تونس تدفع الثمن من اقتصادها والمطلوب تحرّك الدّولة
تلفظ القطاعات التونسيّة المختلفة أنفاسها الأخيرة إذ تكافح يوميّاً في سبيل الإستمراريّة والبقاء وسط سوق وحدود مفتوحة للإستيراد العشوائي وغير المراقب للسلع والبضائع الصينيّة، ما تسبّب بشكل أساسي بإقفال العديد من المؤسّسات الصناعيّة التونسيّة وفاقم مشكلة البطالة واضعاً اقتصاد البلاد على حافة الإنهيار، فما هو موقف أرباب العمل والصناعيّين؟ وكيف يمكن مواجهة تلك الأزمة؟
معز المعوش هو صاحب إحدى شركات الملابس الجاهزة المتضررة من هجمة البضائع الصينية على الأسواق التونسيّة وقد شكا الأضرار التي خلّفتها على القطاع والمؤسسات، مشيراً إلى أن تلك البضاعة الصينيّة الموجودة في السوق التونسية “قد أضرّت بنا ولم تسمح لنا بترويج بضائعنا وبالتالي أصبح المواطن التونسي وسط هذه الظروف الصعبة يبحث عن أرخص سعر ولو بنوعية أقل جودة، وهو مكره على ذلك لأن ظروفه لا تسمح له بشراء المنتوج المطابق للمواصفات العالمية”.
وشدّد على ضرورة أن “تجد الدولة حلا لذلك لأنها إذا لم تجد حلا فإن مؤسسات كثيرة ستفلس ومعامل كثيرة ستقفل، وفي الأساس ثمّة مؤسسات كثيرة قد أقفلت حتى الآن وبحسب الأرقام فقد بلغت 250 ألف مؤسسة بين مؤسسات صغرى ومتوسطة، لذلك نحن ننتظر وقفة جديّة من قبل الدولة تكون وقفة تشجيع وتحفيز، كما ننتظر عفواَ جبائياً يساعد تلك المؤسسات على الوقوف من جديد لأن تلك المؤسسات هي مكسب تونسي ووطني”.
غير أن معاناة أصحاب الشركات والمؤسسات لا تتلخص بمجرد غزو البضائع الصينيّة للأسواق، فالدولة التونسيّة لا تكترث لمعاناتهم كما لا تتدخل لحسم تلك القضيّة بما فيه مصلحة اقتصادها ومواطنيها خصوصاً وأن تلك البضائع تدخل من دون أي رقابة عبر الحدود.
إذ أشار المعوش أن “تلك السلع الصينيّة تدخل تونس بطريقة غير منظمة وعن طريق التهريب ما يعني أنها ليست بجودة البضائع التونسية، والمؤسسة التونسية اليوم تقع بين مطرقة الدولة وسندان البضائع الصينيّة، فالدولة تثقل على المؤسسات التونسيّة الرسوم والجباية وكل ما إلى ذلك على الرغم من أننا خارجون من مرحلة كورونا التي أثرت سلباً على كل القطاعات والعالم، ومع ذلك تفاجأنا بأن الدولة زادت الضغط علينا، إن وجود البضائع الصينية بكثرة في أسواقنا وبطريقة عشوائية وغير منظمة هو أكثر ما يثير قلقنا ونحن نناشد الدولة بألا تساهم بإيقاف مؤسساتها، فهي لا تشجعنا ولا تقف إلى جانبنا ونحن منهكون”.
أدى ذلك الإنهاك والإستنزاف الاقتصادي الذي تحدث عن المعوش إلى تفكيره بالهجرة والبحث عن فرص عمل خارج تونس حاله حال كثر يفكرون مثله، فهو كمصنّع لا مشكلة لديه “مع البضائع التي تأتي من الصين أو من تركيا شرط أن تدخل البلاد بطريقة قانونية وشرط ألا تكون تلك البضائع أكثر من حاجة البلاد، أي أن تكون الأمور مدروسة وأن تكون البضائع مطابقة للمواصفات وذات جودة جيدة”.
