سقوط ليمان..القشة التي قصمت ظهر بوتين. فهل يستفيق من أكذوبة النصر؟
يبدو أن رياح خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلفه الكرملين هبّت بما لا يشتهي الشعب، والرأي العام العالمي، ولربما الرئيس نفسه أيضا.
بوتين وقبل خمسة أيام معدودات من يوم مولده السبعين، يجد نفسه من حيث لا يدري بسبب خطوة غير مدروسة جيدا أمام “سقطة تاريخية” يضعه في خانة الدول المحتلة، وهي خانة تضاف إلى قائمة الأفعال الشنيعة التي قام بها في أوكرانيا ولعل مذبحة بوتشا أفضل مثال على ذلك.
في خطوة ظنها الكرملين إنجازا جديدا لروسيا في ظل قيادة بوتين “الرشيدة”، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضم أربعة مناطق أوكرانيا إلى روسيا (لوغانسك، ودونيتسك، وخيرسون، وزابوريجيا). إلا أن هذه الخطوة انقلبت على الرئيس بعد يوم واحد من إعلانها، إذ أفسد الأوكرانيون ” هذا الانتصار المرتقب للرئيس الروسي، واسقطوه في مأزق صعب بعد استيلائهم على مدينة ليمان الاستراتيجية، لتصبح وفق القانون الروسي “أول مدينة روسية يتم احتلالها منذ العام 1941”. وهنا تكم السقطة التاريخية لبوتين الذي كان يتحدث عن الحرية واستقلال الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها.
تزامن مع سقوط ليمان، تهاوي عدة مدن ومناطق أخرى بيد الجيش الأوكراني، ودخول الحدود الإدارية لإقليم لوغانسك، الذي أعلنت موسكو “تحريره” بشكل كامل في شهر يوليو (تموز) الماضي، مع اشتداد المعارك على محور خيرشون، وسقوط أكثر من خمس قرى كبرى، وسط قصف أوكراني شديد على مقاطعة نوفا كاخوفكا في مدينة خيرسون يمكن أن يمهد لاقتحامها، وهو ما يمكن أن يشكل ضربة قوية لخطط موسكو، حيث تمد هذه المقاطعة شبه جزيرة القرم بحاجتها لمياه الشرب والزراعة، كما أن السيطرة عليها يمهد لسقوط خيرسون، وهو ما يعني قطع أوصال الجيش الروسي، وفقدانه للطريق البري للقرم، وخطوط امدادها بالمياه والكهرباء.
على جانب آخر، مازالت الصعوبات اللوجستية في عملية التعبئة مستمرة، وسط حالة من السخط العام نتيجة الأخطاء في السجلات التي لم يتم تحديثها منذ عدة سنوات، وغياب استخدام أجهزة الحاسوب، وعدم توفير الملابس والمستلزمات الكافية للجنود، وفتح باب التبرعات من قبل بعض منظمات “المجتمع المدني” لجمع الأموال اللازمة لهذه العملية.
يرصد هذا التقرير أبرز دود أفعال المؤيدين والداعمين للكرملين على سقوط ليمان ومقاطعات خيرسون والتي يتوقع أن تسقط العديد من القرى والبلدات الأخرى خلال الأيام والأسابيع القليلة المقبلة.
تصاعدت التهديدات باستخدام السلاح النووي التكتيكي منذ بدء الصراع في أوكرانيا، وقد كرر هذا التهديد الرئيس الروسي بوتين، مرتان، والرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن القومي دميتري ميدفيديف، عدة مرات، وأخيرًا الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، بعد سقوط مدينة ليمان.
التلويح باستخدام السلاح النووي جريمة وعلامة على اليأس
كتبت فيرونيكا كراشينينيكوفا، أستاذة العلوم السياسية، ومدير معهد أبحاث ومبادرات السياسة الخارجية الروسي، تعليقًا على التهديد باستخدام النووي: منذ 76 عامًا، نتذكر بانتظام الجريمة الأمريكية البشعة ضد الإنسانية: “قصف هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين”. نعم، فقط الولايات المتحدة هي التي تمكنت من القيام بذلك، وهذا هو الفعل الأكثر شرًا في تاريخهم. ليست هناك حاجة لروسيا لاتباع هذه السابقة المعادية للإنسان – استخدام الأسلحة النووية، ليس على بعد عشرة آلاف كيلومتر، ولكن عبر أراضي “العالم الروسي” هو علامة على اليأس الشديد، وليس القوة.
