تصريحات بوتين جاءت امتدادًا لمواقفه المتضاربة
واصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نهجه المستمر في المراوغة وخداع العالم، وذلك بتصريحاته التي أدلى بها بشأن الأزمة الأوكرانية، ولاقت ردود أفعال غاضبة من مختلف الدول حول العالم.
وفي خطوة من شأنها أن تشعل نزاعًا مع حكومة كييف المدعومة من المجتمع الدولي، وقّع بوتين مساء الإثنين مرسوم الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، لوغانسك ودونيتسك.
وقال بوتين في كلمته: ”أعتقد أنه من الضروري اتخاذ قرار تأخر كثيرًا بالاعتراف فورًا باستقلال وسيادة كل من جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية“، قبل أن يبث التلفزيون الرسمي لقطات لتوقيعه في الكرملين مع زعيمي المنطقتين الانفصاليتين على اتفاقيات للتعاون المشترك.
وحملت كلمة الرئيس الروسي المطولة العديد من التناقضات مع مواقفه السابقة، والكثير من المراوغة والخداع للمجتمع الدولي. حتى أن تصريحات بوتين أعادت للأذهان مشهد من إحدى حلقات الموسم الثامن من مسلسل Family Guy تم بثها في عام 2009، وهو المشهد الذي انتشر بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية.
ويعتبر هذا المشهد أفضل تلخيص لعملية الخداع التي يمارسها الرئيس الروسي في تصريحاته، والتناقض الذي صار السمة الأساسية لمواقفه.
وفيما يلي، نرصد لكم أبرز صور التناقض والخداع في تصريحات بوتين:
– عدم توافق بعض رموز النظام الروسي مع قرار بوتين
مع الصدمة الدولية وردود الأفعال على كلمة بوتين، أثيرت تساؤلات عديدة حول مدى توافق رموز النظام الروسي مع قرار الاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، لوغانسك ودونيتسك.
ومما زاد من حدة هذه التساؤلات، المشهد الذي لفت الانتباه خلال اجتماع مجلس الأمن الروسي، عندما حرص بوتين على إحراج رئيس جهاز المخابرات الروسية سيرغي ناريشكين.
وأحرج بوتين رئيس مخابراته عندما باغته بسؤال أثناء حديثه، عما إذا كان يؤيد قرار الاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانيسك في أوكرانيا.
كما قاطع بوتين رئيس المخابرات الروسي عدة مرات أثناء حديثه، مما أصاب ناريشكين بالارتباك، ودفعه لابتلاع ريقه أمام الكاميرات في موقف محرج.
واقترح ناريشكين استخدام التهديد بالاعتراف بالمنطقتين لإجبار أوكرانيا على إبرام اتفاق سلام بشروط موسكو، فقاطعه بوتين سريعاً: “هل تقترح بدء عملية تفاوض أم تعترف بالمنطقتين دولتين مستقلتين؟ تكلم بوضوح“.
وارتبك ناريشكين حينها، وقال : ”أدعم قرار الاعتراف“، وقاطعه بوتين مجددًا: ”تدعم القرار أم أنك ستدعم القرار؟، تحدث بوضوح يا سيرغي“.
ومع لهجة بوتين التي خلت من الدبلوماسية، تضاعف ارتباك رئيس المخابرات الروسية ليقول إنه يدعم انضمام المنطقتين الانفصاليتين لروسيا لتصبحا جزءًا منها. بينما باغته بوتين مجددًا وقال إن هذا الأمر غير مطروح للنقاش في الاجتماع، وأن ما يتم مناقشته هو الاعتراف بهما كدولتين مستقلتين.
اختلاق ذرائع وهمية لغزو أوكرانيا
في حين أكد فلاديمير بوتين مرارًا أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو يمثل ”خطرًا مباشرًا“ على أمن روسيا، وأن التواجد العسكري الغربي في دولة الجوار يهدد الأمن الروسي، كان التركيز الأساسي في كلمته الأخيرة على تاريخ ظهور الدولة الأوكرانية، واعتبارها جزءًا لا يتجزأ من روسيا.
وقال بوتين في كلمته أن ”أوكرانيا المعاصرة أسستها روسيا بشكل كامل، وتحديدًا روسيا البولشفية والشيوعية. وهذا بدأ بعد ثورة 1917“، وأضاف أن الزعيم السوفيتي فلاديمير لينين قام بذلك عن طريق ”فصل أجزاء من الأراضي الروسية التاريخية“.
وأضاف بوتين أن فلاديمير لينين هو ”مؤسس أوكرانيا“، وأن هذا تؤكده الوثائق الأرشيفية، بما فيها التعليمات الخاصة بدونباس ”التي تم دمجها بأوكرانيا بالقوة تقريبًا“ على حد وصفه.
ويرى العديد من المراقبين أن تصريحات الرئيس الروسي بشأن الوحدة التاريخية بين أوكرانيا وروسيا، تأتي كتمهيد واضح للغزو المحتمل.
الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية وأزمة القرم
وقال بوتين في تصريحاته أن روسيا قامت بكل ما في وسعها من أجل الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وكانت تصر على تنفيذ اتفاقيات مينسك، لكن ذلك لم يؤد إلى نتيجة.
