على سفح أحد جبال قندهار (جنوب أفغانستان)، وقف أبو حفص المصري، مسؤول استخبارات القاعدة، بجوار زعيم التنظيم المؤسس أسامة بن لادن يتجادلان بخصوص تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، قبل أشهر من شن الهجمات الإرهابية الأبرز في تاريخ التنظيم.
كان “المصري” مفوضاً من قبل غالبية أعضاء مجلس القاعدة القيادي/ مجلس الشورى للحديث مع “بن لادن”، وإبلاغه برفضهم تنفيذ أي هجمات على الأراضي الأمريكية خوفاً من رد الفعل المتوقع، لكن الأخير أشار إلى الجبل قائلاً: “خذ أصحابك (9 من أصل 11 من أعضاء المجلس)، وانقلوا الجبل حجراً حجراً وأنا سأفعل ما نويت ولو لوحدي”.
خلال تلك الفترة، سرت أنباء الإعداد لهجوم كبير داخل الدائرة القيادية للقاعدة ووصلت أيضاً إلى قيادة حركة طالبان، التي طلب زعيمها، في ذلك الوقت، الملا محمد عمر، من أسامة بن لادن عدم استخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات خارجية.
لكن زعيم القاعدة الذي اعتاد أن يتبعه الآخرون في أفعاله قرر أن آراء الشورى ليست ملزمة له- كما تُظهر إحدى رسائله في وثائق آبوت آباد-، ومن ثم قرر المضي قدماً في تنفيذ الهجمات، دون الالتفات لآراء وتحذيرات المعترضين وعلى رأسهم مصطفى أبو اليزيد (الرجل الثالث في التنظيم)، وسيف العدل (المسؤول الأمني)، وأبو حفص الموريتاني (المسؤول الشرعي) وغيرهم.
أخدود النار الذي ابتلع القاعدة
بحلول مغرب الثلاثاء/ الحادي عشر من سبتمبر بالتوقيت المحلي لأفغانستان، تلقى “بن لادن” ورفاقه نبأ نجاح الهجمات الإرهابية ضد برجي التجارة العالميين في نيويورك، ومقر وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، وفي حين انتشى زعيم القاعدة بنجاح الهجمات التي ألمح لها في لقاء إعلامي قبل فترة وجيزة من وقوعها، سرى القلق في صفوف أتباعه الذين توقعوا رداً أمريكياً وشيكاً.
وقتها، سيطر الغرور على قادة القاعدة الذين توقعوا أن تنهار أمريكا إذا تلقت ضربة أو ضربتين، وأن لا تُقدم على غزو أفغانستان أو شن هجمات كبيرة ضدها، زاعمين أنها ستكتفي برد محدود، كما حدث، غداة هجمات السفارات الأمريكية في نيروبي (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا) عام 1998، بحسب ما ذكره أبو الوليد المصري مستشار بن لادن السابق في كتابه صليب في سماء قندهار، غير أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن، خالفت توقعهم، وقررت الانخراط في حملة عالمية للقضاء على الإرهاب.
وجد تنظيم القاعدة نفسه أمام أُخدود نيران حفره لنفسه، كما وصفه أبو مصعب السوري مؤسس معسكر الغرباء في أفغانستان قبل انهيار حكم طالبان والشهير بالمنظر الاستراتيجي للقاعدة في كتابه دعوة المقاومة الإسلامية العالمية.
ونجحت الحملة الأمريكية، خلال أشهر معدودة، في تجريد القاعدة من ملاذاتها الآمنة فوق جبال الهندكوش، وأصبح عناصرها وقادتها بين قتيل وأسير أو مطارد في أحسن الأحوال، وعلى حد تعبير “السوري”: (دخل الجهاديون في آتون المحنة وافتتحت الألفية الثالثة بمذبحة مروعة لهم، التهمت معظم كوادرهم وقيادتهم وأكثر قواعدهم ولم يسلم من القتل والأسر إلا النذر اليسير).
لم تكن هجمات سبتمبر سوى حلقة واحدة من سلسلة الأخطاء المتصلة التي ارتكبها تنظيم القاعدة، على مدار العقود الثلاثة الماضية، والتي خرجت للعلن في نهاية المطاف رغم محاولات التنظيم التستر عليها بشتى السبل، وكشفت عن حقيقته كمجموعة فاشلة ومُسِتنزفة يسيطر الغضب واليأس والهزيمة على أفرادها.