كما تساءلت عن مغزى هذه التهديد، وخطأ اعتقاد الكرملين بأنه يخيف الغرب، قائلة: ما هي الرسالة التي يريدون إيصالها إلى الغرب من خلال التهديدات النووية؟ إجبار الغرب على التراجع ووقف الدعم العسكري لكييف، هل حقًا هذه التهديدات تخيفهم؟ “في الغرب يُنظر إلى هذه التهديدات بشكل مختلف تمامًا – بدلاً من ذلك يرونها علامة على اليأس واليأس”. ماذا سيكون الرد؟ ثم اكملت: “إذا كان هناك أي شخص يتوقع أن تخاف الجماهير الغربية وتطالب حكوماتهم بالكف عن الضغط على موسكو، فهذا وهم”. حتى الجماهير ستعتقد أن “الروس مجانين”، وسوف تدعم سياسات حكومية أكثر عدوانية، وسيُطلب من الأكثر خوفًا أن يضرب أولاً – مثل هذه التهديدات لا تخيف أحد وبالتحديد واشنطن، على العكس “ترى فيها فرصة للتخلص من روسيا”.
علق العقيد القومي إيغور جيركن، على التلويح بالنووي، قائلاً: لقد تحدثت بالفعل عن موضوع “التهديد” باستخدام النووي عدة مرات. إذا تم استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا “خارج سياق الحرب مع حلف الناتو بأكمله، فستكون أسوأ من جريمة ولا يمكن اعتبارها خطأ بل خطيئة“. أما الحريمة فهي “ضرب بلد نفترض أنه جزء منا ومن أراضي روسيا العظمى بأسلحة نووية”. إنها ضربة لنا ولشعبنا بشكل عملي، بغض النظر عن مدى المشكلات والخلافات مع هذا الجزء من شعبنا، لذا أعتبرها جريمة. أعتقد أنه من الممكن تمامًا الاستغناء عن الأسلحة النووية التكتيكية والأنواع الأخرى من الأسلحة النووية “إذا كانت المعركة تدار بشكل احترافي وليس بالطريقة التي تدار بها الآن”.
أكثر من نصف شباب روسيا ضد التعبئة “الجزئية” وكذلك البوذيين
في أحدث استطلاع للرأي حول “العملية العسكرية الخاصة”، عارض الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 26 عامًا، بنسبة أكثر من النصف (56%) التعبئة الجزئية، لكن أكثر من 70% من المشاركين فوق 44 يؤيدون هذا القرار.
أما فيما يخص الثقة بالبيانات العسكرية الرسمية، فقد أفاد 54% من المستطلعين بأنهم لا يثقون بالبيانات الرسمية عن خسائر الجيش الروسي خلال “العملية العسكرية”. بينما عبر 36% فقط عن ثقتهم بالمعلومات الرسمية. أفاد 45% من أفراد العينة بأن أصدقائهم أو أقاربهم يشاركون في “عملية عسكرية”. قال 51٪ من أفراد العينة أن أحبائهم ليسوا ضالعين في الأعمال العدائية. وتسود المشاعر السلبية بين المشاركين في استطلاع الرأي فيما يتعلق بمشاركة أصدقائهم وأقاربهم في “العملية العسكرية”: 32% من المستطلعين يشعرون بالقلق، وحوالي 7% شعروا بالخوف، بينما 6% يشعرون بالشفقة والندم. فقط 15% من المشاركين في الاستطلاع شعروا بالفخر بأحبائهم، وأفاد 7% بأنهم مشتتون ومشاعر مختلطة.
كما أيد 44% من المستجيبين فكرة إجراء محادثات سلام مع أوكرانيا، وفقًا لنتائج دراسة أجراها علماء اجتماع يعتقد نفس العدد تقريبًا – 46% من المستجيبين – أن “العملية العسكرية الخاصة يجب أن تستمر”. علاوة على ذلك، إذا “وقع بوتين غدًا اتفاق سلام”، فإن هذا القرار سيحظى بتأييد 75% من الروس. ومع ذلك، فإن 60% من المستطلعين سيؤيدون قرار مهاجمة كييف مرة أخرى. كذلك زادت نسبة المؤيدين للمفاوضات بست نقاط مئوية في شهرين، في حين زاد المستعدون لتأييد قرار اتفاق السلام بنسبة 10 نقاط مئوية.
