يستمر الأوكرانيون الهاربون من الحرب الروسية على بلادهم بالتوافد إلى الدول المجاورة، بحثاً عن مناطق أكثر أمناً، بعيداً من احتمالات الموت على وقع استمرار القصف الروسي.
تلك الحرب في أوكرانيا تعبث بحياة الآمنين بعمق، كلّ شيء تغيّر، وكثير من الأوكرايين وجدوا أنفسهم مرغمين في ظروف لم يتوقعوها. ومن أوجه مآسي الحرب التشرذم، إذ أنّها فرّقت أفراد العائلة الواحدة، البعض على الفرار فيما بقي البعض الآخر للمساهمة في صدّ الغزو الروسي.
“توتوك” هي إحدى الفتيات الأوكرانيات اللواتي عشنا قصصاً مرعبة.. تبلغ تلك الفتاة من العمر 19 عاماً، وهي تسمع لأوّل مرّة صوت الصواريخ، وتعيش ظروف الحرب، التي أُجبرتها على الفرار من منزلها، لكنّها قرّرت تجاوز خوفها، فشعرت بتوثيق رحلة الفرار.
وصلت “توتوك” وشقيقتها إلى الحدود، عند السياج السلكي الفاصل بين رومانيا وأوكرانيا، المشهد هناك لم يكن عادياً عل الإطلاق بالنسبة لها… أمسكت “توتوك” بيد والدها وهي تشعر كأنّها لن تراه مرّة أخرى.
“في تلك اللحظة كنت لم أكن أعرف إذا كانت المرة الأخيرة التي أرى فيها والدي”
توتوك
منعت قوانين أوكرانيا في زمن الحرب والدهم من الفرار معهم من البلاد. ومع ذلك، فقد وعد بناته المراهقات وزوجته بأن يلتقيهم مرّة أخرى قريباً. “توتوك” وثّقت لحظة الوداع مع أبيها، تلك اللحظة التي انتشرت بشكل كبير على مواقع التواصل الإجتماعي، ففي ذلك الفيديو يظهر والدها وهو يميل وجهه على السياج ويقبل جباه بناته من وراء السلك.
تقول “توتوك: “كنت أبكي وأصبت بنوبة هلع… كنت محبطة وخائفة للغاية لأنّ أفكاراً سيئة كانت تتوارد إلى ذهني في تلك اللحظة. لم أكن أعرف ماذا كنت قادرة على رؤية والدي مرّة أخرى أم لا، ظننت أنّني لن أراه مرّة أخرى أبداً، وقد صوّرت ذلك الفيديو حتّى أتمكن من مشاهدته لاحقاً”.
الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تفكر بها “توتوك” لتجاوز تلك اللحظة، هي توثيق تلك المجريات. لم ترغب هذه الفتاة الأوكرانية في أن تشهد على ما كان يحدث في أوكرانيا فقط، بل منذ بداية القصف على بلادها، وجدت أنّه من الأفضل معالجة الرعب الذي كانت تراه، من خلال عدسة الكاميرا.
“كان الأمر مخيفاً، وأذكر أنّني سألت والدي إلى أين سنذهب فردّ بالقول: لا أعرف، فقط جهزوا أمتعتكم كما لو أنّنا سنغادر”
توتوك
“يبدو الأمر وكأنّه فيلم رعب، التصوير هو مجرّد وسيلة يمكنني من خلالها ترتيب كل ما يدور في ذهني”، تقول “توتوك لـ”أخبار الآن“، مشيرة إلى أنّها في منزل أحد أصدقائها ليلة بدء الغزو الروسي. وتوضح: “استيقظنا على اتصال من والدة صديقتي تقول لنا فيه: يا فتيات، لقد بدأت الحرب، إنّهم يقصفون في كلّ مكان، توخيْن الحذر”.
عندما علمت أنّ القاعدة الجوية العسكرية في مدينتها ميكولايف، بالقرب من حدود القرم في الجنوب، قد تعرضت للقصف، علمت حينها أنّها بحاجة للعودة إلى عائلتها في أسرع وقت ممكن… “كنت أغادر منزل صديقي بينما كانت تقول لي: إلى اللقاء، احترسي، توخيّ الحذر كي لا تموتين، كان الأمر مضحكاً نوعاً ما، هكذا تعاطينا مع المسألة في بداية الأمر”.
في اليوم الثاني على انطلاق الحرب، كانت تحاول “توتوك” أن تنام… “شعرت أنّ كلّ ذلك كابوس فقط، وحاولت إقناع نفسي بأنّه من الممكن أن لا يحصل أيّ شيء، وعندما بدأت تسمع زمجرة الطائرات في سماء أوكرانيا، فهمت أنّ ذلك الأمر هو واقعي وعليهم الهروب”… حينها قرّرنا الفرار، وشعر كلّ من أبي وأمي بأنّ عليهما نقلي وشقيقتي إلى الحدود، بعيداً عن نار الحرب ودخان القصف”.
