الحرب في أوكرانيا وجوديّة وانكسارها سيصيبهم بالمزيد من الضعف والتشتت
تلاحق لعنة التاريخ والجغرافيا والحرب تتار القرم، فهم لا يعرفون طعماً للسلام والاستقرار فقد طردهم ستالين من روسيا في العام 1944 بحجة التعاون مع النازيين، ووضعهم في عربات الماشية وشتتهم باتجاه جهات مجهولة في آسيا.
تعود النائبة الأولى لوزير الخارجية الأوكراني أمينة جباروف بذاكرة أجدادها إلى تلك الأحداث التي كانوا يروونها لها بحسرة وحزن ودمع، وتتذكر بنفسها كيف حاولت مع والديها العودة لكنه كان يُمنع على تتار القرم الدخول إلى وطنهم الأم إلا كسياح وقد تعذّر على والديها إيجاد وظيفة هناك لأنه ممنوع عليهم كتتار العمل، هذا عدا السخرية والتنمّر الذي تعرّضا له بسبب هويّتهم.
إلى كل ذلك التاريخ الممزوج بالقهر والتمييز العنصري، تمسّ حرب اليوم تتار القرم في عمق ما تبقى من وجودهم فانتصار أوكرانيا هو انتصار لهم وهزيمتها سيصيبهم بالمزيد من الضعف والإنكسار وربما التشتت. فما الذي تقوله أمينة في كل ذلك وفي الحرب التي تدور على الأراضي الأوكرانيّة؟
تقول أمينة “أنا بالفعل من تتار القرم، فأنا أمثل شعبًا أصليًا لأوكرانيا هم تتار القرم، الأمة التي لها تاريخ عريق جدًا، أمّة ولدت في شبه جزيرة القرم من مزيج من جميع السكان والقبائل والشعوب التي سكنت القرم. لقد ولدت في روسيا في كراسنودار، والسؤال الذي يطرحونه علي حالياً كيف تقاتلين روسيا الآن وأنت قد ولدت في روسيا؟ الجواب على ذلك بسيط جداً وهو يتعلق بتاريخ شعبي لأن تتار القرم تم نفيهم وتم ترحيلهم في العام 1944 بحجة التعاون مع ألمانيا النازية بموجب قرار من ستالين. تتار القرم، أي الكبار والأطفال وكبار السن تم وضعهم في عربات لحظائر الماشية ونقلهم إلى اتجاه غير معروف، معظمهم إلى دول آسيا الوسطى. جدّاتي نجون من الترحيل وفي كل مرة كنّ يخبرنني فيها قصة الترحيل كنّ يبكين ولم أفكر أبدًا كما لم أتوقّع أبدًا أنني سأختبر الشيء نفسه”.
وأضافت أن “ما يحصل اليوم هو نتيجة مباشرة للوضع الذي مررنا به في العام 2014، أنا متأكدة تمامًا من أننا في نفس الموقف وسنواجه نفس الصدمة كأوكرانيين وكمجتمع دولي لأن الفعل والجريمة التي ارتكبها بوتين في العام 2014 كانت غير متوقعة وكانت مروعة وبربرية ووحشية، ولم نتمكن من الرد عليه بالطريقة المناسبة حينها، وإن عدم قدرتنا على الرد المناسب على المعتدي أوصلنا إلى حرب أكبر. والسؤال الذي أطرحه على كل هؤلاء الأجانب الذين أتحدث معهم الآن محاولة شرح ما يحصل في بلادنا ماذا سيحدث في حالة عدم قدرتنا على منح الرد المناسب لبوتين اليوم؟ ماذا سيحصل إذا سمحنا لبوتين بابتلاع بلدنا وقتل شعبنا؟ فهذا شيء كان يفعله طيلة ثمانية أعوام من حرب الجحيم تلك، لذلك أعتقد أنه من المهم جدًا أن نفهم أن كل ما يحصل اليوم بدأ في العام 2014 عندما تم احتلال موطني القرم“.
الحرب قضيّة وجوديّة
كانت أمينة قد أطلقت في العام 2011 منصة القرم بالتعاون مع الرئيس فلولوديمير زيلينسكي وتعتبر أمينة تلك المنصة بأنها “تقنيّة مبتكرة للغاية وهي شيء ذو طبيعة إبداعيّة للغاية كما أنها شيء لم يجرّبه المجتمع الدولي من قبل إذ لا توجد أي نماذج شبيهة بمنصة القرم أو هذا النوع من المنصات التي تمكنا من إطلاقها وتنفيذها”.