في أقصى جنوب غرب روسيا، في السهل الأوروبي الشرقي، تقع كالميكيا ذاتية الحكم، التي تبلغ مساحتها 75 ألف كيلو متر مربع، والتي تمثل المقر الرئيسي للبوذية التبتية في روسيا، وقد غادر روسيا في فجر الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الدالاي لاما الرابع عشر، تيلو تولكو رينبوتشي، الزعيم الروحي لشعب كالميكيا البوذي إلى منغوليا، والتي أعلن منها “معارضته للحرب الحالية والتعبئة الجزئية“، قائلاً: أعتقد أن هذه الحرب كانت خطأ كبير، ولم تكن ضرورية. علاوة على ذلك، نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين – الجميع يريد أن يعيش بسلام وهدوء، وكل بلد يريد أن يتطور، ولا أحد يريد أن يعاني. أعتقد أن الجانب الأوكراني، بالطبع محق حقًا “إنهم يدافعون عن بلدهم وأرضهم وحقيقتهم ودستورهم وشعبهم”. من الصعب للغاية القول والقبول “بأن روسيا على حق وأن هذه الحرب ضرورية”. ثم أكمل الدالاي لاما: “لم يكن من الممكن أن ألتزم الصمت عن الحقيقة وسط كل ما يحدث”.
السيناريوهات المتاحة أمام بوتين
كتب البروفيسور الروسي فلاديمير باستوخوف، يبدو أن خيارات بوتين، آخذه في التضاؤل، لو استثنينا الدبلوماسية السرية، وامكانية عقد اتفاق ما، فلم يعد أمامه الآن سوى خيارات ثلاثة: التعبئة، التي ينبغي أن تحيي قدرة القوات البرية الروسية على القيام بعمليات هجومية دون استخدام أسلحة الدمار الشامل؛ الاكتفاء بالضم، لخلق إطار يبدو قانوني للوجود على الأراضي المحتلة من أوكرانيا؛ المظلة النووية، وبالتالي يُنظر إلى محاولة أوكرانيا استعادة هذه الأراضي على أنه عدوان على روسيا، مما يفتح الطريق أمام استخدام الأسلحة النووية.
الخيار الأول: لدى الجيش الروسي خياران، إما أن يخترق الدفاعات الأوكرانية بعد أن تلقى التعزيزات بفضل التعبئة، أو يفشل في ذلك. من الناحية النظرية، كلا الأمرين ممكن. الحرب شيء لا يمكن التنبؤ به. إذا حققت روسيا نجاحًا استراتيجيًا، وتمكنت من الوصول إلى كييف، لن يؤدي ذلك لنهاية الحرب، بل بقائها حرب تقليدية طويلة وشديدة إلى حدٍ ما مع الضغط على خط المواجهة باتجاه الحدود الغربية لأوكرانيا. ولكن إذا فشل الهجوم أو ما هو أسوأ (بالنسبة للكرملين)، بأن يواصل الجيش الأوكراني تقدمه، سيبدأ الوضع في التطور بسرعة وستظهر العديد من الانقسامات الجديدة داخل النظام. لا نعرف أي سيناريو سيحدث بالضبط، لكني أميل إلى الثاني (فشل الهجوم الروسي والانتقال البطيء للمبادرة إلى جانب القوات المسلحة لأوكرانيا)، وهو ما يبدو أكثر ترجيحًا لعدد من الأسباب.
الخيار الثاني: لنفكر في هذا الخيار. بعد أن ضم بوتين الأراضي الأوكرانية رسميًا، فقد قطع على نفسه أسهل طريقة للخروج من هذا الوضع المزري – إنهاء الحرب من خلال إعلان أي نتيجة محققة (بتعبير أدق، غير محققة) على أنها انتصار وتحقيق للمهمة. أما في الواقع الجديد (بعد الضم) تتجه الحرب نحو فقدان جزء أو حتى كل الأراضي الروسية المكتسبة حديثًا، والتي سيتم تفسيرها على أنها هزيمة. السؤال: “كيف سيتصرف بوتين في هذه الورطة؟” – هناك عدة خيارات هنا، وأكثرها ترجيحًا اتهام الجيش بالخيانة وتحويل شويغو وجيراسيموف وكبار الضباط الآخرين إلى كبش فداء، حيث سيتم شنقهم جميعًا. بالطبع، لن يقتصر الأمر على الجيش، ومن أجل صرف الانتباه عن الهزيمة، فإن الكرملين نفسه سوف يسخن من أجواء الحرب الأهلية الجارية بالفعل في المجتمع الروسي، مما يجعل القمع هائلًا حقًا (على سبيل المثال التركيز على كل من تهرب من التعبئة وعائلاتهم وهو ما بدأ التلميح به فعلاً). من حيث المبدأ، لا يمكن القول إن هذا ليس خيارًا. لكنه أيضًا مدخل للثورة. في هذه الحالة، ستأخذ الحرب الروسية الأوكرانية مكانًا في تاريخ روسيا في القرن الحادي والعشرين، على غرار ما احتلته الحرب الروسية اليابانية في التاريخ الروسي للقرن العشرين. ستضع الثورة النظام في وضع عدم الاستقرار، ومن غير المرجح أن تمنحه تلك السنوات الـ 12 التي تمتع بها النظام القيصري الاستبدادي قبل مائة عام. يدرك بوتين ونظامه ذلك جيدًا. وبالتالي، من المرجح رفض هذا الخيار لحل المشكلة.