خطر في ذهن توتوك حينها أنّ ما يحدث في بلادها يستحق التوثيق، فأخرجت هاتفها وبدأت في التسجيل لأوّل مرة، فتقول: “في لحظات تغيّر كل شيء، لحظات اضطراب، توضيب الحقائب بسرعة وبعشوائية، لم نعرف ما الذي أخذناه وما الذي تركناه هنا.”
سألت والدي إلى أين سنذهب فردّ بالقول: لا أعرف، فقط جهزوا أمتعتكم كما لو أنّنا سنغادر، لذلك كنت أتصفح الغوغل لكي أعرف الطرق السالكة، وأبحث عن الأماكن التي يمكن أن نبقى فيها آمنين. خرجنا نسير مسرعين وكنا في كل لحظة نسمع فيها أصوات الطائرات تحلّق، نتوقف خوفاً من استهدافنا… وسط كل تلك الفوضى والضياع والخوف، كنت أدرك أنّني أترك منزلي، لا بل اترك كلّ ذكرياتي على مدى 16 عاماً، حينها بدأت في البكاء”.
“كان الأمر مخيفاً، وأذكر أنّ رحلة الهروب كانت طويلة وصعبة، صفارات الإنذار وتحليق للطيران ونزوح وطوابير طويلة على الطرقات العامة”، وفق ما تصف “توتوك”.
توضوح “توتوك” لـ”أخبار الآن“: “قدنا السيارة لمدّة 14 ساعة، إنّه أمر مرهق بالفعل، خصوصأً مع وجود حركة مرور خانقة على الحدود، ولذلك اضطررنا لأن نمشي لساعة أيضاً. كان الجميع يشعر بالذعر، طوابير طويلة للأشخاص الذين ينتظرون المرور، هم لا يعرفون إلى أين يذهبون… رأيت أماً وحيدة ومعها 5 أطفال صغار، أكبرهم لا يتجاوز الـ5 أعوام، وكانت من دون زوجها أو أي شخص آخر، هي أيضاً لا تعرف إلى أين تذهب. نعم كثير من الأشخاص الذين أعرفهم، أصبحوا بلا منازل.. وسط كل ذلك، كانت الأفكار السيئة ترودني دائماً، ودائماً كنت: هل سأعود إلى المنزل يوماً ما؟ هل سألتقي أبي مرة أخرى”؟
إبّان الحرب العالمية الثانية، لم تكن هناك أدوات تصوير، كنت أعرف أنّ مقاطع الفيديو تلك ستكون تاريخية.. كنت أقول لنفسي، يوماً ما سأجعل أولادي يشاهدون مقاطع الفيديو وأخبرهم بما كان علينا أن نمرّ به”
توتوك
تعيش توتوك حالياً مع والدتها وشقيقتها في رومانيا، وهي تعتبر أنّ أموراً كثيرة تغيّرت بالنسبة لها بعد تلك الليلة المرعبة، وكلّ شيء فقد معناه. قبل بضعة أسابيع، كان همّها ألأكبر الإستحقاق الجامعي الذي يتعيّن عليها اجتيازه، أمّا الآن فقد أصبحت تودّع والدها على الحدود، وتغادر بلدها، وقد اندثرت أحلامها بحياة كانت تتمنّى أن تعيشها أو تخطط لها.
كيف تعيش “توتوك” اليوم في رومانيا؟
تقول “توتوك”: “ثمّة عائلة في رومانيا أعطتنا شقة لمدّة شهرين مجاناً… نعم تغيّرت أمور كثيرة بالنسبة لي، ما كان مهماً عندما كنت في المنزل بأوكرانيا، ككسب الأموال، اقتناء سيارة، العيش في منزل جميل، شراء هاتف جديد، الحصول على شهادتي الجامعية… كل ذلك لم يعد أمر مهماً بالنسبة لي، ففي الوقت الحالي، يوجد في حقيبتي 3 أزواج من السراويل والقمصان فقط.. لا يهم، العطور التي أحبّها، حيواناتي الأليفة.. بعد تلك الليلة أصبحت أفكّر بما إذا سأكون على قيد الحياة، وذلك الأهم”.
تحاول “توتوك” أن تكون مفيدة بآدائها، فقرّرت القيام بحملة تبرع على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، لجمع المساعدات للأوكرانيين وكلّ الذين أصبحوا بلا منزل، وهي توضح: “قررنا أنا وأصدقائي إنشاء حملة تبرع حتى يتمكن الناس من المساعدة من خلال إرسال مبلغ من المال، فنقوم بجمع الطعام, الأدوية أو الملابس، وبالفعل حتى الآن قمنا بمساعدة العديد من الأشخاص الذين أعرفهم في أوكرانيا يحتاجون إلى مساعدة”.
قصة الفتاة “توتوك” واحدة من قصص كثيرة يعيشها الأوكرانيون، الذين ياتوا يعيشون وجعاً حقيقياً في أجواء محفوفة بالخوف والرعب وعدم الإستقرار.
شاهدوا أيضاً: التسجيل الأخير يوثق اللحظات الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا.