الموصوفة لديه بـ”رأس الكفر”، يبدأ بـ”مقاطعة التفاح الأمريكي”، على حد تعبيره، وينتهي بضرب تلك الدولة على رأسها حتى تتخلى عن دعم الإسرائيليين.
ولهذا، أصدر، عام 1998، ما عرف ببيان الجهاد العالمي الذي تبناه تحالف (الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين) الهش، كما أصر- لاحقًا- على تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حتى مع معارضة الملا عمر، أمير حركة طالبان الأفغانية وقتها، تنفيذ أي هجمات تستهدف الولايات المتحدة وتكون ذريعة لها لغزو أفغانستان، وتأكيد غالبية أعضاء المجلس القيادي للقاعدة والمعروف بـ(مجلس الشورى)- بما فيهم قادة اللجنة العسكرية كأبي حفص المصري، وسيف العدل– أن التوقيت غير ملائم لشن الهجمات وأنها ستقضي على التنظيم وستحرمه من ملاذه الآمن في جنوب آسيا، وهو ما تم بالفعل بعد ذلك.
وبينما كان التنظيم يواجه الموت السريري جراء صاعقة الغزو الأمريكي لأفغانستان وانهيار حكم حليفه الاستراتيجي (حركة طالبان)، اكتسبت أسطورة “بن لادن” زخمًا كبيرًا في أوساط الحركات الإسلاموية المسلحة في جميع أنحاء العالم، وصار الانتماء للقاعدة وسيلة لإضفاء الشرعية على كثير من الصراعات المحلية، كما تبين رسالة وجهها أحد قيادات القاعدة لـ”بن لادن” في ديسمبر 2010.
استثمار الزخم الدعائي
كان أسامة بن لادن سعيدًا بالزخم والهالة التي صاحبت بروزه كقائد لتنظيم جهادي عابر للحدود الوطنية، ومن ثم عمد لتحقيق أقصى استفادة منه عبر استثمار أمواله وتوظيف منصات تنظيمه الدعائية، لإعادة رسم ملامح شخصيته وفقًا لتصوره المبالغ فيه عن نفسه.
إلى ذلك، حرص زعيم القاعدة على عرض كلماته وخطاباته الإعلامية على قادة التنظيم، ليصوبوها له ويضيفوا عليها العبارات الرنانة، لكي تلهب حماس مريديه الذين يرقبون ظهوره الإعلامي بين الفينة والأخرى.
وبهذه الطريقة، حظت شخصية الثري العربي القابع فوق ذرى جبال الهندكوش بتركيز دعائي لم تحظى به شخصية جهادية أخرى، وأضيفت عليه أوصاف ذات بريق خاص كـ”مجدد الزمان، وقاهر الأمريكان بتعبير المنظر الجهادي فارس آل شويل (أبوجندل الأزدي) الذي دعا لترجمة كتاباته عن “بن لادن” وإهدائها إلى كل رؤساء دول العالم، وأسامة المغوار الذي صنع من الشباب المفلس أبطالًا يتحدون القوى العظمى على وجه الأرض على حد قول منشد القاعدة أبي سليمان البحريني”، فضًلا عن قائمة طويلة من الأوصاف النخبوية تعددها الإصدارات المرئية والأناشيد والمطويات والكتب الترويجية التي نشرتها العشرات من المؤسسات الإعلامية الرسمية وشبه الرسمية والمناصرة احتفاءً بزعيم القاعدة، على مدار سنوات مسيرته المثيرة للجدل.
شخصية الثري العربي القابع فوق ذرى جبال الهندكوش بتركيز دعائي لم تحظى به شخصية جهادية أخرى، وأضيفت عليه أوصاف ذات بريق خاص كـ”مجدد الزمان، وقاهر الأمريكان
وفي ذات السياق، يبدو من مراجعة تلك المواد الإعلامية أن زعيم التنظيم أوحى إلى تلك المؤسسات- على فترات متفرقة- بترسيخ صورته الرمزية، والإعلاء من قيمته وشأنه كقائد للحركة الجهادية العالمية، والتي شكل حلم الخلافة القحطانية مرتكزًا أساسيًا لها، كما يقول خولان الصنعاني في أنشودة “أهل العقيدة” المنشورة عام 2006، لرثاء “أبومصعب الزرقاوي” أمير تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين- العراق-: (وحدت شمل المسلمين مبايعًا، أسد الزمان أسامة القحطاني..).
ويؤكد مصطفى حامد أبوالوليد في كتابه (صليب فوق قندهار) أن زعيم القاعدة طار فرحًا بجموع الجماهير “الغوغائية” التي حملت شعاراته وصوره التي طُبعت على نفقته الخاصة في باكستان، إذ لم يكن يمتلك سوى تلك الهالة الإعلامية التي لا تدعمها أي قدرات حقيقية على أرض الواقع، ملمحًا إلى أن الملا عمر أبلغه أن لا يعول على الإعلام ويركز على فرض الحقائق على الأرض كما فعلت حركة طالبان التي أحكمت سيطرتها على البلاد دون دعم إعلامي كبير.
لكن “أسامة” لم يقنع يومًا بالتخلي عن رؤيته وتصوراته الذاتية فهو قائد وأمير متفرد مطلوب من الجميع حوله أن يبايعوه ويسمعوا له ويطيعوا، لأنه مطلق الصلاحية لا ينبغي أن يتشاور مع أحدٍ دونه، حتى لو لم يكن لديه خطة معروفة، كما يذكر مصطفى حامد، وهكذا جر تنظيمه وحلفاؤه (طالبان) إلى حرب طاحنة، لأنها- من منظوره الشخصي-: “خير لهم من الدنيا وما فيها”.