الخيار الثالث: يؤمن بوتين، ومن معه بأن الغرب على شفا الموت، وعبارات من قبيل “الثورة والحرب الأهلية في أمريكا أمر لا مفر منه نتيجة لانهيار الدولار. كما نرى في جميع خطابات بوتين، بما في ذلك الخطاب الأخيرة، وحديث عن “انهيار الغرب”. بمعنى ما، بوتين من المؤمنين بالنظرية التروتسكية المتشددة (وليس ستالينيًا على الإطلاق)، إنه يراهن على النصر الحتمي عبر حدوث تغيير عالمي، الفرق بينه وبين تروتسكي أنه لا يؤمن بالثورة العالمية، وقومي وليس بروليتاري. وفقًا لهذا الاعتقاد، بسبب ضعفه، لن يرد الغرب بشكل متماثل على استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا (راجع منشورات ميدفيديف) أو سيرد بضربة نووية محدودة ستنجو منها روسيا. بشكل عام، على الرغم من التصريحات العلنية بأنه لا يمكن أن يكون هناك رابحون في حرب نووية، فإن بوتين والقيادة العسكرية السياسية لروسيا في أفعالهم العملية ينطلقون من العكس: “إنهم يعتقدون أن حربًا نووية محدودة ممكنة، ويمكنهم الانتصار فيها”.
يشير الالتزام بهاتين الأسطورتين إلى أنه في المواقف الحرجة، حيث يتم حشرهم في الزاوية ولديهم وقت محدود لاتخاذ قرار، سيختار بوتين و “حزب الحرب” في الكرملين استخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا. يمكن أن تكون الضربة النووية موجهة لجهات ثلاث: (ضربة نووية لمركز صنع القرار في كييف – ضربة لأجزاء من القوات المسلحة الأوكرانية من أجل ضمان ايقافهم وخلق نقطة تحول بالحرب – تجربة نووية في البحر الأسود) الأول غير مرجح، لأنه في هذه الحالة ستنضم الصين والهند بالتأكيد إلى العقوبات وتغلقان حلقة الحصار على روسيا، مما سيجعل من المستحيل استمرار الحرب لفترة طويلة. الثالث، في رأيي لا طائل من ورائه – وبالتالي، فإن الهجوم على القوات المسلحة لأوكرانيا مع وقوع خسائر فادحة في صفوف العسكريين وبين السكان المدنيين يظل هو الأرجح.
تدرك الإدارة الأمريكية فيما يبدو هذا الوضع جيدًا، وسيكون أمامها مجموعة محدودة من الردود: (اتخاذ عدة إجراءات تصعيدية غير عسكرية – الرد باستخدام الأسلحة التقليدية أو النووية المحدودة).
السؤال الرئيسي هو: “هل يمكن لبايدن أن يكتفي برد غير عسكري؟ – في رأيي، لا. من حيث الجوهر ومن وجهة نظر الوضع السياسي المحلي في الولايات المتحدة، ومن منظور انتخابات 2024، وبالنظر إلى الاتجاهات التي يمكن ملاحظتها في روسيا، فإن رفض الولايات المتحدة للرد العسكري على استخدام الأسلحة النووية سيتم تفسيره على أنه دعوة للعدوان على دول أوروبية أخرى (إلى جانب أوكرانيا). على الأقل هذا هو التفسير الذي سيطلقه خصوم بايدن داخل الولايات المتحدة ومعظم الأوروبيين. من وجهة نظر منطق الحملة الانتخابية لعام 2024، سيكون من الصعب على الجمهوريين، أيا كان مرشحهم، حتى لو كان ترامب، مقاومة إغراء اتهام بايدن بالضعف. وبالتالي، فإن الرد العسكري من قبل الولايات المتحدة وحلفائها على استخدام روسيا للأسلحة النووية في أوكرانيا هو السيناريو الأكثر ترجيحًا.
