عبر قرض لتشييد طريق هو قيد الإنشاء، أحكمت الصين قبضتها الاقتصادية على الجبل الأسود. تلك الدولة الصغيرة التي تقع في جنوب أوروبا، والتي لطالما عانت من تصدّع نظامها الإقتصادي، زادت أعباءها صفقة قرض صيني أوقعها في هاوية دين لا يُعرف كيف سيتم تسديده ومتى.
- الصين أبرمت مع الجبل الأسود عقداً لمنح قرض بمليار دولار لبناء طريق سريع في البلاد
- العقد أوقع الجبل الأسود في متاهات تنفيذ الأقساط وأوروبا أضاعت فرصة ذهبية
- الصفقة الصينية تفوق قدرة الجبل الأسود على السداد والديون سيدفعها أجيال قادمة
- الصفقة تتضمن شروطا منها مصادرة أراض لصالح الجهة الممولة في حال تعذر السداد الديون
قصة القرض من الألف إلى الياء أوردها موقع شبكة “npr” الأمريكية، والذي نشر تفاصيل المشروع، وكيف انتهى الأمر بالجبل الأسود، إلى التعثّر أمام تسديد القرض الصيني. ويقول التقرير إنّه “من بودجوريكا في الجبل الأسود، يبدأ جزء من الطريق السريع الذي يهدّد بإعاقة اقتصاد البلد الأوروبي من سفوح التلال خارج العاصمة بودغوريتشا، حيث تصطف السقالات على طريق سريع متعدد المسارات مغلقاً أمام الجمهور. ينتهي الطريق السريع، في الوقت الحالي، في التضاريس الجبلية النائية شرق المدينة”.
“نحن نصنع نكتة.. إنّه طريق سريع يبدأ من لا شيء وينتهي إلى لا شيء”
لم تنتهِ الشركة الصينية المملوكة للدولة من البناء بعد، لذا فإنّ السيارات تستخدم الطريق القديم تحتها. كما أنّ الطريق السريع الجديد لم يتم دفع ثمنه بعد أيضاً. ومن المفترض أن يكون سداد القسط الأوّل من قرض المليار دولار من بنك حكومي صيني، قد تمّ دفعه في يوليو الماضي.
وليس من الواضح ما إذا كانت مونتينيغرو التي ارتفعت ديونها إلى أكثر من 100 % من ناتجها المحلي الإجمالي بسبب هذا المشروع، ستكون قادرة على تحمله. ما هو أسوأ من ذلك، كما صرح وزير العدل السابق في البلاد، دراغان سوسيتيه، هو أنّ المشروع بمجرد اكتماله، لن يؤدّي إلى أيّ مكان. وقال المسؤول السابق: “نحن نصنع نكتة.. إنّه طريق سريع يبدأ من لا شيء وينتهي إلى لا شيء”.
يُقسّم المشروع إلى عدّة أقسام، قسم منه يبلغ طوله 25 ميلاً موصول بطريق سريع بطول 270 ميلاً، يمتد من ميناء بار الجبل الأسود على البحر الأدرياتيكي إلى بلغراد، عاصمة صربيا المجاورة.
القرض وتكلفته الهائلة، لم يثر أسئلة حول القرارات التي اتخذها قادة الجبل الأسود السابقون، والتي لا يمكن تحمّلها فقط، بل أثارت كذلك تساؤلات حول ماهية الديون المرتبطة بالبنية التحتية للصين والمبادرة التجارية عبر عدة قارات. كما أنّ لها تداعيات على نفوذ الصين المتزايد على طول محيط الإتحاد الأوروبي، وسط تساؤل حول ما إذا كان الإتحاد قد فوّت فرصة لمساعدة الجبل الأسود، على الخروج من عبء الإستعمار الإقتصادي الصيني.
