مما لاشكَّ فيه أن الحرب تسرق من الإنسان حياته الطبيعية، تمتد إلى كافة تفاصيلها وتدمرها، حتى لا تعود تختلف عن النكبات الاقتصادية والسياسية للبلاد، بل حتى أنها في بعض الأحيان تطغى عليها وتبقى آثارها محفورة في نسيج المجتمع حتى إن انتهت نكبات الحرب العسكرية والاقتصادية والسياسية. تأتي صعوبتها من كون الحياة الاجتماعية هي عماد تأسيس المجتمع فإن زُعْزِعَتْ أو دُمِرَت أو تفككت فمصير ذاك المجتمع إلى تدهور، وسنبقى نحصي ونتابع الآفات الاجتماعية الخطيرة التي ظهرت فيه وتراجع بنائه، إلى ما هنالك من الظواهر السلبية في مجتمعات الحرب.
ويتمثل أول هذه الظواهر في ازدياد نسبة الطلاق في المجتمع السوري مع بداية الثورة، إذ وصلت نسبة الطلاق في المجتمع السوري إلى 45% فيما تراجعت نسبة الزواج إلى 40% بينما تبلغ حالات الطلاق 100 حالة يومياً في محافظتي دمشق وريفها فقط، وفقاً لإحصائيات المحاكم الشرعية في وزارة العدل السورية، لكن ذلك قد لا يعود للثورة نفسها وإنما نستطيع أن نقول أن المجتمع السوري بالأساس قائم على علاقات اجتماعية غير متماسكة كالزواج مثلاً، إذ وجدت الكثير من العائلات نفسها في مكان وبيئة وحياة غير التي ألفتها خاصة على الصعيد المادي..
حيث اضطر الكثير من الأزواج لترك عملهم نتيجة ملاحقتهم الأمنية واضطروا إلى الالتحاق بجبهات المقاتلين كحل أخير لمأساتهم والكثير منهم التحق بالجبهات للحصول على مردود مادي شهري يؤمن به قوت عائلته، فيما آثر القسم الثاني القتال ضد النظام والاستغناء عن أي شيء آخر في الحياة، الأمر الذي دفع بالزوجات إلى الضجر من هذا الوضع وطلب الطلاق، ونشأ من هنا نوع جديد من تفكك المجتمعات هو التفكك الأسري..
وتبرر "نهلة" وهي سيدة دمشقية في الثلاثين من عمرها، طلبهاالطلاق بعد التحاق زوجها بجبهات القتال، أنها باتت تخاف على أطفالها من مداهمة قوات النظام لمنزلها بحثاً عن زوجها، الأمر الذي دفعها بطلب الطلاق والإقامة في أحد أحياء دمشق البعيدة نسبياً عن مناطق التوتر والنزاع. بينما كان لنزوح العائلات إلى من محافظة إلى أخرى سبباً آخر للتفكك، إذ نزحت الكثير من السيدات مع أطفالهن بعد استشهاد أزواجهن ولجؤوا إلى مناطق آمنة كدمشق وريفها وسكنوا مع عائلات في بيت واحد دون أن يكون هناك أي صلة قرابة بينهم.
تقول "رجاء" أنها استقبلت إحدى السيدات النازحات في بيتها "العربي" لكنها ومع مرور الوقت بدأت تلاحظ تغيراً في سلوك الزوج لتكتشف أن الأخير قام بعقد قرآنه والزواج من السيدة النازحة الأمر الذي دفعها بطلب الطلاق. بينما ازدادت حدة المشاكل بين العائلات التي تقطن في بيت واحد نتيجة زيادة الأعباء الاقتصادية عليها وكثرة عدد المقيمين في المنزل الأمر الذي كان يدفع للضجر بالكثيرين منهم.
