عندما حصلت من مصدر في سوريا مطلع العام 2019 ولأول مرة على محتوى هاتف أحد أفراد داعش، شعرت بحماس كبير. الهاتف كان يحتوي على آلاف الصور ومقاطع الفيديو والملفات الأخرى. كنت أعلم من اللحظة الأولى أنه من المحتمل أن أجد قصة مهمة في هذا الهاتف لكنني لم أدرك أبدًا أنها ستكون بهذا الحجم.
نظرًا لأنني لم أكن أعرف هوية صاحب الهاتف، قمت بمراجعة جميع الصور والملفات بحثاً عن أدلة. رأيت العديد من الصور لامرأة واحدة، غالباً مع أطفال. التقطت الصور في ألمانيا وتركيا وسوريا وتنوعت بين الصور العائلية، صور لأشخاص يحملون أسلحة والكثير من المواد الدعائية الخاصة بداعش والمستندات الشخصية أيضاً. إن الاسم المتكرر على تلك الوثائق كان: أميمة عبدي.
في ذلك الوقت، لم تكن لدي أدنى فكرة عن أميمة عبدي. لذلك، بدأت في التحقيق. تفحصت وقارنت جميع الصور عدة مرات للحصول على أدلة. بحثت في موقع غوغل واتصلت بالمصادر وبحثت في ملفات pdf للحصول على أي معلومة. تمعنت و استمريت في فحص محتوى الهاتف مطولا.
في النهاية توصلت إلى الاستنتاج التالي: الهاتف يخص أميمة عبدي وهي امرأة سلفية جهادية من هامبورغ بألمانيا. ولدت في العام 1984 وسافرت في العام 2015 إلى مناطق داعش في سوريا مع أطفالها الصغار. من سوريا حاولَت إقناع نساء أخريات بالالتحاق بها معتبرة أن الحياة في ظل حكم داعش رائعة. في سوريا أيضا تزوجت من دينيس كاسبيرت، المعروف باسم ديزو دوغ، وهو أحد أكثر متطرفي داعش شهرة في ألمانيا.
بعد أن حددت هوية صاحبة الهاتف، كانت تراودني العديد من الأسئلة. فأنا لم أكن اعلم ما إذا كانت أميمة عبدي على قيد الحياة أم لا. هل قتلت في سوريا؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فأين هي الآن؟
في محرك البحث غوغل، بحثت عن اسم “أميمة عبدي” وسرعان ما عثرت على حساب لينكد ان LinkedIn بنفس الاسم يحمل صورة لعبدي وهي بدون حجابها. وفقًا لصفحتها، عرّفت عن نفسها على أنها مترجمة ومنظمة فعاليات تعيش في هامبورغ بألمانيا.
بطبيعة الحال، لم يرد على حساب لينكد إن الخاص بها أي ذكر لماضيها مع داعش، لا شيء بخصوص انضمامها إلى التنظيم في سوريا، لاشيء عنها وعن أطفالها الصغار وهم يحملون السلاح ويلوحون بأعلام داعش في الرقة، ولا شيء عن زواجها من دينيس كاسبرت. يبدو أن أميمة عبدي قد عادت بهدوء من أراضي داعش في سوريا وهي تستمتع بحياة طبيعية في ألمانيا، كما لو أن شيئا لم يحدث.
لكن بالنسبة لي كصحفية، فإن افتراض أنها تعيش مجددا في ألمانيا، بناءا فقط على صفحتها على مواقع التواصل الإجتماعي، لا يكفي. أحتاج إلى أكثر من حساب لينكد ان بل إلى دليل ملموس لأنشر مثل هذه المعلومة.
لذا، سافرت من دبي إلى هامبورغ في ألمانيا لكي أجدها و أراها بأم عيني. في هاتف أميمة، لاحظت وجود عناوين مختلفة، استأجرت سيارة وانتظرت أيامًا أمام تلك المنازل. ساعات طويلة قضيتها من الجلوس في السيارة ترافقني قهوة ساخنة وبعض الشطائر الرخيصة. أحدق في الأشخاص الذين يدخلون ويغادرون الأماكن التي يُحتمل أن تعيش فيها عبدي.
في البداية، لم أر أي شخص يشبه عبدي لكني لم أفقد الأمل. فجأة في إحدى أحياء هامبورغ، وتحديدا في نوي غرابن فيشبيك، رأيت المرأة التي أعرفها من الصور في الهاتف. تيقنت أن المرأة التي ترجلت من سيارة زرقاء وسارت إلى منزلها هي أميمة عبدي.