وأضافت “كانت تلك تجربة فريدة حقًا تمكنا عبرها من جمع البرلمان والحكومة والرئيس والمجتمع المدني، وأصحاب المصلحة الوطنيين ضمن مبادرة شبه جزيرة القرم السياسية. وبعد ذلك عقدنا القمة الافتتاحية في 23 أغسطس 2021، على الرغم من أن العديد من الأوكرانيين والشركاء الدوليين كانوا متشككين للغاية بشأن هذه المبادرة، لكننا تمكنا من دمج 46 شريكًا يتألفون من 42 دولة بالإضافة إلى أوكرانيا، إضافة إلى ثلاث منظمات دولية وعقدنا قمة رائعة بمشاركة القادة والرؤساء، ورؤساء الوزراء، والوزراء، ورؤساء مجالس النواب الذين أتوا إلى كييف والذين كرروا مواقفهم التي تعلن أن شبه جزيرة القرم هي أوكرانية وكرروا دعمهم لوحدة أراضيها. لكن أعتقد اليوم أنه من الأهمية بمكان ما أن نفهم أن القرم ليست شيئاً منفصلاً أو ليست حركة منفصلة عن تلك الصورة المسماة أوكرانيا. ما يحصل اليوم أيضاً يدور حول دور منصة القرم، فالحرب التي شنتها روسيا وأطلقها بوتين ضد أوكرانيا هي في الواقع مسألة وجوديّة للغاية وقضية وجودية للغاية تحدّث عنها الرئيس بوتين قبل يومين من الحرب”.
لأجل كل تلك الإعتبارات قرّرت أمينة بحسب قولها “الاستمرار في ما كنت أقوم به بالفعل منذ ثماني أعوام، والقتال ليس فقط من أجل القرم ولكن من أجل وطني أوكرانيا وأعتقد أنه من المناسب أن أوضح أنه بالنسبة لنا إنها مسألة بقاء. منذ قرون روسيا كانت الإمبراطورية الروسية وروسيا الشيوعية، اليوم هي روسيا بوتين ولديها موقف كلاسيكي للغاية يتعلق بالقضاء على هويتنا لتدمير وتزييف تاريخنا، وتسويق مفهوم الدولة الفاشلة وعدم وجود عقيدة أوكرانية. وأعتقد أنه يتعين علينا أن نشرح لشركائنا في المجتمع الدولي أن كل ما نريده هو أن نعيش بشكل مستقل، نحن أمة متسامحة ومسالمة ولا يوجد أي دليل على الإبادة الجماعية في أوكرانيا لأنني أنا من تتار القرم ويمكنني التحدث بسهولة لغة تتار القرم والروسية والأوكرانية في كل جزء من أجزاء أوكرانيا وأعتقد أن جميع الأجانب الذين يأتون إلى أوكرانيا يمكنهم الشعور بذلك أيضًا لأنهم يستطيعون التحدث بأي لغة يريدونها فليس لدينا إبادة جماعية للغة الروسية هنا في الواقع”.
وأضافت “من المهم أيضاً بالنسبة لنا الحفاظ على اللغة الأوكرانية أيضًا وأعتقد أنه من الطبيعي إذا كنت مواطنًا في أوكرانيا أن تتقن هذه اللغة على الأقل، يمكنك التحدث بأي لغة تريد ولكن يجب أن تتعلم اللغة الأوكرانية أيضاً. إذاً هذا هو المفهوم القائم لدينا، وهذا هو المفهوم الذي تحاول روسيا التلاعب به عبر محاولة إظهارنا كمجتمع عنصري وقومي ومجتمع راديكالي وهذا ليس سوى تلاعب مطلق”.
أوكرانيا تحت الحرب الشاملة
تثير مسألة بقاء أوكرانيا وشعبها خوف أمينة لأن ما يحصل برأيها “ليس مجرد عملية أو عملية الخاصة كما يطلقون عليها، بل إنها حرب شاملة وثمّة هجمات تنطلق من أراضي روسيا وأراضي بيلاروسيا بالصواريخ التي أصابت بيوتنا وقتلت شعبنا وهي لا تستهدف بهجماتها البنية التحتية فحسب بل تستهدف كذلك المستشفيات ودور الأيتام والحافلات وسيارات الإسعاف وسيارات الأشخاص العاديين والبيوت والشقق والناس وتقتل المدنيين والأطفال، فقد توفي بالفعل 20 طفلاً حتى الآن أصغرهم يبلغ من العمر 18 شهرًا”.
واستعادت أمينة مشاهد لطفلة سلطّت الأسوشيتد برس الضوء على قصّتها “هي فتاة عمرها ست سنوات وقد أتى والدها الجريح بجسدها النازف إلى مستشفى في ماريوبول وكانت ترتدي ملابس النوم برسومات يونيكورن ويقول الأطباء إنهم يحاولون إنقاذها وكانوا يضخون الهواء في صدرها لكن لسوء الحظ لم يتمكنوا من مساعدتها، ثم قال أحد الجراحين الذي كان يرتدي الزي الطبي الأزرق لمراسل الأسوشييتد برس يُرجى أن تُري ذلك لبوتين أظهر ذلك ودع بوتين يموت”.
