مصطحباً سلاح كلاشنكوف روسي قديم، جلس “أيمن الظواهري” أمام عدسة كاميرا في مكان مجهول بجنوب آسيا، ليسجل رثاء زعيم القاعدة المؤسس أسامة بن لادن، بعد أسابيع قليلة على مقتله، وبعد أن استهل خطابه بالطريقة المعتادة، قال الظواهري: “ذهب إلى ربه الرجل الذي كان يؤكد على أنّ انتصارنا الأكبر على أمريكا هو في كشف انحطاطها وهزيمتها في ميدان الأخلاق والمبادئ”!.
بدا “الظواهري”، في ذلك الحين (يونيو/ حزيران 2011)، وكأنه يصارع الكلمات محاولاً تطويعها ليصوغ بها رثاء رفيقه السابق، رغم أنه اعتاد، في سنواته السابقة، على إلقاء كلمات مشابهة في تأبين قادة القاعدة البارزين الذين سقطوا كأحجار الدومينو واحداً تلو أخر.
لم يكن خطاب أيمن الظواهري، مجرد إعلان عن نهاية حقبة “بن لادن” في قيادة القاعدة فحسب، بل شكل انقلاباً على ثوابت التنظيم الحركية التي تبناها منذ تأسيسه في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، واعترافاً بانعدام الفاعلية والفشل الاستراتيجي الذي لازمه لسنوات.
فبعد عقد من العمليات الإرهابية التي طالت نيرانها آلاف المدنيين، خرج الزعيم الجديد للقاعدة محاولاً خلع ثوبه القديم الملطخ بالدماء، ليعلن أن هدفه الأكبر هو الانتصار الأخلاقي على الولايات المتحدة، ويثمن الاحتجاجات التي شهدتها العديد من البلدان العربية في 2011، ويدعو لاستمرارها مصوراً إياها بأنه “هزيمة قاصمة لأمريكا ووكلائها”.
فقدان الزخم والتأييد
حمل إعلان “الظواهري“، تأكيداً ضمنياً على فقدان القاعدة للزخم والتأييد، وهو الأمر الذي رصدته وأكدته استطلاعات رأي مستقلة أُجريت، في نفس الفترة تقريباً، داخل عدد من الدول الإسلامية، ووفقاً لاستبيان سابق أجراه مشروع الاتجاهات العالمية التابع لمركز بيو للأبحاث فإن الدعم الذي حازته القاعدة لدى قطاعات محدودة في البلدان العربية والإسلامية، تآكل بمرور الوقت ووصل في بعض الدول إلى 2% فقط، بحلول عام 2011.
وانعكس انهيار التأييد الهش على الجوانب العملياتية والحركية داخل القاعدة، إذ انخفض عدد المنضمين للتنظيم وتناقص إلى حد كبير، وعانى أيضاً من انقسام هيكلي على مستوى القيادة التنفيذية بين فرعه المركزي (قاعدة خراسان)، وقيادة الأفرع المحلية (في العراق وإفريقيا.. إلخ)، كما عاش عناصره أوضاعاً صعبة وصفها عزام الأمريكي/ آدم يحيى غدن، (المتحدث باسم التنظيم سابقًا 1978: 2015)، في رسالة سابقة لمسؤولي العمليات الخارجية بالقاعدة بقوله: “الأخوة في الجبهات يمرون بأوقات عصيبة ويواجهون المصيبة تلو المصيبة”.
حاول التنظيم القفز على الأزمات الداخلية التي عانى منها، منذ فقدانه ملاذاته الآمنة فوق الأراضي الأفغانية -مع انهيار حكم حليفته التاريخية (حركة طالبان)- عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، فركز على دعم الحركات المسلحة القريبة من خطه الفكري والمنخرطة في نزاعات محلية في العراق واليمن والصومال ومنطقة المغرب العربي وغرب إفريقيا وغيرها، مستفيداً من وجود عدد من مقاتليه وحلفاءه الذين انضموا له في بدايات تأسيسه.