الاّن وبعد أن تأكدت أن عبدي على قيد الحياة وتقيم في ألمانيا، بحثت أكثر عن ماضيها وعلمت أن بعد عودتها من أراضي داعش في سوريا، لم يتم القبض عليها ولم تستجوبها السلطات الألمانية. يبدو أن لا أحد في ألمانيا يعرف أو يهتم بأنها كانت مع داعش.
قبل أن أنشر قصة تلفزيونية طويلة ومتعمقة عن الفترة التي قضتها عبدي مع داعش في سوريا، اتصلت بها وأعطيتها فرصة للرد ولتوضيح وجهة نظرها الا أنها غضبت مني وأقفلت الخط في وجهي.
بعد بث تقريري على قناة الآن، سارعت مختلف وسائل الإعلام الألمانية بنشر القصة ايضا واستغرب الكثيرون كيف يمكن لأرملة دينيس كاسبرت أن تعيش بشكل طبيعي، بدون أي عواقب، لمدة ثلاث سنوات تقريبًا في هامبورغ بعد التحاقها بتنظيم إرهابي؟ وكيف لا تملك السلطات أي دليل على أن أعضاء داعش يغادرون ألمانيا ويدخلون إليها بدون أي مشاكل؟ وهل هو مستغرب بعد هذا أن تحدث هجمات إرهابية في أوروبا؟
بعد أن أصبحت قصة عبدي علنية وذلك في نيسان/أبريل 2019، ظهرت معلومات جديدة عنها واتضح أنها بعد أن غادرت أراضي داعش في سوريا، توجهت إلى السفارة الألمانية في أنقرة. قالت هناك إنها كانت في سوريا لكنها تريد العودة إلى ألمانيا وتحتاج إلى وثائق سفر وقامت البعثة الألمانية بتلبية طلبها. هكذا عادت أميمة إلى ألمانيا بلا أي عوائق. هذا يعني ان السلطات الألمانية علمت في العام 2016 أن أميمة كانت مع داعش في سوريا وأنها عادت إلى هامبورغ لكن يبدو أنهم لم يكترثوا لأمرها أو لم يكن لديهم أدلة كافية لتوجيه الاتهام إليها.
تغير ذلك بعد نشر قصتي عن هاتف أميمة المفقود، لأن آلاف الصور والمستندات من الهاتف شكلت أدلة دامغة لتوجيه الاتهام إليها.
في سبتمبر 2019، ألقت الشرطة الألمانية القبض على عبدي ونُقلت إلى سجن خاص. أثناء محاكمتها استخدمت الصور التي وجدتها على هاتفها كدليل، وحُكم عليها في نهاية المطاف في العام 2020 بالسجن لمدة 3.5 سنوات لانضمامها إلى منظمة إرهابية وارتكابها جرائم ضد الإنسانية.
هذا العام وجهت إليها مرة أخرى تهم جديدة حيث وجدت السلطات الألمانية أدلة على أن أميمة عبدي استخدمت اثنين من الأيزيديات “السبايا” لتنظيف منزلها في الرقة. حُكم عليها الأسبوع الماضي بالسجن ستة أشهر إضافية بتهمة المشاركة في السبي.
وهكذا تكون قد انتهت محاكمة أميمة عبدي. عادة ما يتم الكشف عن الإرهابيين من قبل السلطات أو رجال الشرطة لكن هذه المرة أدى عملي الصحفي إلى اعتقال وإدانة امرأة انضمت لداعش، كانت ستهرب من العدالة لولا ذلك.
عقوبة السجن التي نالتها وتصل بالإجمال الى أربع سنوات ليست شديدة نظرا لانضمامها إلى داعش وحمل السلاح وتعريض حياة أطفالها للخطر واستخدام “السبايا” الأيزيديات لتنظيف منزلها لكن أربع سنوات تظل أفضل من لا شيء.
أما بالنسبة لي، فهناك عامل سلبي سيرافقني طوال حياتي بسبب نشر هذه القصة. من البديهي أن أميمة عبدي تنظر إلي على أنني “تلك المراسلة التي دمرت حياتها”، فهي ذكرت اسمي في المحكمة وقالت أن “كل شيء ساء منذ اللحظة التي نشرت فيها موسى تلك القصة”.
من جانبي، أشعر بالفخر لنشري هذه القصة التي أحدثت فرقا في حياة الضحايا لكن في الوقت نفسه أدرك المخاطر التي تلاحقني. أشعر بالخوف والقلق على سلامتي لأنني كصحفية، قلمي هو سلاحي الوحيد، بينما تستخدم التنظيمات الإرهابية كافة وسائل العنف لإسكات الصحفيين.