بعد أكثر من عشر سنوات على الثورة في تونس، تلوح في الأفق مؤشرات مخيفة تتعلق بالميزان التجاري التونسي، ومردُّ ذلك باختصار إلى جملة من العوامل. أبرز تلك العوامل: غياب رؤية تنموية واضحة، عدم إعادة النظر في بعض الإتفاقيات التجارية التي تجميع بين تونس ودول أخرى عديدة، لاسيّما تركيا والصين، حالة الإنكماش وغياب الإستثمارات الكبرى من أكثر من عقد، إضافةً إلى غياب الإستقرار السياسي في البلاد.
- تعيش تونس اليوم أسوأ ركود اقتصادي في تاريخها ونسبة بطالة الشباب ترتفع
- عوامل عدة ساهمت بعجز الميزان التجاري و460 ألف شركة تونسية مهدّدة بالإقفال
- مطالبات للحكومة التونسية بضرورة إبرام اتفاق واضح مع الصين ينظم التبادل التجاري
- شركة إسمنت بنزرت كسائر الشركات التونسية باتت ضحية السياسات الإقتصادية الخاطئة
تعاني تونس اليوم أسوأ ركود اقتصادي بتاريخها. الدينار التونسي خسر نحو نصف قيمته منذ العام 2011. وبحسب بيانات المصدر الوطني التونسي للإحصاء تعاني البلاد تضخماً مالياً ترتفع نسبته شهرياً، لتبلغ في فبراير هذا العام 7,5%. وذلك التضخم بدوره يترافق مع معدلات عالية للبطالة التي وصلت إلى ذروتها في الربع الأخير من العام 2021، حيث بلغت 18.4% بحسب شركة statista للدراسات.
مراجعة العلاقة التجارية مع الصين ضرورة
وفي لقاء خاص مع “أخبار الآن“، قال سمير الشفي وهو الأمين العام المساعد للإتحاد العام التونسي للشغل، إنّ “لعجز الميزان التجاري عدّة عوامل، أهمّها عاملان، الأوّل يتمثّل في الإتفاقيات التجارية التي لم تبرم بالشكل الصحيح، فيما العامل الثاني، ويعتبر الأهم، هو العجز في الميزان التجاري لتونس مع الصين، وهو غير ناتج عن وجود خلل في اتفاقية تبادل تجاري بين البلدين فقط، بل عن غياب اتفاقية رسمية بين تونس والصين”.
وأضاف أنّ “ذلك الأمر دفع العديد من العاملين بالتجارة الموازية، أي التجارة غير الشرعية، على اختيار جلب البضائع الصينية بطريقة غير شرعية وعبر التهريب، وبالتالي أصبح ذلك العجز كبيراً”. وشدّد الشفي على وجوب أن تراجع الحكومة التونسية الإتفاقيات المبرمة وعلى رأسها تلك التي تجمع تونس وتركيا لأنّها لم تعد تخدم المصالح التونسية بسبب كونها غير متكافئة”.
وفي ما يتعلق بالصين، قال: “الأجدر بالحكومة إقامة علاقات مع الصين في إطار اتفاق يرعى المصالح التونسية ويمنع لجوء بعض أرباب العمل الذين يعملون في القطاع الموازي، من الإستثمار في هذا الخلل.
ما حجم العجز التجاري التونسي؟
وأوضح الخبير الإقتصادي التونسي بسام النيفر، في حديث لـ “أخبار الآن“، أنّ “العجز التجاري في العام الحالي حتى شهر أبريل، بلغ 6,6 مليار دينار تونسي، فيما كان في الفترة نفسها من العام الماضي، 4,4 مليار دينار، وبالتالي هناك ارتفاع بقيمة 2,2 مليار دينار”، مشيراً إلى أنّ ذلك الأمر يدلّ على أنّ العجز التجاري لعام 2022 من الممكن ان يصل الى نحو 18 أو 19 مليار دينار، وهو رقم كبير.
وتابع أنّ بسام: العجز سببه الإنخفاض الكبير في قيمة الدينار التونسي مقابل الدولار الأمريكي، وذلك ما أدّى إلى حصول عجز في قطاع الطاقة بلغ خلال الأربعة أشهر الأولى من العام 2022، 2.3 مليار دينار، وهو رقم كبير جدّاً… ذلك بالإضافة إلى وجود إشكال كبير في الإقتصاد التونسي يتمثّل في عدم قدرته على التنوع. كما أنّ ثمّة مشكلة بعدم القدرة على تمويل الإقتصاد التونسي من ميزانية الدولة، وبالتالي فإنّ ذلك الأمر يصعب المشكلة”.
من جهتها، قالت الصحافية التونسية المتخصصة بالشؤون الإقتصادية هناء سلطاني لـ”أخبار الآن“، إنّ “عجز الميزان التجاري ينعكس على الميزان الداخلي للمواطن التونسي، على معيشة التونسيين إذ ارتفعت الأسعار وأصبحت هناك زيادات متسارعة لاسيما في الماء والكهرباء والمحروقات التي ارتفعت أسعارها 3 مرات خلال شهر واحد، وذلك ما جعل المستوى المعيشي صعباً للغاية”.
وتابعت أنّ “الإشكال الكبير في عجز الميزان التجاري العام لا يعود للدول العربية أو الإتحاد الأوروبي، بل بسبب عجز الميزان التجاري التونسي مع كلّ من تركيا والصين والهند واليابان، وعلى وجه الخصوص الصين وتركيا”، مشددةً على وجوب مراجعة كلّ الإتفاقيات التجارية، إذ أنّ الإتفاقيات التجارية غير المتوازنة بين تونس وعدد من الدول خلّفت مشكلة كبيرة”.
نسبة البطالة المرتفعة تتزايد
وعن البطالة، قال النيفر إنّ “البطالة لدى الشباب تبلغ 38% وهي قياسية، وتعبّر عن إحدى أكبر المشكلات، وهي عدم قدرة الإقتصاد التونسي على استقبال مجموعة من الخرّيجين لأنّ أعداد قليلة تستطيع الدخول إلى سوق العمل ذات الحاجيات المختلفة”. وفي ذلك السياق، قال سلطاني إنّ “من بين الحلول التي يختارها الشباب التونسي، الهجرة غير النظامية وغير السرعية، وهي موجودة على مستوى العديد من الولايات مثل بنزرت وصفاقس، وتكون باتجاه إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية”. ولفتت إلى أنّ “المشكلة أنّ حتّى أصحاب الشهادات العليا والمتخصصين بالمجالات المهنية يغرقون في البطالة، والحل الأوّل والسريع بالنسبة لهم هو الهجرة غير النظامية المحفوفة بالخطر”.
جوهر الأزمة الإقتصادية مرتبط بالعجز الفادح بميزان المدفوعات
وفي السياق، تسجل البطالة لدى الشباب التونسي الذي يعاني وقع الإنكماش الاقتصادي، معدلاً مرتفعا جدّاً، إذ 38.5% من معظم القوى الشابة القادرة على دخول سوق العمل، عاطلة عن العمل. وبحسب أرقام المعهد الوطني التونسي للإحصاء فإن نسبة البطالة الاجمالية في الثلث الأول من هذا العام تبلغ 16.2%، في حين أن نسبة النمو الإقتصادي في الفترة نفسها بلغت 2.4% كإنزلاق سنوي و0.7% مقارنة بالثلث الرابع من العام 2021.
وبحسب الخبراء الإقتصاديين، فتلك النسب العالية من العاطلين عن العمل، لاسيما في صفوف الشباب، ترتبط بالخمول الذي أصاب الإقتصاد التونسي، وأدّى إلى إقفال مئات الشركات في تونس من جهة، وفشل الحكومة التونسية بتشجيع الإستثمارات نظراً للسياسات الإقتصادية الخاطئة، من جهة أخرى.
وفي السياق قال رئيس المنظمة الوطنية لرواد الأعمال ياسين قويعة في حديث صحفي له في شهر نوفمبر الماضي، إنّ 80% من المؤسسات الإقتصادية التونسية تغلق أبوابها بعد 18 شهراً من تاريخ تأسيسها. وفي مطلع العام الجاري، رفع قويعة الصوت عالياً معلناً أنّ 460 ألف شركة تونسية مهدّدة بالإقفال.
الميزان التجاري التونسي مع الصين يُسجل عجزاً بقيمة 2.25 مليار دولار، ومطالبات بمعالجة الخلل من خلال إطار قانوني يرعى مصالح التونسيين
في هذا الإطار، فشلت الحكومة التونسية الحالية في معالجة الواقع الإقتصادي السيء الذي يرخي بثقله على التونسيين رغم حصر رئيسة الحكومة نجلا بودن منذ تكليفها في أكتوبر 2021، أولويات الحكومة بمعالجة الأمور المالية العمومية والإصلاح الاقتصادي.
ويوضح إقتصاديون تونسيون أنّ جوهر الأزمة الإقتصادية في تونس مرتبط الى حدّ كبير بالعجز الفادح في ميزان المدفوعات، والذي أدخل البلاد في أزمة مالية نقدية حادة، أثّرت على القطاع المصرفي وحدّت قدرته على توفير قروض ميسّرة.