“أعتقد أنّنا سوف نبقى ندفع للصين لأجيال لاحقة”
تقول حكومة الجبل الأسود، التي تسعى إلى أن تكون عضواً في الإتحاد الأوروبي يوماً ما، إنّ القرض الصيني يضعها في ديون كبيرة لدرجة أنّها لم تعد قادرة على بناء بقية الطريق السريع. ويقول سوك، وهو وزير العدل السابق: “أعتقد أنّنا سوف نبقى ندفع للصين.. ليس هذا الجيل فقط بل لأجيال لاحقة.. هذه ليست مشكلة الصين. إنه قرارنا السيء”.
المسؤول السابق، ليس الوحيد الذي يلوم الحكومة السابقة للبلاد على إغراق البلاد بالديون التاريخية من خلال هذا المشروع الذي تمّ توقيعه في العام 2014 مع شركة “China Road and Bridge” بتمويل من بنك التصدير والإستيراد الصيني. وقال نائب رئيس وزراء الجبل الأسود دريتان أبازوفيتش ليورونيوز في محاولة منه لمناشدة الإتحاد الأوروبي أن ينقذ الجبل الأسود: “نحن الآن ضحية القرار السيء للغاية الذي اتخذته الحكومة السابقة”.
ووفق الشبكة الأمريكية، تُظهر نسخة من عقد القرض أنّه إذا لم يكن الجبل الأسود قادراً على السداد لبنك التصدير والإستيراد الصيني المملوك للدولة في الوقت المحدّد، فإنّه يحقّ للبنك حينئذ مصادرة الأراضي داخل الجبل الأسود، طالما أنّها لا تنتمي إلى الجيش أو يستخدم لأغراض ديبلوماسية.
إضافة إلى ما سبق، وقّعت حكومة الجبل الأسود السابقة على السماح لمحكمة حكومية صينية بأن يكون لها القول الفصل في تنفيذ العقد. وصرح نائب رئيس الوزراء أبازوفيتش ليورونيوز في مايو الماضي، أنّه يرى الشروط مشكوك فيها. وقال: “ذلك ليس طبيعياً، ذلك خارج تماماً عن منطق المصلحة الوطنية”.
بروكسل صمّت آذانها عن مناشدة الجبل الأسود.. “كانت فرصة جيّدة”
مصدر آخر للإرتباك هو سبب اهتمام الصين بهذا المشروع في المقام الأوّل. لسنوات عديدة، كان لدى الجبل الأسود خطط لبناء هذا الطريق السريع، لكن البنوك الأوروبية لم تكن مهتمة بإقراض الأموال اللازمة لبناء المشروع، لأنّها لم تكن تعتقد أنّه سيتمّ سدادها، وفق ميليكا كوفاسيفيتش، رئيسة مركز التحول الديمقراطي.
وقالت كوفاسيفيتش: “لو تحدثنا على سبيل المثال عن السياسة الروسية تجاه المنطقة، فإنّنا نفهمها، وهي سياسة لم تتغير منذ مئات السنين، لم تسعى موسكو للإحتلال أبداً، لكنّها سعت إلى زعزعة الإستقرار ومنع أيّ تكامل غربي كان في ذلك الوقت، سواء كان ذلك في الإمبراطورية النمساوية المجرية، أو الآن في الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.. نحن نعي تلك الأهداف. أمّا في ما يتعلق بسياسة الصين، فإنّني أعتقد أنّ أيّ شخص لن يفهم ما هو الهدف النهائي لبكين من مثل تلك المشاريع”.
بدوره، قال ستيفان فلاديسافلييف، منسق البرنامج في مركز أبحاث صندوق بلغراد للتميز السياسي، إنّه تابع لسنوات المشاريع الممولة من الصين في موطنه صربيا. وهو يرى أهدافاً سياسية أوسع لبكين، لا سيّما في حالة الجبل الأسود، حيث رفضت بروكسل، على الرغم من مناشداتها الإتحاد الأوروبي، المساعدة في سداد قرض الدولة للصين. ويقول فلاديسافلييف: “كانت تلك فرصة جيّدة لبروكسل لكسب بعض الأرض في المنطقة.. لقد كانت فرصة جيّدة لبروكسل لإظهار تفانيها في المنطقة”.