فشل وإنكار
ففي الأشهر التي تلت الحملة الأمريكية على معاقل القاعدة، زادت حدة النقد الداخلي الموجه لقيادة التنظيم، كما تكشف مراسلات داخلية ضمن وثائق آبوت آباد، ومع ذلك رفضت القيادة الاعتراف بأنها أخطئت وعظمت من قدراتها، مدعيةً أنها القوة الضاربة التي لا يستهان بها وأن أعضائها لم يصابوا بسوء، وما زال لديها أفراد منتشرون في جميع البلدان ويمتلكون الإمكانيات لشن هجمات مماثلة لـ11 سبتمبر، بحسب تصريحات لسليمان أبو غيث، صهر أسامة بن لادن والمتحدث باسم التنظيم سابقاً.
وتكشف رسالتان وجهها اثنان من قادة القاعدة يحملان الأسماء الحركية: (أبو دجانة، وأسد) إلى قيادة التنظيم العليا في سبتمبر 2002، أن عناصره فقدوا الثقة في قيادتهم وانقسموا حول تأييدها وجعلوا همهم الأكبر الفرار من حملة الملاحقة الدولية، كما حاول بعضهم العودة إلى بلدانهم الأصلية- مع علمهم أن سيسجنون جراء تورطهم في أنشطة إرهابية- هرباً من سوء المعاملة التي أبدتها قيادة التنظيم تجاههم.
وطالب “أسد” في رسالته أسامة بن لادن والقيادة العليا بالاعتراف بالخطأ داخل الصف التنظيمي، لأن الاعتراف بالحق فضيلة، ومن شأن ذلك أن يخفف من سخط عناصر القاعدة ويوحد القلوب التي تفرقت بعد الهزيمة الموجعة التي تلقاها التنظيم.
وعلى الجهة الأخرى، آثرت القيادة العليا الكمون والاختباء لفترة طويلة، وأصبحت الاتصالات بينها وبين قواعدها الحركية تتم بصعوبة شديدة، وتستغرق الرسالة الواحدة عدة أشهر حتى تصل لعناصر التنظيم الذين تفرق شمل من نجى منهم بين إيران ومنطقة القبائل الباكستانية (وزير ستان).
وبمرور الوقت، أصبحت “علامة القاعدة” الجهادية مشوهة بصورة لا يمكن تجميلها، وعانى التنظيم من حالة موات إكلينيكي، وبدا أنه فشل تماماً في تطبيق نظرية “الفسططة” أو تقسيم العالم لمعسكرين أحدهما يمثل معسكر المؤمنين تحت قيادة القاعدة، والآخر يمثل الكافرين تحت قيادة الولايات المتحدة، على حد تعبير أبو الفتح الفرغلي، القيادي المحسوب على القاعدة في سوريا، في أحد مقاطعه المرئية عن تاريخ الحركة الجهادية.
ووفقاً لـ”الفرغلي” فإن القاعدة أصبحت تُصور في الإعلام، عقب هجمات سبتمبر، وكأنها الأزمة التي ينبغي أن يتصدى لها العالم بأسره، كما أن مخططي الهجمات أغفلوا دروس التاريخ وفشلوا في توقع الرد الأمريكي..”.
صدمات الواقع العراقي
بحلول عام 2003، كانت الولايات المتحدة تُنهي استعدادتها لغزو العراق والإطاحة بنظام الرئيس الأسبق صدام حسين، وبالفعل شرعت القوات الأمريكية في حملتها، خلال مارس/ آذار من نفس العام، وقصفت خلالها معسكرات جماعة أنصار الإسلام المقربة من القاعدة في إقليم كردستان (شمال البلاد).
أدرك التنظيم أن أمامه فرصة سانحة لاستغلال الوضع المضطرب في العراق لإعادة بناء نفسه، فحاول استقطاب المجموعات الجهادية العراقية وغير العراقية وإغرائها ببيعتها، ليضمن لنفسه وجوداً على أرض الرافدين.
وحينها، وقع اختيار التنظيم على مجموعة أبو مصعب الزرقاوي الأردني التي تسمت بـ”جماعة التوحيد والجهاد”، لأسباب عدة منها خلفيته وتجربته القتالية السابقة في أفغانستان، حيث أسس معسكر هيرات (غرب البلاد) قبل انهيار حكم طالبان، لكن “الزرقاوي” رفض بيعة القاعدة مالم توافق على استراتيجيته الخاصة/ قتال الشيعة باعتبارهم العدو القريب وعدم الاكتفاء بقتال القوات الأمريكية.
وتحت ضغط الفشل الذي عاناه “القاعدة”، قبل أسامة بن لادن شروط “الزرقاوي” وأعلن الأخير، في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، عن تأسيس فرع للتنظيم في بلاد الرافدين.
وانتهج الفرع الجديد للقاعدة أسلوباً أكثر وحشية وعمد إلى استهداف المقرات الأممية والمزارات الدينية الشيعية واغتيال رجال الدين، بينما آثرت قيادة التنظيم المركزية غض الطرف عنه وتزكية أفعاله بين الحين والآخر- متجاهلة المجموعات الأخرى التي ارتبطت بها قبل الزرقاوي كجماعة أنصار الإسلام- لكي تضمن بقائها على أرض العراق بعد أن خسرت الجولة السابقة في أفغانستان.
وتُبين رسالة وجهها أحد قادة القاعدة “حركي المحب”، لأسامة بن لادن امتعاض قادة الفصائل الجهادية المحسوبة على التنظيم من ممارسة قيادته العليا، معتبرين أن “بن لادن” بعيد عن معرفة الواقع العراقي، وأن الفرع المحلي للتنظيم كفروا غيرهم وانتهكوا حرمة الدماء والأموال والأعراض ولم يتدخل هو لمنعهم أو توجيههم بصورة سليمة، كما اختزل الحركة الجهادية المعولمة في بلاد الرافدين في شخص الزرقاوي ورفاقه السبعة عشر، الذين ذكرهم في كلمته لرثاء أبو مصعب عقب مقتله في 2006.
وحذر “المحب” في رسالته “بن لادن” وقيادة القاعدة العليا من إقرار إعلان فرع التنظيم المحلي لـما سُمي “دولة العراق الإسلامية”، لأن تلك الخطوة تمت دون تأييد من الفصائل المسلحة والعشائر العراقية، وتعمد أصحابها تضخيم أسماء الكتائب والعشائر التي انضمت لهم على غير الحقيقة، معتبراً أن تلك الخطوة قد تطيح بـ”ثمرة الجهاد”.
وفي نفس السياق، ذكر أبوسليمان العتيبي، القاضي الشرعي لتنظيم دولة العراق الإسلامية، في رسالة منفصلة لزعيم القاعدة المؤسس، أن وضع التنظيم في بلاد الرافدين يسير إلى الهاوية موضحاً أن أبو عمر البغدادي، أمير التنظيم في العراق، لا يعرف ما يدور حوله ويكتفي بآراء المحيطين به، وكذلك أبو حمزة المهاجر الذي كلف رجاله بتشييد منبر لـ”المهدي المنتظر” زعماً منه أن سيظهر في العراق خلال عام واحد، وأن التنظيم سيملك الأرض في 3 أشهر لذا أمر مقاتليه بالنزول إلى الجبهات وعدم الانسحاب منها لمدة أسبوع، وترتب على ذلك مقتل العديد منهم.
بيد أن رد أسامة بن لادن، جاء دون التوقعات، إذ دافع في كلمته: (السبيل لإحباط المؤامرات) الصادرة في ديسمبر/ كانون الأول 2007، عن ممارسات تنظيم دولة العراق الإسلامية ودعا أفراد وقادة الفصائل المسلحة لبيعة أبو عمر البغدادي- رغم أنه لا يعرفه من قبل- واصفاً إياه بأنه مزكى من الثقات العدول كأبي مصعب الزرقاوي وأبو حمزة المهاجر وأن عدم مبايعته سيترتب عليه مفاسد عظيمة.
تفجير الكنائس والمساجد والأسواق
مثلت كلمة زعيم القاعدة صك مشروعية لـ”دولة العراق الإسلامية” لمواصلة عملياتها الإرهابية التي طالت أغلب مكونات الشعب العراقي، وامتدت لتشمل فصائل المقاومة العراقية بحجة مقاتلة الصحوات، وبمرور الوقت تزايدت حدة العنف ضد المدنيين وضربت التفجيرات الانتحارية الكنائس والمساجد والأسواق.
وعلى نفس المنوال، سارت أفرع القاعدة في جنوب آسيا والمغرب العربي والصومال، ونيجيريا وغيرها من الدول، بينما لم تدن قيادة التنظيم علناً تلك الأعمال، واكتفت بتوجيه المسؤولين عن الجانب الإعلامي (مؤسسة السحاب وغيرها) بالحفاظ على صورته الدعائية وعدم نشر المواد التي تكشف التنظيم على حقيقته للعوام، بحسب رسالة لـ”بن لادن”.
وأثارت تلك الممارسات جدلاً في أوساط التيار الجهادي، إذ استنكرها أبو محمد المقدسي المنظر المقرب من القاعدة، وكذلك انتقدها عزام الأمريكي في رسالة مطولة وجهها لقيادة التنظيم، بمناسبة اقتراب الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر، وطلب فيها بالتبرؤ من تلك الممارسات علناً لأنها شوهت صورة القاعدة المتضررة أصلاً.
وقبل أن تحل ذكرى سبتمبر (عام 2011)، تمكنت وحدة أمريكية خاصة من اغتيال أسامة بن لادن في مخبأه بمنطقة آبوت آباد (شمال شرق باكستان)، وعندها قرر مجلس شورى التنظيم اختيار أيمن الظواهري، ليصبح ثاني زعيم للقاعدة.
على أن ذلك الاختيار فاقم الأخطاء والخسائر التي شهدها التنظيم، وتجاوزت أخطاء الظواهري مثيلتها التي ارتكبت في عهد سلفه، وأصبح “القاعدة” يعاني من انقسام هيكلي واضح أدى لانشقاق مجموعات عديدة عنه أبرزها الفرع العراقي السابق الذي بات يُعرف حاليا بتنظيم داعش، وجماعة بوكو حرام التي أعلن الجزء الأكبر منها مبايعة داعش، بجانب مجموعات في الصحراء الإفريقية الكبرى وأفغانستان وغيرها.
ووصف عدنان حديد، القيادي المحسوب على القاعدة في دراسته “بين الشيشان والشام دروس وعبر”، حقبة أيمن الظواهري بأنها عبارة عن أخطاء استراتيجية بدأت عندما أغفلت قيادة التنظيم مراجعة قرار اختيار أبوبكر البغدادي أميراً للفرع العراقي خلفاً لأبي عمر البغدادي الذي قُتل في أبريل/ نيسان 2010، وترك الأمر لتنظيم دولة العراق الإسلامية ليستحوذ على هامش واسع للقرار دون الرجوع للقيادة العليا في خراسان.
وأشار “حديد” إلى أن زعيم القاعدة الحالي أخطأ في قرار التحكيم الذي أصدره في الشقاق الجهادي بين داعش وجبهة النصرة والذي نص على فصل الجبهة عن التنظيم واعتبارها تابعة بشكل مباشر للقيادة المركزية، مردفاً أن هذا القرار جاء مناسباً لأبي محمد الجولاني وأعطاه شرعية قيادية مكنته من إحكام سيطرته على الجبهة ومن ثم فك الارتباط بالقاعدة في 2016 دون أن يتدخل الظواهري في أي من المناسبات لعزله واختيار أمير بديل له.
وأضاف القيادي المحسوب على القاعدة، أن الوضع الذي عاشه تنظيم القاعدة عقب هجمات سبتمبر والتضييق العالمي عليه ومقتل قيادته باستمرار أدى لغياب عملية النقد الحقيقي للأخطاء وتكرارها في مثير من الساحات الجهادية، على حد تعبيره.
وتتفق رؤية عدنان حديد، مع مراجعات سليمان أبوغيث، متحدث القاعدة السابق، التي أصدرها ضمن كتابه “عشرون وصية على طريق الجهاد”- قدمه أبو حفص الموريتاني-، والذي اعتبر أن التنظيم ابتلع الطعم الذي ألقته له أمريكا عندما ضخمته إعلامياً وأشعرته بأن لديه القدرة على مواجهتها.
لكن خطأ التنظيم الأكبر كان في الاعتماد على الحماسة والاندفاع والاستعجال والتورط في هجمات كبرى دون استشارة أو إعداد، وهو ما فعله “بن لادن” الذي فتح بطائراته الانتحارية أبواب الشقاء على العالم، كما يقول صهره “سليمان أبوغيث”.