أصوات الإستغاثة بوجه البضائع الصينيّة
تتّحد أصوات من يعانون من تداعيات غياب الرقابة والتنظيم على تدفق البضائع الأجنبيّة إلى السوق التونسيّة وخصوصاً الصينيّة منها. سناء عبد النور هي واحدة من هؤلاء فالأخيرة تعمل كمسؤولة موارد بشريّة في شركة تصدير وقد تحدّثت عن الكوارث الإقتصاديّة التي حلّت بالقطاع بسبب البضائع الصينيّة “فمع احتكار البضائع الصينية للسوق التونسيّة تضررت كل الشركات الموجودة في تونس، تضرر العمال والمعامل لقد تعبنا جداً وخسرنا عمالنا لأن المعاشات باتت لا تكفي الموظفين، أضف إلى ذلك تداعيات كورونا التي أثرت علينا اقتصاديا، نخسر كثيراً يومياً بسبب كل ذلك”.
ولا تختلف حال أصحاب المهن الحرّة عن حال المؤسسات والمصانع، فهؤلاء أيضاً تراجعت نوعيّة الخدمة التي يقدّمونها للزبائن بسبب رداءة جودة البضائع والقطع الصينيّة ما أدّى إلى فقدانهم لزبائنهم وتراجع إنتاجيّتهم، فبشير النصيبي ميكانيكي تضرر عمله بسبب نقمة الزبائن “كلما أتى أحدهم لتغيير قطعة بسيارته أقدّم له الخدمة عينها التي كنت أقدمها في السابق لكن المشكلة أن القطع الجيدة التي كنا نستخدمها استبدلت بالقطع الصينية ذات الجودة السيئة علماً أن سعرها لا يختلف عن سعر القطع ذات التوعية الجيدة، فما أن نغير القطع حتى تتلف بسرعة فيعود الزبون يشكو من رداءة النتيجة. أثر كل ذلك في عملنا ومدخولنا”.
الصين وأهدافها الإستعماريّة
يعود تاريخ العلاقات بين تونس والصين إلى العام 1964 وكانت المبادلات التجاريّة بين البلدين قليلة جداً حتى عام 2000 وهو العام الذي في بدأت فيه تونس بتسجيل عجزاً تجارياً مع الصين، وقد قدّر ذلك العجز بحسب الخبير الاقتصادي عبد السلام هرشي بـ”250 مليون دولار أميركي وبدأ هذا العجز يأخذ منحى تصاعديا بالتوازي مع المنحى التصاعدي الذي أخذه الاقتصاد الصيني في التطور، وفي العام 2019 سجلت تونس عجزاً تجارياً بقيمة 4,4 مليار دولار 30% منه متأتية من الصين”.
وليست تونس الدّولة الوحيدة التي تسجّل عجزاً تجارياً مع الصين، فمعظم دول العالم تعاني من ذلك العجز وذلك بسبب قوة الصين وتطوّرها الإقتصادي وعدد سكانها ودورها في الناتج الداخلي العالمي للاقتصاد الدولي.
غير أن المشكلة الأساسيّة مع الصين تكمن بحسب هرشي بأهدافها الإستعماريّة “فالصين بدأت منذ سنوات تنتهج سياسة استعمارية جديدة، في القديم كان الإستعمار بإرسال الجيوش للسيطرة على الدول غير أن السياسة الإستعمارية الجديدة التي تنتهجها الصين في الدول الإفريقية أبرزها أثيوبيا وكينيا تقوم على السيطرة مثلا على الموانئ والمطارات وعلى مشاريع كبيرة مرتبطة بالثروات الطبيعية لتلك الدول”.
أما بالنسبة لتونس فقد تراكمت التداعيات السلبيّة على مختلف القطاعات التونسيّة بسبب الغزو الصيني بدءاً من العام 2000 شيئاً فشيئاً، لتقضي على اقتصاد البلاد واضعة الدّولة أمام تحدي النهوض الإقتصادي الذي يتطلّب بشكل ضروري ترشيد التعامل مع الصين.