ولعب جهاديو القاعدة المخضرمين دوراً في تأسيس أفرع خارجية مرتبطة بالتنظيم المركزي وتزكية قيادات كاريزمية لتولي إمارة تلك الأفرع، بحسب ما كشفته رسالة لأسامة بن لادن وجهها لعطية الله الليبي (جمال المصراتي) حول وضع تنظيم القاعدة في اليمن/ تنظيم أنصار الشريعة.
وتوضح رسالة “بن لادن” أن قيادة القاعدة لم يكن لديها معرفة مسبقة بأنور العولقي (أمير التنظيم في اليمن حينئذ)، وإنما اختارته ليتولى الإشراف على الفرع اليمني، بناءً على توصية من ناصر الوحيشي/ أبو بصير، للاستفادة منه، وهو نفس الأمر الذي حدث مع أبو عمر البغدادي أمير تنظيم دولة العراق الإسلامية وخليفته أبوبكر البغدادي زعيم داعش السابق.
العودة لما قبل “القاعدة”
بيد أن الاستراتيجية التكيفية التي اتبعتها “القاعدة” للبقاء على الساحة العملياتية المتغيرة، لم تُسْهم في إنقاذ التنظيم بل سرعت من عملية التحولات الحرجة التي مر بها، وفاقمت التحديات الوجودية التي واجهها.
ولذا، عمدت قيادة التنظيم العليا على تفويض سلطة الإشراف والتوجيه إلى أمراء الأفرع المحلية التي انضوت تحت لواء التنظيم لأسباب مختلفة منها السعي لكسب الشرعية عبر الانتماء لحركة الجهاد المعولم، أو الحصول على دعم مادي ولوجيستي.. إلخ.
وبسبب ضعف آلية القيادة والسيطرة لدى “القاعدة المركزية” وانشغال الأفرع المحلية بالوصول أجندتها الخاصة، أصبح التنظيم بمثابة مظلة شكلية تجمع عدداً من الحركات المسلحة غير المتجانسة، دون أن يكون لتلك الحركات دوراً/ مساهمةً في تحقيق الأهداف والغايات الكبرى للقاعدة أو ما تسميه باستهداف العدو البعيد (الولايات المتحدة والدول الغربية).
ونتيجة للعوامل السابقة وغيرها، عاد التنظيم للمربع صفر الذي يُمثل مرحلة ما قبل القاعدة والتي كان لكل جماعة جهادية فيها رؤيتها وأهدافها الذاتية غير المرتبطة بالحركة العالمية، وبالتالي فقد التنظيم جزءاً كبيراً من أهميته الرمزية التي صعدت به لقيادة الجهاد المعولم، وفشل في تنفيذ أي هجوم كبير ضد الولايات المتحدة وحلفائها منذ الـ11 من سبتمبر، واكتفى بتحريض الجهاديين المحليين/ الذئاب المنفردة في تلك الدول على شن هجمات بأي وسيلة ممكنة ضد أهداف مدنية أو عسكرية، ومؤخراً اتجه -بدافع اليأس على ما يبدو- إلى دعوة غير المسلمين لتنفيذ تلك الهجمات مقابل وعد بمكافآت مالية كبيرة تُدفع بالعملات المشفرة، كما جاء في العدد الثاني لمجلة ذئاب منهاتن المحسوبة عليه.
سقوط القيادة والتنظيم
وبالتوازي مع فقدان القاعدة السيطرة على الأفرع المحلية، نجحت حملات مكافحة الإرهاب المستمرة في تحييد العديد من القادة والعناصر الفاعلة، والتي عملت أو ارتبطت بما يسمى بالقيادة العامة/ المركزية أو ضمن مجلس الشورى العالمي والمعروف أيضاً بالمجلس القيادي الذي يُشكل أعلى هيئة قيادية، بحسب اللائحة الداخلية للتنظيم.