لماذا تفوق الأنجلوسكسون على الروس؟
كتب الصحفي الروسي ديمتري اولشانسكي، مقال حول ما يسموا روسيًا “الأنجلوساكسون“، قائلاً: يمكننا توجيه الاتهامات لهم بقدر ما نحب، لكن هذا لا ينفي أن لديهم خاصية عظيمة جعلتهم سادة العالم “إنهم يعرفون كيف يتغيرون بسرعة وبنجاح”. يمكنهم باستمرار التنافس والتصارع وانتقاد بعضهم البعض، واستخراج الأفكار الجديدة والتقنيات والأشخاص من كل وأي مكان، وخلق أفضل الابداعات عبر ما تبدو لنا فوضى من الأصوات المتضاربة والشركات والمجتمعات والأحزاب، وتغيير الرؤساء بلا نهاية، وتوبيخهم بلا رحمة والسخرية منهم، كل هذه الحركات السريعة والصاخبة الخاصة بهم فهم يصبحون أقوى، سواء على مستوى الدولة أو الشركات أو الأحزاب، ويتضح لك رغم كل هذه الفوضى اللامتناهية أنهم مازالوا أقوياء بشكل مدهش.
في المقابل: روسيا لا تعرف كل ذلك. الثقافة الروسية أوروبية، لكن سياستنا آسيوية، وكل رئيس روسي يريد أن يكون هو الأكثر أهمية ليس في البلد فقط بل وفي كل العالم، وأن يظل حاكمًا إلى الأبد، وأن يسمع فقط الأخبار الجيدة جدًا أو الجيدة على أقل تقدير. بينما نرى المناقشات الحادة في البرلمان البريطاني، والانتقاد بلا رحمة لرئيس مجلس الوزراء، لأن مبدأهم لا ينبغي أن يكون القادة “آلهة وثنية” كما هو الحال عندنا.
الأنجلوساكسون، مشغولون دائمًا بأعمال إبداعية جديدة، لقد حولوا العالم بأسره تقريبًا إلى أوركسترا، حيث يعزف الجميع قدر استطاعته وكما هم يريدون، ولا يزال قائد الفرقة الموسيقية يحصل على ما يحتاج إليه منهم، حيث يلاحظ الموسيقيين الموهوبين في الوقت المناسب، ويعرف كيف يستدرجهم ويتلاعب بهم، ويجعلهم يرغبون في عزف ما يحتاج إليه. إنهم يفعلون كل ذلك ويقودون العملية بتواضع، دون لفت الانتباه، وأي شخص يسعى للتفاخر أو جعل نفسه فوق النظام، يتم سحقه بلا رحمة.
يعتقد الرؤساء الروس أن أمريكا (بالإضافة إلى إنجلترا وحلف شمال الأطلسي والغرب الجماعي) قاموا بـ “خداع” روسيا في القرن الحادي والعشرين، يقولون، لقد كان كل شيء بيننا حسنًا، وكنا نجلس سويًا ونأكل الكفيار الأسود، ونحضر الأمسيات الجميلة في مسرح البولشوي – وفجأة أصبحنا أعداء، كيف ذلك؟
لقد فشل القادة الروس في فهم أن عالم الإمبراطوريات الأنجلو أمريكية ليس سلطنة شرقية حيث يتم تقديم الهدايا وتدخين الشيشة ويمكن للمرء الاسترخاء، والاتفاق بشكل شفهي على الاتفاقيات. هذا نظام ديناميكي يلاحظ ويجتذب المجتمعات الجديدة، والأجيال الجديدة من السياسيين، ويستوعب المتغيرات الجديدة، ويتعامل مع كافة الجهات المختلفة: الجمهوريات السوفيتية السابقة، والعرب، وحتى الأشخاص المتحولين جنسيًا، ويفهم احتجاجاتهم، ويقدم النصح والإرشاد لقادة البلدان الحليفة، ويرفض بسهولة الانسياق خلف رغبات بعض الحلفاء القدامى، ويخلط الأوراق، ويغير جدول الأعمال – أنه ديناميكي وبالتالي يظل فائزًا بشكل دائم. من جلس في مكان واحد لمدة عشرين عامًا وكرر الأمر نفسه معتقدًا أنه يجب أن يكون “محترمًا” أو “وفيًا” إلى الأبد لمن “يؤمن” به، لم ولن يبق له شيء في هذا العام.
هذا هو سر تفوق الأنجلو ساكسون، سرهم المكشوف لأي شخص لديه عقل، وليس على الإطلاق هراء المؤامرة الشريرة الذي تكرره الأنظمة السلطوية الحزينة التي تغطيها أنسجة العنكبوت.