ويقول هرشي “إن دخول التنين الصيني إلى تونس منذ عام 2000 أضعف الكثير من القطاعات التونسية كقطاع النسيج مثلاً الذي كان يوفر فرص عمل وثروة في تونس، فدخول البضائع الصينية المنتجة بكلفة أقل إلى تونس أثر بشكل كبير على تصدير البضائع التونسية كما وعلى توزيعها، وقد تأثرت أيضاً المنتجات الكهربائية والإلكترونية والميكانيكية التي يعمل فيها التونسيون أيضاً وقد تضررت تلك القطاعات بشكل كبير فوجدت مؤسسات الدولة مثل وزارة الصناعة ووزارة التجارة نفسها في مشكلة كبيرة”، وختم بأنه بات من الضروري “إحياء هذه النشاطات ومعالجتها وإنقاذها ومن الضروري كذلك ترشيد التعامل مع الصين”.
المطلوب على المستوى الرسمي
يبدو أفق النهوض بالإقتصاد التونسي مسدوداً أمام كل تلك التحديات، خصوصاً مع غياب اتفاقية تجارية معلنة مع الصين، وفي غياب الرقابة على السلع، وغياب الإجراءات المالية والنقدية والصناعية فيما يتعلق بالجودة والنوعيّة، لأجل كل ذلك يطالب وزير التجارة السابق محمد المسليني الدولة بالإسراع لاتخاذ الحلول.
فبرأي مسليني على “الدولة التونسية أن تأخذ إجراءات، كنا في وزارة التجارة قد شرعنا في اتخاذ جملة من الإجراءات مع شركاء أساسيين كالبنك المركزي والدولة من أجل مراقبة المسالك ومن أجل الحد من تدفق هذه السلع وتشجيع الحرف والصناعات التونسية وإعادة الحياة لها كما وتطوير جودتها، غير أننا نعيش لسنوات طويلة في ظل سوق مفتوحة بشكل غير عادي وذلك بسبب مصالح اللوبيات والفساد وسط غياب أو ضعف الدولة بفرض الرقابة الضرورية من أجل التحكم في السوق، نحن بحاجة ماسة للإصلاحات، القوانين موجودة لكن المشكلة تكمن في تطبيقها”.
وشكا المسليني الدخول العشوائي للبضائع دون أي رقابة مشدداً على أن الرقمنة هي أحد أبرز الحلول لضبط التفلت الحاصل وغياب التنظيم، لافتاً إلى أن تلك البضائع تغزو السوق عن طريق التهريب على ظهر الدواب أو تدخل عبر السيارات وهذا جزء بسيط أمام تلك التي تدخل عبر المسالك والبوابات الرسمية للبلاد عن طريق الرشوة والفساد، وإذا كانت السلع تدخل بتلك الطريقة فكيف بالأمراض؟ فتلك السلع هي ذات جودة رديئة وتتضمن بعض المواد المسرطنة وهي في بعض الحالات غير قابلة للإستهلاك، إن غياب الرقابة يجعل البلاد مفتوحة لكل شيء”.
حاول المسليني خلال وجوده بالوزارة العمل على مجموعة إصلاحات في ما يخص الأزمة التونسيّة مع الصين كان أبرزها حزمة إجراءات ماليّة وإقتصاديّة للتحكم بالواردات خصوصاً وأن تونس تشكو من ندرة الموارد المالية التي تساعد في تمويل التوريد، وأمل أن تباشر الحكومة الجديدة بتطبيق هذه الإجراءات واعتماد الرقمنة لما في ذلك من دور أساسي مساهم في معالجة المشكلة وخفض العجز في الميزان التجاري مع الصين.
وشدد المسليني على أن “السوق سيبقى مفتوحاُ على مصراعيه لكل شيء في ظل غياب إجراءات ردعية وفي غياب تطبيق القانون وضعف الدولة وضعف مؤسساتها وأجهزتها، فرقابة البشر المادية المباشرة ضعيفة ولا تنفع إذ تأثيرها محدود في النهاية، لذلك نحن في حاجة الى إجراءات نقدية ومالية واقتصادية ورقابية بالإضافة إلى رقمنة الأسعار لأنه إذا بقيت الأسعار متفلتة من أي رقابة باسم الحرية تصبح السوق مستباحة… وقبل كل شيء من الضروري أن تكون الرقابة دورية على الأسواق وهذا يتطلب أن يكون عندنا تبادل دائم في للمعلومات مع الأسواق العالمية”.