وخلال العقد الماضي فقط، خسر التنظيم جل قادته المؤسسين والفاعلين وفي مقدمتهم: أسامة بن لادن (2011)، وأنور العولقي (2011)، والقيادي الشرعي البارز أبويحيى الليبي حسن قائد (2012)، والرجل الثالث في التنظيم عطية الليبي (2012)، والزعيم الأسبق لفرعه في اليمن أبو بصير ناصر الوحيشي (2015)، وقائد مجموعة خراسان في سوريا محسن الفضلي (2015)، ومنسق القاعدة في الشام عبد الرحمن الشارخ/ سنافي النصر، والرجل الثاني في القاعدة أبو الخير المصري (2017)، ونجل زعيمه السابق حمزة بن لادن (2019).
جراف أبرز قادة القاعدة المقتولين خلال الأعوام الماضية
بينما اعتُبر العام الماضي (2020)، أسوأ سنوات التنظيم على الإطلاق إذ فقد فيه ثلة من قيادته البارزة منهم: (قاسم الريمي- زعيم التنظيم السابق في اليمن، وأبو محسن المصري- المسؤول عن الجناح الدعائي، وأبو محمد المصري- الرجل الثاني في التنظيم، وأبو القسام الأردني- عضو مجلس الشورى العالمي، وأبو مصعب عبد الودود- زعيم التنظيم في المغرب العربي، وأبو بكر الشوبياني، نائب زعيم الفرع الهندي للقاعدة.
وبسقوط تلك المجموعة القيادية، خسر التنظيم 3 من أصل 4 مرشحين لخلافة أيمن الظواهري، علاوة على حمزة بن لادن الذي كان مرشحاً محتملاً لإمارة القاعدة نظراً لخلفيته الاجتماعية والإرث الرمزي الذي حازه لكونه نجل أسامة بن لادن.
كما تلقت أفرع القاعدة القوية ضرباتٍ مؤثرة قوضت قدراتها العملياتية وأفقدتها معاقل سيطرتها، فعلى سبيل المثال مُني الفرع اليمني للقاعدة/ أنصار الشريعة بهزائم متتالية، وأُجبر على الانسحاب من المعاقل التي سيطر عليها، عام 2015، في المكلا (شرقي اليمن) وتحول إلى مجموعات عصابات مستنزفة ومطاردة، وكذلك تعرض الفرع السوري/ حراس الدين لانتكاسات عديدة ودخل، منذ 2018، في صدام مع الحليف السابق للقاعدة في سوريا/ هيئة تحرير الشام، وتحول أفراده وقادته لمجموعات متخفية وهاربة في الشمال السوري، وفي مصر فشلت المجموعات المحسوبة على القاعدة كجماعة المرابطين التي قادها الضابط السابق هشام عشماوي الذي أُعدم في مارس/ آذار 2020، وجماعة أنصار الإسلام التي قادها الضابط المفصول عماد عبد الحميد المقتول في 2017، ولجأت قيادة التنظيم إلى تبني مجموعات لم تبايع القاعدة أو ترتبط بها رسمياً -كما ظهر في سلسلة إحمل سلاح الشهيد التي نشرها التنظيم في 2016- كجماعة أجناد مصر التي انتهى وجودها الفعلي منذ عام 2015.
وعلى ذات الصعيد، انفصل تنظيم الدولة/ داعش عن القاعدة، نهائياً، في 2014، بعد شقاق جهادي، احتدم إثر إعلان الأول تمدده إلى داخل سوريا وتأسيس ما أسماه بـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وبُويع التنظيم الأخير من قبل مجموعات محسوبة على القاعدة كجماعة أنصار الإسلام في بلاد الرافدين.