وأضافت “عندما نظرت إلى عيني الفتاة وعيون الأطباء الباكين الذين لم يتمكنوا من إنقاذها شعرت كما لو كنت حقاً مخدرة وأعتقد أن ذلك سيكون شعور الجميع، فكل إنسان طبيعي إذا شاهد ذلك النوع من الصور وقرأ هذا النوع من القصص سيشعر بالشيء نفسه. إنه هجوم بربري مجنون ضد الإنسانية وهذه ليست سوى البداية لأنني أعتقد أنه، وبحسب تجربتي، إن العدوان يميل إلى التفاقم إذا لم يتم إيقافه فسوف يكبر. لم نقم بإيقافه في العام 2014 لذلك فهو أكبر الآن، إذا لم نوقفه الآن فسيصبح أكبر. والسؤال ما هو الهدف التالي؟ أعتقد أن الدول الأوروبية وكل العالم المتحضر يجب أن يفهموا ذلك، فهذه ليست مسألة تطال بقاء بلدنا فحسب، بل هي أيضًا مسألة وجودية للغاية تتعلق بالمبادئ والأعراف والنظام القائم على القواعد وهندسة الأمن التي انتهكها بوتين بشكل كامل وتام”.
عزل روسيا ومعاقبتها
بالنسبة لأمينة المطلوب ثمّة ثلاثة أمور أساسيّة مطلوبة على المستوى الدولي لمساعدة أوكرانيا وهي: “أولاً عزل روسيا، فبقدر ما تفقد روسيا من مصداقيتها بقدر ما يجب عزلها، ويجب طردها من المنظمات الدولية كما حدث في لجنة وزراء مجلس أوروبا والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا. ليس هناك من مكان لروسيا في الأمم المتحدة، والمفارقة في الأمر والأكثر إثارة للسخرية هو أن روسيا عضو في مجلس الأمن وهي من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ولديها حق النقض، ما يعني أن لدينا مجرمًا في مجلس الأمن. يمكن للمجرم الذي يملك حق النقض أن يوقف أي شيء، ما هي الآلية الممكنة لوقف هذه الجريمة؟ هذا هو السؤال الذي نحاول عبره مخاطبة المجتمع الدولي بأكمله”.
ثانياً وبحسب أمينة على المجتمع الدولي أن يوجّه مسار العقوبات ليشمل القطاعات لا الأشخاص فقط “فالعقوبات لا يجب أن تكون فقط عقوبات شخصية على بوتين وفريقه وأباطرة المال المحيطين به، ولكنها يجب أن تكون أيضاً عقوبات قطاعية على كل تلك المخاوف التي يمكن أن تضعف الاقتصاد الروسي وبالتالي يمكن أن تضعف نظامهم الهجومي ونظامهم العسكري. اما الأمر الثالث فهو “حماية أوكرانيا، وأعتقد أن القطاع الأكثر أهمية والأساسي هو قطاع الدفاع لأننا بحاجة إلى أسلحة دفاعية، نحن بحاجة إلى حماية أنفسنا لأننا نقاتل أكبر جيش في العالم. وعلى الرغم من أن روح الأمة الأوكرانية عالية جدًا، وعلى الرغم من أن روح الجنود الأوكرانيين وشجاعة الجنود الأوكرانيين هائلة، إلا أننا بحاجة إلى تجهيز الجنود ووحدات الدفاع التي تم تطويرها الآن. نحتاج إلى الأسلحة والذخيرة وهذا شيء يحاول سفراؤنا في جميع أنحاء العالم بذل قصارى جهدهم لتزويد جيشنا به”.
وتوجهت نائبة وزير الخارجية الأوكراني إلى دول ومواطني العالم العربي بالقول: “أنا ولدت في أسرة مسلمة، وأول شيء علمتني إياه جدتي هو الصلاة، أنا من تتار القرم والحمدالله أنني مسلمة، أنا أصلي كل ليلة في الواقع بالطريقة التي علمتني إياها جدتي وأصلي من أجل السلام ومن أجل العدالة. وأنا أعلم أن أساس الإسلام هو العدل وما حدث بالفعل هنا هو انتهاك للعدالة، ودعوتي ورسالتي لإخوتي وأخواتي في جميع أنحاء العالم هي أن نفهم أنه كلما انتهكت العدالة الناس سيقفون، والأوكرانيون قد وقفوا للقتال من أجل العدالة، للقتال من أجل مستقبلنا. أنا أفهم مصالح العالم العربي أو العالم الإسلامي أو البلدان بشكل عام، لكنني أعتقد أنه يتعين علينا تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية لا يمكنكم أن ترقصوا رقصة التانغو مع معتدٍ ولا يمكنكم كسب المال على حساب الدم”.