“اشتقت إلى أبي كثيراً، وإنني فخورة به… إنّ والدي ليس إرهابياً”.
من البديهي أن يفتخر أيّ بلد حول العالم، بمثقفيه وأدبائه وشعرائه، ويقدمهم على أنّهم من دعائم المجتمع وصنّاع الأمل فيه، إلّا أنّ تلك الحقيقة تبدو غائبة عن الصين، على الأقل بالنسبة لمثقفيها من الإيغور والأقليات العرقية الأخرى، فبدلاً من تقديم الدعم لهم، تزج بهم في السجون، وتحاكمهم بتهم مختلفة تصل أحكام بعضها إلى الإعدام.
واحدجان عثمان، شاعر وأديب معروف، ينتمي إلى أقلية الإيغور المسلمة والتي تقطن بغالبيتها في إقليم شينجيانغ، لم تشفع له مكانته الأدبية، فتعرّض لبطش الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، وزُج به في السجن بتهمة تأليف كُتب تحرّض ضدّ أقلية الهان، التي تشكل غالبية الشعب الصيني.
الشهر الماضي، بثت شبكة تلفزيون الصين العالمية التي تديرها الدولة (CGTN) فيلمًا وثائقيًا مدته 10 دقائق، بعنوان “تحديات مكافحة الإرهاب في شينجيانغ”، زعم أنّ مسؤولي النشر السابقين وكبار المحررين المنتمين لأقلية الإيغور، قاموا بتضمين الكتب المدرسية التي تم نشرها عام 2003، أفكاراً انفصالية ومتطرفة، وكن من بين الناشرين المتهمين بذلك هيتجان عثمان، رغم مكانته الأدبية في الأوسط المثقفة داخل الصين.
وادعى الفيلم الوثائقي أنّ كلّ من واحدجان عثمان وناشر آخر يدعى يالكون روزي، وهما كانا مسؤولان عن المحتوى النصي للكتب المدرسية الصادرة باللغة الإيغورية، بين عامي 2003 و 2009 لطلاب المدارس الابتدائية والمتوسطة، قاما بالترويج عبر تلك الكتب، لأفكار معادية لعرق الهان، إضافة إلى احتوائها على أفكار انفصالية.
“أخبار الآن” تحدّثت مع “أيكنات عثمان”، وهي إبنة الأديب الإيغوري، والتي أكّدت أنّ كلّ التهم التي وجهت لوالدها، ليس لها أساس من الصحة، خاصة أنه تمتع بسيرة علمية متميزة، ونال العديد من الجوائز، وقالت: “الفيديو الذي بثته شبكة تلفزيون الصين العالمية، زعم أن أبي امتلك نزعة انفصالية، واختلق قصصا زائفة، ليدعم مزاعمه حول إدراج والدي مثل هذه الأفكار الانفصالية العرقية في الكتب المدرسية”.
أيكنات: والدي كتب الشعر وألّف الكتب.. إن والدي ليس إرهابياً.
أبطال الأمس.. خونة اليوم
أيكانت ضربت أمثلة على الإتهامات الباطلة التي تسوقها الحكومة الصينية للأدباء والمثقفين من الإيغور، وقالت: “زعمت الحكومة الصينية أنّ كتاباً حمل عنوان البنات السبعة، حرّض ضدّ أقلية الهان، إلّا أنّ الكتاب تحدّث بكل وضوح عن عرق المانشو ولم يتطرق إلى الهان في الأساس”.
وأدرفت: “لكي أقرب الصورة بشكل أوضح، أحمد جان قاسمي، وهو زعيم جمهورية تركستان الشرقية قبل أن يستبيحها جيش التحرير الصيني، وُصف من قبل مؤسس جمهورية الصين الشعبية ماو تسي تونغ، بأنّه بطل قومي.. هذا البطل القومي لو كان موجوداً بيننا الآن، لاتهموه بالانفصال”!
وأضافت: “عمل والدي في مطبعة شينجيانغ التعليمية للنشر في العام 2001، وبين عامي 2002 و 2005، شغل منصب رئيس تحرير مجلة (برواز)، وفي العام 2006، انضم إلى فريق المشرفين على إعداد مناهج الإيغور.. الفيديو الذي بثته القناة الرسمية الصينية زعم أنّ والدي كان يعمل في قسم الأدب منذ العام 2003، وبأنّ الكتب التي أعدها لم تكن سليمة، لا أعتقد أن هناك أيّ خطأ في تلك الكتب”.
أيكنات التي لم تتلق أيّ معلومات عن والدها منذ سنوات أربع ونصف، قالت لـ “أخبار الآن“: “آخر مرّة زرت فيها أورومتشي، كانت في صيف العام 2016، وحينها كان المرة الأخيرة التي أرى فيها والدي، إلى أن رأيته على شاشة التلفزيون الصيني الحكومي”.
وأضافت: “منذ ذلك الوقت لم أتلق أي أخبار ولا صور ولا مقاطع فيديو عن والدي.. المرة الأولى التي رأيته فيها كانت على القناة الرسمية الصينية في مقطع الفيديو الذي احتوى معلومات مغلوطة وبث في الثاني من شهر أبريل الماضي”.
وأردفت: “أوّل مرة رأيته لم أعرفه، فهو كان يرتدي ملابس السجن، وقد فقد الكثير من وزنه، حينها أصبت بصدمة كبيرة”. واختتمت حديثها مع “أخبار الآن” بالقول: “أفتقد والدي كثيراً.. وأنا فخورة به”.
عبد الوالي أيوب، وهو ناشط إيغوري يقيم في النرويج، شدّد في مقابلة مع “أخبار الآن“، أنّ الأديب واحدجان عثمان، لم يضمن أي أفكار إنفصالية في كتبه التي أشرف على تأليفها أو تنقيحها. وقال: “في الحقيقة، أتحدّث عن مشكلة تتعلق بكتاب لغوي مدرسي صدر باللغة الإيغورية، تمّ تنقيحه في العام 1999 ولكنّه نشر بعد العام 2000.. واحدجان عثمان كان أحد منقّحيه، والكتاب تحدث عن الأدب الصيني وأورد بعض الجزئيات عن الأدب الإيغوري، وتحدث كذلك عن تاريخ الصين وجزء من تاريخ الإيغور، كما تتناول التاريخ الثوري الصيني بعد ان احتل الحزب الشيوعي أرضنا. وتضمّن ما يجب أن يتضمّنه في الصين”.
وأوضح: “فمثلاً الكتاب ارتكز على متطلبات الفرع المحلي للحزب الشيوعي الصيني، وتمتع بالمستوى ذاته من الكتب المدرسية الوطنية الصينية، لذلك يمكننا القول إنه النسخة الخاصة بالإيغور عن الكتب المدرسية الوطنية الصينية. كما أن واحدجان عثمان والمنقّحين الآخرين من المثقّفين الإيغور الذين عملوا على تنقيح الكتاب اتّبعوا جميعاً وبالتفصيل التعليمات الصينية”.
وأردف: “ومنذ 13 عاماً تقريباً يُستعمل هذا الكتاب من قبل أكثر من 2.5 مليون طالب في مناطق الإيغور، وكانت الحكومة الصينية قد توقعت أن يتم استعمال ذلك الكتاب من قبل 3 ملايين طالب تقريباً، وبعد ذلك عام 2016 اتُهم الكتاب بالإرهاب فتمَ اعتقال رئيس التحرير يلقون روزي وغايريتجان عثمان و 3 آخرين من الأدباء الإيغوريين البارزين، وكذلك تم اعتقال مدرسين قاموا بتدريس ذلك الكتاب وبعض التلامذة الذين درسوه”.
أيوب: الصين تعتقل أكثر من 400 مثقف أيغوري في شينجيانغ
أيوب أوضح لـ”أخبار الآن“، نتائج دراسة أجراها على المعتقلين الإيغور، حاول من خلالها تقديم إحصائية ولو تقريبية لأعداد المعتقلين البارزين من تلك الأقلية، وقال: “بحسب الدراسة التي قمت بها، تمّ اعتقال ما يناهز من 400 مثقف إيغوري حتى الآن. وهذا العدد مؤكد وربما هو أكثر ولكننا لا نملك معلومات ومصادر كافية للتأكد من ذلك”.
وأضاف لـ”أخبار الآن“: “وبناءً على دراستي كما ذكرت سابقاً وعلى بحث أجرته كذلك منظمة حكومية تابعة للإيغور مركزها في النرويج وتعنى بحقوق الإنسان، وُجد أن ما يقارب من 400 مثقف تم اعتقالهم علماً أن الكتاب الذي تسبب بحملة الاعتقال تلك، تمّ تنقيحه وتمحيصه ونشره في الصين، ونشرته دار نشر صينية، لذلك يمكننا أن نقول إنه من بين المنقّحين كان هناك أستاذة مسلمين لم يتم اعتقالهم، فيما المنقّحون الإيغور زج بهم في السجون. لهذا السبب يمكننا القول إن هذه المسألة هي استهداف للمثقفين الإيغور”.
وأردف: “أعرف والد أيكنات بشكل شخصي وهو من خرّيجي جامعة عريقة في شمال غرب الصين، وقد نشر بعض الكتب عن أدب الإيغور وكان شعره ذائع الصيت، كما تحوَلت بعض أشعاره إلى أغانٍ باللغة الإيغورية، وهو شخصية محترمة وذكية جداً ويُعرف بعمله الجاد وقد ألقى خطابات في عدة مدن عن التربية وشدد فيها على أهمية الاعتناء بالتربية والثقافة واللغة الإيغورية، إضافة إلى جهوده وعطاءاته التي قدمها للأدب واللغة والثقافة الإيغورية”.
يذكر أنّ السلطات الصينية تحتجز أكثر من مليون إيغوري، في معسكرات اعتقال جماعية، وقدرت منظمات حقوقية أنّ العدد قد يفوق الثلاثة ملايين معتقل. وتدعي بكين أنّها تقوم بإعادة تأهيل الإيغور، فيما أشارت عشرات التقارير والوثائق المسربة إلى أنّ الأقلية المسلمة تتعرض لأبشع أنواع الإضطهاد والتنكيل، لسلخها عن ثقافتها وتعاليم دينها، ودمجها بعرق الهان الذي يشكل غالبية الشعب الصيني.