وعلى نفس المنوال، انشقت مجموعات جهادية أخرى وبايعت داعش كمجموعة أبو الوليد الصحراوي (فرع داعش في الصحراء الكبرى والتي كانت تتبع القاعدة في المغرب العربي)، وجماعة بوكو حرام (التي بايعت داعش وتحول الجزء الأكبر منها للعمل تحت اسم ولاية غرب إفريقيا)، ومجموعات أفغانية وباكستانية وصومالية أخرى أسست كل منها فرعاً داعشياً في مناطق نشاطها.
محاولات فاشلة لكسب الحلفاء
وتحت وطأة الهزائم التي تلقاها تنظيم القاعدة وأفرعه المحلية، بدأت قيادته المركزية التفكير في تصدير صورة جديدة أقل تطرفاً عنها، فتبنت نهجاً براجماتياً مدعوماً بنبرة دعائية تصالحية تختلف عن لهجتها الجهادية التقليدية، وعملت على التقرب من الجماعات الإسلامية الأخرى كجماعة الإخوان وفرعها الفلسطيني “حركة حماس” والتي دأبت على انتقادها سابقاً.
ودعا أيمن الظواهري في أخر ظهور له ضمن إصدار “الروهينجا جُرح الأمة كلها” لتشكيل تحالف قتالي جديد للدفاع عن الأقليات المسلمة، وروجت منصات القاعدة لهذه الدعوة بصورة لافتة، ونشرت صحيفة ثبات الإلكترونية التي تصدرها وكالة ثبات، محسوبة على القاعدة، مقالات لقيادات جهادية -من بينهم “أبو حفص المقدسي” أمير ما يُعرف بجيش الأمة السلفي في غزة- حول تصورهم عن التحالف الجديد، داعيةً للدخول تحت مظلة القاعدة المهترئة.
كما استغل التنظيم جولة المواجهات الأخيرة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، للتقرب من حركتي حماس والجهاد، واصفاً الفصائل الفلسطنية بـ”مجاهدينا في فلسطين الحبيبة”، وذلك في بيان صادر عن القيادة العامة في مايو/ آيار الماضي، والعدد الـ35 من نشرة النفير الصادرة عن مؤسسة السحاب للإنتاج الإعلامي (الذراع الدعائي للقاعدة).
وفي نفس الوقت الذي حاول فيه تنظيم القاعدة حجز مقعد له في معسكر الاعتدال المزعوم، كانت القيادة العامة له تتواصل مع تنظيم داعش وتعرض عليه مشروعاً للتحالف والاتحاد من أجل مواجهة الحملة الجديدة للتحالف الدولي/ عملية العزم الصلب، على معاقل الجهاديين في سوريا والعراق، وفقاً لما ذكره “الظواهري” في كلمته “بنيان مرصوص” التي نشرها التنظيم ضمن سلسلة (رسائل مختصرة لأمة منتصرة- 2016).
ولاحقاً، تبين أن دعوة الظواهري، ليست سوى مناورة منه لاختراق داعش وقيادتها من الداخل -على حد تعبير أحمد أبو سمرة، القيادي البارز بداعش سابقاً، في مقال سابق له بعنوان: “يهود الجهاد (قاعدة الظواهري)”-، بناءً على توصية من أبي عياض التونسي، ومحمد الزهاوي القياديين بتنظيم أنصار الشريعة (فرع القاعدة السابق في ليبيا).
وعلى أن فشل محاولات زعيم القاعدة، لم يدفعه للتوقف عن نشر رسائله المختصرة المنسلخة عن الواقع بين الفينة والأخرى، والتي ظهرت وكأنها ميكانيزم سيكولوجي وتنظيمي يتبعه لينسى حجم المعضلة التي يعيشها التنظيم تحت قيادته، في حين اكتفى “الظواهري” بالتحريض على العمل الإرهابي، والذي اعتبره سابقاً هدفاً استراتيجياً وغاية نهائية نجح “القاعدة” في الوصول إليها، تماماً كما فعل أتباعه في ليبيا عندما أسدلوا الستار على “أنصار الشريعة” بدعوى أن هدفه في تحريض الأمة قد تحقق ولم يعد هناك داعٍ لوجوده.