ويأتي هذا في تناقض واضح مع ما حدث في عام 2014، عندما اندلع الخلاف بين كييف وموسكو منذ ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وتبع ذلك اندلاع حرب في شرق أوكرانيا مع الانفصاليين الموالين لروسيا الذين يعتبر الكرملين الراعي العسكري لهم.
وأرسلت روسيا خلال شهر فبراير من عام 2014 آلافًا من الجنود الإضافيين ليستقروا في القواعد العسكرية التي يسمح لروسيا بموجب المعاهدة بين موسكو وكييف بامتلاكها في القرم.
وفي 27 فبراير، احتل مسلحون يرتدون ملابس عسكرية روسية منشآت ذات أهمية في القرم، مثل مبنى البرلمان ومطارين، واتهمت كييف موسكو بالتدخل في شؤونها الداخلية، بينما أنكر الطرف الروسي هذه الادعاءات.
وفي الأول من شهر مارس عام 2014، وافق مجلس الاتحاد في روسيا في جلسة طارئة على طلب الرئيس فلاديمير بوتين استخدام القوات الروسية في أوكرانيا.
الاعتراف بـ ”استقلال“ لوغانسك ودونيتسك
ومع حديثه عن حرص روسيا على وحدة الأراضي الأوكرانية، لم يجد بوتين حرجًا أن يعلن اعتراف موسكو بانفصال لوغانسك ودونيتسك، على الرغم من اعتبارهما جزءًا من أوكرانيا.
وخلال الأعوام الماضية، سيطر المتمردون المدعومون من روسيا، على مساحات شاسعة من شرق أوكرانيا، وطالبوا بالانفصال.
وبعد سنوات من الدعم للانفصاليين، جاء قرار بوتين بالاعتراف باستقلال المنطقتين عن أوكرانيا مساء الإثنين في تحدٍ فج للمجتمع الدولي، واعتداء صريح على وحدة أراضي أوكرانيا.
إلغاء اتفاقية مينسك
واصل بوتين الانقلاب على تعهدات بلاده الدولية وإيجاد ذرائع لغزو أوكرانيا، حيث أكد في تصريح له أن موسكو لن تلتزم باتفاق مينسك المبرم عام 2015، معتبرًا إياه ”بحكم الميت“.
وتأتي هذه الخطوة للتأكيد على عدم وفاء بوتين بالتزاماته الدولية، وتكرارًا للقرارات والتصريحات المتناقضة التي أصبحت السمة الأساسية للرئيس الروسي.
ووقٌع ممثلون عن روسيا وأوكرانيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا والمنطقتين الانفصاليتين دونيتسك ولوغانسك اتفاقًا يتكون من 13 نقطة، تم التوصل إليه في شهر فبراير من عام 2015، في العاصمة البيلاروسية مينسك.
ونص هذا الاتفاق على أن تمنح أوكرانيا المنطقتين استقلالية كبيرة، في مقابل استعادة السيطرة على حدودها مع روسيا.
ورغم تمسك بوتين بالاتفاقية وتأكيداته المتكررة على ضرورة احترامها، أعلن اليوم إلغاء الاتفاقية في تصعيد جديد بعد ساعات من إعلان اعترافه باستقلال المنطقتين الانفصاليتين.
موقف متناقض من ملف التطرف والعناصر الإرهابية
أكد بوتين في كلمته أن القوميين المتطرفين استفادوا من تآكل مؤسسات الدولة في أوكرانيا بسبب الفساد، وقفزوا على الاحتجاجات في عام 2014. وقال أيضًا: ”أن القوميين الذين استولوا على السلطة في أوكرانيا آنذاك نظموا موجة من الإرهاب والاغتيالات ولم يعاقبوا على جرائمهم حتى الآن“، مضيفًا أن ”روسيا ستعمل كل ما في وسعها لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وخاصة مأساة أوديسا في مايو 2014“.
ويأتي حديث بوتين عن التطرف والإرهاب في الوقت الذي يعزز خلاله المرتزقة الروس التي تربطتهم علاقة وطيدة بأجهزة الأمن والاستخبارات الروسية تواجدهم في أوكرانيا.
وأوضحت مصادر عديدة أن روسيا أرسلت في الأسابيع الأخيرة ضابط سابق عمل أيضًا في مجموعة مرتزقة ”فاغنر“، إلى دونيتسك، مضيفة أن مجموعات المرتزقة الروسية زودوا الميليشيات الموالية لروسيا بالأسلحة ودربوا أفراد العمليات الخاصة.
وأشارت المصادر أن عددًا من عناصر ”فاغنر“ ذهبوا إلى الحدود الأوكرانية، بعد تدريبهم في قاعدة ”جي آر يو“ بالقرب من مدينة كراسنودار بجنوب روسيا، بينما زادت مجموعات مرتزقة روسية أخرى من أنشطتها في أوكرانيا منذ بداية العام.
تناقض بوتين يضر بسمعة روسيا في المجتمع الدولي
تصريحات بوتين المتناقضة، ومواقفه المتضاربة بشكل متكرر، ومحاولاته الدائمة في المراوغة وخداع العالم، أضرت بصورة وسمعة روسيا في المجتمع الدولي، وعكست الانقسام الواضح بين عناصر القيادة الروسية، في قلب أزمة كبرى تحمل تطورات متلاحقة في كل ساعة.