تحولات الظواهري على لسانه: بدأت إخواني الهوى وانتهيت
في خضم حالة الارتباك الكبير والانتكاسات المتتالية التي عايشها تنظيم القاعدة، منذ بداية عام 2020، ظهر زعيمه “أيمن الظواهري”، بصوته فقط، ضمن إصدار مرئي بثه التنظيم، في مارس/ آذار الماضي، بعنوان: (الروهينجا جُرح الأمة كلها)، محرضًا على تكوين تحالفي قتالي جديد للدفاع عن الأقليات الإسلامية.
قبيل نهاية “إصدار القاعدة” بثوانٍ معدودة تحدث مُعلقه عن رؤية التنظيم للتحالف الجديد قائلًا: “إن على العاملين للإسلام على اختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم أن يتحدوا لمواجهة عدو لم يعد يفرق بينهم..”، ليتلوه تعقيب الظواهري: “هذا هو الطريق..” بينما تصدرت صورة لفض اعتصام أنصار جماعة الإخوان بميدان رابعة العدوية، في أغسطس/ آب 2013، واجهة الفيديو.
إن على العاملين للإسلام على اختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم أن يتحدوا
الظواهري
لم يكن الحديث عن “تحالف الإسلاميين” سوى تأكيد على رؤية زعيم القاعدة الحالي التي دأب على الدعوة والترويج لها طوال السنوات الماضية، ضمن السلاسل الدعائية المختلفة التي بثتها مؤسسة السحاب (الذراع الإعلامي للتنظيم) له، بيد أنه كان كاشفًا عن حجم المعضلة التي تعيشها القاعدة في ظل “إمارة الظواهري“، واليأس الذي تسرب إلى أعماق قلبه ودفعه إلى الانقلاب على اختياراته القديمة والتوجه صوب التحالف مع جماعة الإخوان التي ظل ينتقدها لسنوات طويلة.
ضد الإخوان.. ومعهم أيضًا!
حرص أيمن الظواهري، منذ البدايات المبكرة لجماعة الجهاد المصرية، على إبراز نفسه كنقيض حركي لجماعة الإخوان- رغم قربه الأيدولوجي منها واعتباره أنه نتاج كتابات منظرها سيد قطب- وهو ما ظهر في كتاباته وخطاباته الإعلامية التي نُشرت على مدار أكثر من 3 عقود سواءً عبر اللجنة الإعلامية لجماعة الجهاد أو عبر الذراع الدعائي لتنظيم القاعدة الذي اندمجت فيه الجماعة أواخر تسعينيات القرن الماضي.
وتضمنت كتابات زعيم القاعدة الحالي نقدًا لاذعًا للإخوان وصل لحد وصفهم بـ”التهافت العَقدي” ضمن كتابه الشهير: (الحصاد المر.. الإخوان المسلمين في ستين عامًا)، والذي نُشرت طبعته الأولى عام 1988، بينما نشرت طبعته الثانية بعد 14 عامًا وتحديدًا في 2002، عقب الهزيمة لقاسية لحركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان على يد تحالف الشمال المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية.
على أن الطبعة الثانية من “كتاب الظواهري” جاءت أقل حدةً من سابقتها وصُدرت بمقدمة استرضائية، أقر فيها المؤلف بفضل جماعة الإخوان عليه، ووصف مؤسسها حسن البنا بـ”أحد رواد الجهاد في مصر، وأنه قرن قوله بعمله فأنشأ النظام الخاص، ودرب الشباب على حمل السلاح، وعلم أتباعه مهنة القتال.. وبذر بذرة الجهاد في الحركة الإسلامية المعاصرة بعد سقوط الدولة العثمانية”.
أيها الإخوان تعالوا إلى كلمة سواء
الظواهري
بدا “زعيم القاعدة” عند تلك المرحلة متأرجحًا بين نقد الإخوان واسترضائها، لكن هذا التأرجح لم يخفِ أن سعيه للتقرب منها ارتبط بحالة الانكسار واليأس التي لطالما صاحبت “مسيرته الجهادية”، إذ سبق له دعوة الجماعة للتعاون والتحالف في مقال كتبه بمجلة “المجاهدون” (الناطقة بلسان جماعة الجهاد) في سبتمبر/ أيلول 1995، بعنوان: “أيها الإخوان تعالوا إلى كلمة سواء” بعد أن فشلت جماعته في تحقيق أي أثر استراتيجي على مستوى الصراع مع الحكومة المصرية، وألقي القبض على جل عناصرها وقادتها الفاعلين وأودعوا السجن المشدد.