ذهب أدراج الرياح
خلال السنوات التي أعقبت الغزو الأمريكي لأفغانستان، تداعى “الحلم اللادني”، وقبع صاحبه في مخبأه بأبوت آباد يراقب من بعيد انهيار تنظيمه وتقوقعه على نفسه في أطراف منطقة القبائل على الحدود الأفغانية الباكستانية (وزير ستان)، وفرار رفاقه لإيران وغيرها هربًا من نيران الحرب على الإرهاب التي أشعل بنفسه شرارتها، في حين عادت الولايات المتحدة الأمريكية لتركز على صراعها الجيوبوليتيكي مع خصومها التقلديين كالصين وروسيا وكوريا الشمالية، مهملةً التنظيم المهزوم.
وعلت، كذلك، أصوات بعض قيادات القاعدة بالنقد والشكوى، حسب ما تبين رسالة أحد القيادات الموسوم بالاسم الحركي “أسد” للمسؤولين عن التنظيم، والتي طالب فيها “أبوحفص المصري” (نائب الأمير) بإبلاغ “الشيخ”- أسامة بن لادن- بما يقال عنه بين جنوده من نقد وعتاب، حتى لا ينخدع أكثر بالمجاملات التي تتخلل جلسات الطعام وحلقات شرب الشاي والبعيدة عن الواقع.
لابد من مراجعة سريعة للموقف عامة، وأن نضع أيدينا على الخلل وأن ننظر من أين أوتينا
أدرك “بن لادن”، حينئذ، أن الكاريزما الشخصية والدعاية الجهادية فقدت قدرًا كبيرًا من زخمها السابق، وأصبحت هي والتنظيم عديما الفاعلية رغم سعيها المتكرر لتزييف الواقع الصعب لـ”التنظيم الشائخ”- على حد قول “أبوعبيدة اللبناني المسؤول الأمني السابق للقاعدة في حواره مع صحيفة النبأ الداعشية (عدد 23)-، فطلب الأول من مسؤولي العمليات الخارجية أن يتجنبوا إجراء اللقاءات مع “الإعلام الجهادي” لأنه متخلف وفاقد للمهنية ولا يصب في صالح التنظيم.
خريف القاعدة.. نهاية الأسطورة
بحلول أواخر العام 2010، هبت رياح تغيير خريفية على الشرق الأوسط الذي شهد حالة سيولة غير مسبوقة، أدت للإطاحة بعدد من حكام المنطقة العربية، وجددت الحلم القديم لدى أسامة بن لادن، ليقود الناس بعصاه ويسيطر عليهم لـ7 سنوات، كما تقول “نبؤة القحطاني”.
أظهر زعيم القاعدة، اهتمامًا كبيرًا بتطورات أحداث الانتفاضات الشعبية خصوصًا في ليبيا، حتى مع انزعاجه من توقيتها وعدم تركيزها على تنظيمه كما يتضح من مفكرته الشخصية- فيما سعى التنظيم لتغيير جلده ليتماهى مع الحراك الجديد، فبدأ يبحث عن تخريج شرعي يبيح له تأسيس حزب سياسي، وفقًا لأبي عبيدة اللبناني المسؤول الأمني السابق للتنظيم، ناقضًا بذلك اختياراته السابقة التي ترى كفر الأحزاب الداخلة في العملية الديمقراطية.
وبينما كان أسامة بن لادن يبحث فكرة إنتاج إصدار ترويجي حول سيرته الذاتية، داهمت وحدة خاصة من قوات السيل الأمريكية مخبأه في باكستان وتمكنت من قتله، وبعد أقل من شهر على تلك الواقعة، خرج رفيقه “أيمن الظواهري” في إصدار مرئي يوثق من جديد رواية القاعدة الرسمية لأسطورة “بن لادن” الدعائية التي لا تزال تحظى بشيء من البريق عند بعض الجهاديين الذين ينتظرون قحطانيًا جديدًا يقودهم في ركب الخلافة لنصرة المهدي المنتظر، بعد سقوط الآخر في أبوت آباد!
الخلاصة:
بعد عشر سنوات من مقتل أسامة بي لادن في أبوت آباد، فإن عمل حياته، تنظيم القاعدة، يعطي أنفاسه الأخيرة. المشروع الذي حدد حياة أسامة بن لادن قد فشل. أفراد أسرته الرئيسيون إما ماتوا، كأبنه حمزة، أو تبرأوا منه كوالدته.
كما كشفت وثائق أبوت آباد عن شخص فظيع، ففي النهاية، كان نرجسيًا ثريًا يائسًا للشرعية، لم يعطه والده أي اهتمام أبدًا -هذا مشابه للظواهري، لم يستطع أي منهما أن يرتقي باسم عائلته ولجأ إلى تمييز نفسه باتباع المسار الخطأ-.
كانت قصص تقواه أو شجاعته المفترضة مجرد أساطير قام هو بنفسه بالترويج لها ونشرها بمكر من خلال استخدام أمواله وتقنيات الإنتاج الإعلامي المخادعة.
حبه لوسائل الإعلام واعتماده التام عليها موثَّق جيداً، حيث استطاع أن يزرع صورة زائفة، سرابًا، وثبت على وجه اليقين أنه فاسد تمامًا وسامًا في جميع أنحاء العالم ، فـ “الأمير” المزعوم له ميراث من الغدر والخراب.