فلاديسافلييف: من خلال عدم مساعدة الجبل الأسود تنازل الإتحاد الأوروبي عن نفوذ محتمل للصين
وأردف: “من خلال عدم مساعدة الجبل الأسود، فقد تنازل الإتحاد الأوروبي عن نفوذ محتمل للصين، التي تتمتع بنفوذ اقتصادي على البلاد والمنطقة، والتي يشكل وجودها هناك أساس خطط سياسية أوسع”.
تجدر الإشارة إلى أنّ دول غرب البلقان ليست جزءاً من الإتحاد الأوروبي، وذلك يمنحها الفرصة لإنشاء سياساتها الخارجية وسياساتها الوطنية خارج إطار الاتحاد الأوروبي.. إنّها الطريقة السهلة بالنسبة للصين من أجل إنشاء مجال نفوذ في الجوار المباشر للإتحاد الأوروبي، وهذا ما عملت الصين لتحقيقه بجد في المنطقة لسنوات خلت، في إطار مبادرة الحزام والطريق.
فعلى سبيل المثال، فقد اشترت بكين ميناء بيرايوس اليوناني، ما جعله ثاني أكبر ميناء في البحر الأبيض المتوسط، كما أنّها تصرف مليارات الدولارات على الطرق السريعة والسكك الحديدية، بما في ذلك خط سكة حديد عالي السرعة، مخطط له، يربط بلغراد وبودابست.
وقد رفضت سفارة الصين في الجبل الأسود طلب مقابلة مع شبكة “npr” وكذلك فعل العديد من أعضاء حكومة الجبل الأسود. وفي هذا السياق، يعتقد فلاديسافلييف أنّ صمت الحكومة المفاجئ بعدما كانت تواصلت مع الصحافة العالمية عندما احتاجت إلى مساعدة الإتحاد الأوروبي في وقت سابق من هذا العام، هو علامة على أنّ مسؤولي الجبل الأسود يجرون محادثات مع بكين لإعادة هيكلة شروط القرض.
“الطريق السريع شراء سيارة فيراري لكن لا تملك المال لشراء الوقود”
في هذه الأثناء، وخارج العاصمة، وضعت أطقم البناء الصينية اللمسات الأخيرة على نفق للإمتداد الجديد للطريق السريع. يقول ملادين غريغيتش، الباحث المشارك في المعهد الأوروبي للدراسات الآسيوية، إنّه بالرغم من كلّ مشاكله، فإن أجمل طريق شهدته بلاده على الإطلاق، واستدرك: “بالنسبة إلى الجبل الأسود مثل هذا الطريق السريع، كمثل شراء سيارة فيراري براتب متوسط، ثمّ تفكر بعد ذلك، بأنك لا تملك المال لشراء الوقود للسيارة الجميلة”.
ينهي غريغيتش في الوقت الحالي أطروحة الدكتوراه الخاصة به حول مشاريع صينية في البلقان، ويقول إنّ كلّها تشترك بشيء واحد. هذه الأنواع من المشاريع سياسية دائماً.. إنّها تحدث كما يحدث كلّ شيء في البلقان. أنت تستخدم المال العام لإعادة توزيعه على شبكة المحسوبية الخاصة بك… ثم استخدامها لأغراض سياسية، وما إلى ذلك”. الآن ووفق وصفه، فقد أصبح هذا الفساد أسهل بفضل الأموال المتأتية من قوّة عظمى صاعدة حريصة على ممارسة النفوذ.
وقال أبازوفيتش، نائب رئيس الوزراء، في مقابلة سابقة في مايو، إنّه منفتح على فتح تحقيق في الفساد المزعوم بين أعضاء الحكومة السابقة على الطريق السريع الذي بنته الصين. لكن ذلك كان قبل أن يتوقف عن الحديث للصحافة الدولية، وقبل أن يرفض الإتحاد الأوروبي طلبه للمساعدة. وحتى الآن، لم يتمّ فتح تحقيق فساد من هذا القبيل.