وتزامن نشر المقال مع إحالة 49 من قيادات الإخوان لمحاكمة عسكرية بتهمة “محاولة إحياء جماعة محظورة” في ما عُرف بـ”قضية 95″، وحاول أيمن الظواهري الاستفادة من الشقاق الحاصل بين الرئيس المصري- آنذاك- حسني مبارك والجماعة، فدعاها لانتهاج العمل المسلح كأسلوب تغييري في مواجهة الحكومة المصرية، قائلًا: (أرجو أن يتخذ الإخوان القرار الصحيح.. ويومها سيجدوننا أقرب الناس إليهم، وأشد الناس لهم إعانة)، وعندما لم تلق دعوته استجابة، وقتها، عاد ليهاجم الإخوان ثم يغازلهم في “الحصاد المر”.
كانت تقلبات “الظواهري” و تناقضاته واضحةً للجميع، وهو دفع أحد الصحفيين المصريين لسؤاله، خلال اللقاء المفتوح الذي بثته مؤسسة السحاب معه في مارس 2008،: هل ما زالت على موقفك من الإخوان؟، فأجاب: نعم، لا زلت على موقفي منهم، وإن كنت قد تراجعت عن بعض عباراتي بشأنهم في الطبعة الثانية من (الحصاد المر)، معللًا هجومه- في إجابة على سؤال آخر- بـ”إني لم أنتقد الإخوان إلا بعد أن طفح الكيل، ودعموا تمديد رئاسة مبارك.. ثم أصدرت طبعته الثانية بعد أن دخل أعضاء تنظيمهم الدولي في أفغانستان والعراق في الحكومتين المشكلتين في ظلال الحِراب الأمريكية..) رغم أن الطبعة التي تحدث عنها صدرت قبل الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط حكم صدام حسين عام 2003.
بيد أنه عاد ليغير جلده من جديد ويتماهى مع الإخوان، في أعقاب موجة الاحتجاجات التي شهدتها عدة دول عربية عام 2011، معلنًا- في كلمته لرثاء أسامة بن لادن والتي بثتها مؤسسة السحاب في يونيو/ حزيران من نفس العام- أنه يؤيد الانتفاضات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ويحرض على انتفاضة مماثلة في باكستان وغيرها.
أصدقاء الظواهري.. كلمة سر التحولات
وربما يزيح التدقيق في تاريخ أيمن الظواهري وسياقاته النفسية، جزءًا من ستار الغموض الذي يلف رحلة تقلباته المثيرة للجدل، وخصوصًا في موقفه من جماعة الإخوان، فبزوغ نجم زعيم القاعدة الحالي ارتبط بشكل وثيق بوجود ثلة من الأصدقاء والمستشارين حوله، وساهم هؤلاء في تعزيز صورته الدعائية وتوجيه بوصلته نحو تبني آراء معينة أو نقض مواقف واختيارات سبق له تبنيها.
ويكشف هاني السباعي، أحد القيادات السابقة لجماعة الجهاد، في مقال كتبه، عام 2004، تعليقًا على كتاب المحامي الإسلامي منتصر الزيات: (الظواهري كما عرفته) أن زعيم القاعدة الحالي أحاط نفسه بـ25 مستشارًا كان لهم الفضل في ضبط إيقاعه وتوجيه حركته التي اختلت عندما اختفوا من حوله، نتيجة مقتل واعتقال أغلبهم خلال سنوات الحرب على الإرهاب.
وتُبين كلمات “السباعي” أن الظواهري ما هو إلا ظاهرة صوتية محبة للظهور الإعلامي- بتعبير رفيقه وأمير جماعة الجهاد السابق سيد إمام الشريف/ دكتور فضل- أحكم مستشاروه صياغتها وترويجها وتوجيهها تارة في تأييد جماعة الإخوان وأخرى في الهجوم عليها، وبالتالي تأرجح زعيم القاعدة على حبال الولاء والعداء للحركة بحسب من تواجد بقربه من أمراء التنظيم، وما فرضته ضرورات المصلحة التنظيمية للقاعدة.
وتتفق ملامح الصورة السابقة مع ما ذكره أبوعبيدة اللبناني- المسؤول الأمني السابق لتنظيم القاعدة بخراسان الذي انشق عن التنظيم في وقت سابق وانضم لتنظيم داعش- في حواره مع صحيفة النبأ الداعشية في مارس 2016، والمعنون بـ: “لقد تأخونت القاعدة”.
وبحسب “اللبناني” فإن تنظيم القاعدة اختار التقرب من الإخوان لأنه رأى أن وصولهم لسدة الحكم في بعض الدول، عقب ما عُرف بـ”الربيع العربي” هو انتصار للتنظيم، ومن ثم عمد منظروه على صياغة مشروع جديد له يتضمن الانخراط تحت مظلة الجماعة في تونس ومصر وليبيا واليمن، مضيفًا أن التنظير لهذا المشروع تم بواسطة 3 من مستشاري زعيمه المقربين هم: عطية الليبي- جمال المصراتي-، وأبويحيى الليبي- محمد حسن قائد-، وسالم الطرابلسي الذي شغل منصب شرعي القاعدة العام، تحت إشراف”الظواهري” وصهره مختار/ عبد الرحمن المغربي.
بين الإخوان وداعش
وفي هذه الأثناء، عمل “القاعدة” على تصدير صورة أقل تطرفًا لنفسه سعيًا لاستمالة الجماهير المسلمة، عبر حملة دعائية منسقة هدفت لغسل سمعته وخلع ثوب التشدد الذي ارتداه، لعقود طويلة، ونشر جناحه الدعائي وثيقة كتبها زعيم التنظيم بعنوان: (توجيهات للعمل الجهادي)، نصت على التوقف عن استهداف المسلمين داخل المساجد والأسواق وأماكن التجمعات.. إلخ، بجانب التأكيد الصريح على التعاون والتحالف مع الجماعات الإسلامية الأخرى- وفي مقدمتها الإخوان- والكف عن انتقادهم وتجريحهم- خلافًا لنهج الظواهري السابق-، مع العمل على تثوير الشعوب وتأليبها على حكامها.
وفي وقت لاحق، نشرت مؤسسة السحاب وثيقة أخرى للظواهري بعنوان: “نصرة الإسلام” أكدت على التوجيهات الجهادية السابقة، وأتبعتها بسلسلة مقالات وكتب لرموز القاعدة كسيف العدل (محمد صلاح زيدان) تناولت مفاهيم الثورة والنضال والحراك الشعبي، التي ظلت لفترة طويلة بعيدة عن القاموس الجهادي التقليدي.
ولعل محاولات غسل سمعة التنظيم، ارتبطت بالتمهيد لمشروع “تحالف الجهادية- الإخوانية” الذي انكشف لاحقًا، لكن هذا المشروع أثار جدلًا في داخل البيت الجهادي الراديكالي أدى- بجانب أسباب تنظيمية أخرى- لتصدع هيكلي في بنيان “القاعدة” المتداعي منذ وقت طويل، وتسبب في انفصال الفرع العراقي، تنظيم الدولة الإسلامية/ داعش الذي أعلن على لسان متحدثه- في ذلك الوقت- أبومحمد العدناني: (أن قيادة القاعدة انحرفت عن منهج الصواب ولم تعد قاعدة الجهاد.. بل حرفوا المنهج وشقوا الصف.. وأن الخلاف معهم ليس على بيعة جبهة النصرة أو قتال الفصائل السورية المسلحة بل على المنهج المشوه الذي يتبناه الظواهري اللاهث خلف ركب الأكثرية والمؤيد لـ”طاغوت الإخوان” على حد قوله).
وعند تلك المرحلة، أصبح زعيم القاعدة أمام مسارين مختلفين ظاهريا أحدهما الانحياز الكامل للإخوان بعد عزل رئيسها “محمد مرسي” الذي أيده واعتبر أن الأمريكان والصليبيين والعلمانيين وبعض المنتسبين للعمل الإسلامي تأمروا للإطاحة به من سدة الحكم في مصر، أو الانقلاب مجددًا على نفسه والتقرب من داعش، لكنه اختار أن يجمع المتناقضات، كما تعود دومًا، وسعى لتوحيد الطرفين تحت قيادته، حتى مع ميله الأكبر نحو الإخوان.
وبالفعل خصص ” خليفة بن لادن” سلسلته التوجيهية: (رسائل مختصرة لأمة منتصرة) التي بثتها مؤسسة السحاب على 10 حلقات في الفترة من 2016: 2018، لدعوة داعش والإخوان- كلًا على حدة- للتحالف معه، واستهل حلقتها الأولى “من يحمي المصحف؟” بالعودة لنهجه القديم في دعوة الإخوان للعمل المسلح، وكذلك غازل داعش للانضمام إليه والتوحد في مواجهة التحالف الدولي المعروف باسم “العزم الصلب”.
التحالف المأزوم
غير أن تعاطي جماعة الإخوان مع دعوات أيمن الظواهري، التي دأب على تكرارها منذ أواخر القرن العشرين، اختلف نسبيًا هذه المرة، لاسيما وأن الحركة كانت قد انقسمت على ذاتها، في تلك الفترة، وانشطرت لجبهتين متصارعتين– هما: جبهة المكتب العام والمعروفة أيضًا بجبهة محمد كمال (رئيس اللجنة الإدارية العليا الأولى وعضو مكتب إرشاد الإخوان سابقًا)، وجبهة القيادات التاريخية/ جبهة محمود عزت وإبراهيم منير (نواب مرشد الإخوان)- ونتيجةً لهذا الشقاق الجماعاتي قررت الأولى أن تتحالف مع القاعدة لتسقط الحكومة المصرية عبر العمل العنيف.
أدرك زعيم القاعدة أن الفرصة التي انتظرها طويلًا قد أصبحت سانحة، فركز في ظهوره الإعلامي شبه الدوري، على انتقاد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان- كما في رسالته الثامنة من سلسلة الرسائل المختصرة والتي سُميت (بشرى النصر لأهلنا في مصر)- مطالبًا أعضائها وأنصارها ببداية جديدة يتوحد فيها جميع الإسلاميين لاقتلاع النظام الحاكم من جذوره.
ولعبت الضرورة العملياتية دورًا في رسم ملامح اتحاد/ تحالف “الجهادية الإخوانية”، الذي تولت الجماعة بموجبه تنسيق عمليات تهريب الجهاديين ونقلهم إلى ساحات الصراع في سوريا وليبيا وشرق ووسط إفريقيا، بالتعاون مع منسقي القاعدة المتواجدين داخل الشمال السوري، بينما أشرف تنظيم القاعدة عبر أفرعه الإقليمية- كتنظيم المرابطين الذي قاده الرائد السابق هشام عشماوي (أُعدم في مارس 2020)، وجبهة النصرة (فرع القاعدة السابق في سوريا) على تدريب وتأهيل شباب الحراك الإخواني المسلح لتنفيذ عمليات إرهابية في مصر وبعض الدول العربية، كان منها محاولة اغتيال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في استراحة المعمورة بالإسكندرية على يد مسلحي حركة لواء الثورة، الذين تدرب أحدهما، للمفارقة، في معسكرات القاعدة بسوريا.
وبينما واصلت القيادة العامة للقاعدة التحريض على العمل المسلح داخل مصر في بياناتها الإعلامية، خطط فرع التنظيم في مصر وليبيا (المرابطون)، وحركات الإخوان المسلحة (سواعد مصر- حسم، ولواء الثورة) لإطلاق حرب عصابات شاملة- على غرار مخطط طلائع الفتح، إحدى تشكيلات جماعة الجهاد المصرية– كان هدفها النهائي السيطرة على الحكم في البلاد، غير أن “التحالف المأزوم” تلقى ضربات قوية في أعوام 2017، و2018، و2019، أسفرت عن القبض على القائد الإقليمي للقاعدة هشام عشماوي ثم إعدامه، ومقتل نائبه الضابط المفصول عماد عبد الحميد مع مجموعة من عناصر التنظيم (خلية الواحات)، وتفكيك العديد من الشبكات “الجهادية- الإخوانية” الخطرة.
وفي حين، انكفئ تنظيم القاعدة على نفسه بعد سلسلة هزائم وضربات متوالية أثخنته بالجراح، كان آخرها فقده لعدد من قادته البارزين أبرزهم الرجل الثاني فيه “أبومحمد المصري”، عاد “الظواهري” إلى سيرته الأولى، داعيًا لتكوين تحالف حركي جديد، على أمل أن ينجح في ضخ الدماء داخل أوردة التنظيم الواهنة لتمنحه بضعة أنفاس أخيرة في مواجهة الموت الإكلينكي الذي يقاسي وطأته.