وفي السياق، يأتي ذلك العجز المتفاقم في الميزان التجاري نتيجة العجز المسجل بين تونس وعدد من الدول لاسيما الصين، إذ كبَّد ما يصفه إقتصاديون تونسيون “بالاجتياح الصيني للإقتصاد التونسي”، الميزان التجاري بين البلدين عجزاً بقيمة 6.32 مليار دينار، أي ما قيمته 2.25 مليار دولار أميركي، وهو العجز الأكبر بين تونس والصين مقارنةً مع أيّ بلد أخر.وذلك العجز يعود إلى تعثّر الميزان التجاري، إذ تشير الأرقام إلى أنّ الميزان التجاري التونسي، سجل ناقص 1960 مليون دينار في مارس العام 2022، ليصل إلى أدنى مستوى له في السنوات الأخيرة، إذ بلغت قيمة الصادرات التونسية 4484.8 مليون دينار في حين بلغت الواردات 6445.1 مليون دينار. وتظهر أرقام المعهد الوطني التونسي للإحصاء أنّ ذلك العجز يرتفع شهرياً وبشكل ملحوظ منذ تموز العام 2021 على أقل تقدير.
وعلى الرغم من عدم كون الصين المُصدّر الأوّل إلى تونس، إلّا أنّها الدولة الأكثر فتكاً بالميزان التجاري التونسي، والذي ينعكس بدوره على ميزان المدفوعات وبالتالي على الناتج المحلي الإجمالي للتونسيين.في ذلك السياق، فإنّ الحكومة التونسية مطالبة بمعالجة الخلل الفادح في الميزان التجاري بينها وبين بكين، التي تغرق الأسواق التونسية بمنتجاتها ذات القدرة التنافسية الأعلى من المنتجات الوطنية، ما يضعف القدرة الشرائية للمنتجات الوطنية التونسية، فيضرب الإستهلاك والإنتاج رافعاً البطالة نتيجة إقفال المؤسسات.
تجدر الإشارة إلى أنّ التوسّع الصيني في تونس، والذي يندرج ضمن مشروع الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني الحالي شي جينبيغ العام 2013، يرتبط بالسياسة الصينية للتوسّع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على وجه الخصوص، وذلك لأسباب سياسية، مُستهَلها إقتصادي، يريد النظام الصيني من خلالها إنشاء شبكة مكتملة من الموانئ والطرق والمرافق الإقتصادية أو السيطرة على مثل تلك الأماكن الهامة في كلّ من آسيا وأفريقيا وأوروبا.
شركة “إسمنت بنزرت” ضحية جديدة للتداعي الإقتصادي
قطاع البناء يُشغل نحو 500 ألف مواطن، جزء كبير منهم من الشباب
وفي ظل ذلك، تظهر أصوات تونسية اليوم تحذّر من مغبَّة دخول الصين إلى شركة إسمنت بنزرت التونسية التي تعمل في مجال المواد، لاسيّما البناء، إذ تصنع وتبيع وتصدر إلى الخارج الإسمنت وكلّ ما يتعلق بقطاع الإنشاءات.
وفي ذلك السياق، قال النيفر إنّ “الإنتاج التونسي من الإسمنت انخفض بنسبة 19%، وذلك انعكاس للحالة الإقتصادية في البلاد”، مشيراً إلى أنّ “قدرة المصانع الإسمنتية أكثر من السوق وليس ثمّة تصديراً، فهناك طاقة تصنيع تفوق الحاجة”. وأوضح أنّ “قطاع البناء يُشغل نحو 500 ألف مواطن، جزء كبير منهم من الشباب، بالتالي ما يجري اليوم ينعكس مباشرة على الشباب ونسبة البطالة وعدم القدرة على إيجاد عمل.
وتابع: “الأزمة الإقتصادية انعكست سلباً على شركة إسمنت بنزرت، وقد كان من المقرر أن يكون هناك إضراب لعاملي الشركة في شهر مايو لكن تمّ تأجيله، بسبب المشاكل التي يعاني منها موظفو الشركة والتي يأتي عدم تثبيتهم من ضمنها”.
وتأسست شركة إسمنت بنزرت أو “SCB” العام 1950، ودخلت إلى سوق تونس في أكتوبر من العام 2009، لكنّها اليوم كسائر الشركات التونسية التي باتت ضحية السياسات الإقتصادية الخاطئة التي أضعفت القدرة التنافسية للشركات الوطنية، تعاني أزمة حادة، إذ انخفض على سبيل المثال التداول المحلّي لموادها في الربع الأوّل من العام 2022 بنسبة 38%، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021.
وعلى ذلك الأساس، ثمّة في تونس اليوم من يسلّط الضوءعلى خطورة دخول الصين على خط هذه الشركة، ذات الموقع الإستراتيجي، من بوابة المنقذ، وذلك لأنّ الغزو الإقتصادي الصيني لتونس يتحمل مع عوامل عديدة اخرى، وفق الخبراء، إلى حدّ كبير ما آلت إليه الأمور.