فيما نالت الحرب من واقع الطبقات الاجتماعية الفقيرة وأضافت إلى يومياتها الدموية واقعاً جديداً أضيف بالسعي لتأمين أي شيء مادي وبأي طريقة، سيما أنه ووفق الإحصائيات الأخيرة للأمم المتحدة فإن نصف الشعب السوري بات فقيراً ومايقارب 7 مليون شخص تحت خط الفقر، فبات الأطفال تحت دون الثانية عشر يعملون متسولين في الشوارع وصارت الكثير من العائلات تمتهن الجلوس في الطرقات لاستدرار العطف لكن الأمر يختلف عما سبق..
فلم يعد العطف هنا مبتذلاً بل بات واقعاً مريراً، فإذا ما سرت في شوارع دمشق وتمشيت في حدائقها رأيتها تغص بالنازحين المتخذين من مقاعدها سكناً لهم، على الجنب الآخر تماماً للحدائق سترى أسواقاً تغص بالناس ومطاعم ممتلئة بالزائرين، حينها لكَ أن تتخيل كم الأسى عند أولئك النازحين عن بيوتهم، عندما يرون أن الحد الذي يفصل بين الحياة الطبيعة والغير طبيعة، شارعٌ، أو جدار حديقة، أو سوقٌ .. هذا ما تحدثت به "أم عمر" إحدى النازحات عن جنوب دمشق وتحديداً في منطقة الحجر الأسود، إذ تقول لا مأساة كمأساة فقدان الإحساس بالآخرين وبمعاناتهم، كيف لكَ أن تتخيل أن هناك من يقضي ليله ونهاره على كسرة خبز في حديقة، وبين من يقضي ليله ونهاره متجولاً في الأسواق والمطاعم.
بينما المأساة الحقيقية التي في ازدياد مستمر هنا، هو ظهور أمراء الحرب أولئك الذين استغلوا زعزعة الأمن العام وعشوائية السلاح لينالوا من نسيج المجتمع السوري، وكثير منهم كانوا من أصحاب السوابق، هؤلاء بات السلاح لغتهم والمال لعبتهم، فعند ظهور أي خلاف مع أحدهم تراهم أشهروا السلاح في وجهه، وهذا بالفعل ما حدث في أحد أحياء دمشق، حيث قام أحد المسلحين الذي يدعي انتماءه للجيش الحر بقتل صديقه في خلاف معه، وفي نفس الحي قامت إحدى السيدات باستخدام سلاح زوجها وقتله عندما اكتشف خيانتها له، لتغيب الرقابة والمحاكمة هنا ويتبقى الكلمة الأولى والأخيرة للسلاح.
فيما استغل آخرون التدفق المالي وحصار المناطق وغياب الأمن والرقابة لتجارات أخرى أشد خطراً من السلاح وهي تجارة المخدرات، إذ نشطت الأخيرة بشكل كبير في المناطق المحررة والمناطق الحدودية، وضُبطَت الكثير من العصابات التي تقوم بتجارة حبوب الكبتكول والبالتان في الغوطة الشرقية وتم محاكمة ما يزيد عن 150 شخصاً من المتهمين بهذه التجارة، وأغلب من ألقي القبض عليهم كانوا من المحاكمين جنائياً ومن أصحاب السوابق. ولأن الحرب لازالت مشرعة أبوابها في سوريا، فإن ذلك يلزم الكثيرين على إيلاء اهتمامهم لواقع الحياة الاجتماعية في سوريا، فحتى الآن الكثير من المؤسسات التي تعمل على التوثيق لم تعطٍ إحصائيات دقيقة حالات الطلاق أو لأيتام الأم والأب أو للنازحين الذين بلا مأوى حقيقي، فعلى الرغم من كون المشاكل الاجتماعية أعقد المشاكل في الحرب إلا أننا إن بدأنا بمعالجتها والحد من انتشارها عن طريق إنشاء جمعيات متخصصة أو هيئات فإن ذلك سيهيؤنا لأن نقف على أقدامنا من جديد لنبني مجتمعاً جديداً.