طفولة سيلفانا ما قبل وصول داعش

في قريتها الهادئة كوجو، الواقعة بين جبال سنجار في العراق، كانت سلفانا تعيش طفولتها البسيطة. فتاة إيزيدية تعشق الحياة، تحلم بمستقبل مختلف عن قريناتها، وتقضي أوقاتها بين الدراسة واللعب مع إخوتها وأقربائها. كانت الأجواء في كوجو دائمًا تضج بالفرح في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، حيث كانت العائلة الإيزيدية تحرص على الالتزام بتقاليدها الراسخة. تقول سلفانا: “كنا نعيش حياة عادية هادئة، كل شيء كان بسيطًا وجميلًا، حتى أنني كنت أتمنى أن أرى زواج إخوتي يومًا ما”.

درست سلفانا في المدرسة المتوسطة، وكانت من الأوائل على مدرستها. كانت تحلم بأن ترى زواج إخوتها وتعيش حياتها بين أحضان عائلتها الكبيرة المكونة من 12 فردًا. تقول: ” كل إخوتي وعائلتي كانوا محبين لي ولبقية أخواتي، وكانوا يوفرون لنا كل سبل الراحة. حياتنا كانت مريحة ومستمتعين بها كثيرًا. أتذكر أن لنا جيرانًا كنا كعائلة واحدة، كنت أزورهم أنا وأمي وأخواتي، ونتجول في سنجار دون أن نفكر سوى في دراستنا وحياتنا اليومية”.

تضيف سلفانا بحنين: “لا زلت أتذكر كلام أبي، خاصة عندما كان يذكّرني بدراستي ومستقبلي أو ينصحني باللبس المحتشم. أما أمي فكانت توصيني بالحفاظ على مستقبلي، وكانت تطمح أن تراني خريجة وموظفة حتى تضمن مستقبلي”.

هذه الحياة الهادئة كانت عالمًا جميلًا بالنسبة لسلفانا، عالمًا لم تكن تعلم أنه سيتغير إلى الأبد في صباح مشؤوم.

الاختطاف و بداية المأساة (2014)

فجر الثالث من أغسطس 2014، تحول الهدوء في سنجار إلى كابوس. اقتحم تنظيم داعش قريتها كوجو بينما كانت العائلات نائمة بسلام. استيقظ الأهالي على أصوات الرصاص والصراخ. جمع عناصر التنظيم سكان القرية في مدرسة قريبة، المدرسة نفسها التي كانت سلفانا تطمح إلى التفوق فيها مع صديقاتها. لكن هذه المرة لم يكن التجمع لدراسة أو احتفال، بل كان بداية مجزرة وإبادة جماعية للإيزيديين على يد التنظيم حالإرهابي.

قرية كوجو في العراق.

قرية كوجو في العراق.

 

“كانوا يصرخون و يأمروننا بالخروج من منازلنا”، تتذكر سلفانا. “في المدرسة، فرقوا الرجال عن النساء. كانت تلك آخر لحظة رأيت فيها إخوتي ووالدي”.

نُقلت النساء، بمن فيهن سلفانا، إلى مزرعة صولاغ، ومنها إلى الموصل ثم تلعفر. أثناء هذه الرحلة المروعة، كانت سلفانا تعاني من مرض وطلبت من عناصر التنظيم السماح لها برؤية طبيب، لكن طلبها قوبل بالتجاهل التام. تقول: “أهملوا حالتي تمامًا. ازدادت معاناتي مع كل يوم يمر، وأصبحت أضعف بسبب المرض والإرهاق”.

 

كوجو على خرائط جوجل.

كوجو على خرائط جوجل.

 

 

داخل تلك المدارس والمباني التي احتُجزت فيها، شاهدت سلفانا مشاهد لا تُنسى. تقول: “عندما فرقونا عن عائلاتنا، حاولت البحث عنهم أو التواصل مع نساء أخريات، لكنهم كانوا يمنعوننا تمامًا. إذا خالفنا تعليماتهم، كنا نتعرض للضرب”. أُجبرت النساء على البقاء في غرف مظلمة، بالكاد يدخلها الضوء، وكنّ يقفن لساعات طويلة دون طعام أو ماء.

“كنت في السابعة عشرة من عمري حينها، وكنت تمرّ يوميا  المآسي أمام عيني. أكثر اللحظات التي لا يمكن أن أنساها هي صراخ النساء وضربهن بشكل وحشي. كنت أسترق النظر محاوِلةً العثور على أي فرد من عائلتي، لكنني لم أجد أحدًا منهم”.

تلك الأيام حفرت أخاديد عميقة في نفسها، كانت بداية رحلة طويلة من المعاناة  ودعت معها طفولتها وحياتها السابقة بكل ما فيها لتبدأ مرحلة جديدة تحت حكم داعش.

سيلفانا قبل اختطافها من قبل تنظيم داعش.

سيلفانا قبل اختطافها من قبل تنظيم داعش.

الحياة تحت حكم داعش (2015–2019)

بعد سقوط سنجار بيد تنظيم داعش الإرهابي، كانت المدينة مسرحًا لمأساة إنسانية هائلة. قتل التنظيم أكثر من 1300 رجل إيزيدي، واختطاف أكثر من 6000 امرأة، من بينهم أهالي قرية كوجو، حيث عاشت سلفانا. تروي سلفانا عن تلك الفترة: “بعد الاختطاف، بقينا لفترة قصيرة جدًا في سنجار داخل إحدى المدارس. ثم نُقلنا بمركبات التنظيم الإرهابي. كنت أجلس في المقعد الخلفي وأسمعهم يشتموننا طوال الطريق حتى وصلنا إلى تلعفر”.

سيلفانا بعد عودتها.

سيلفانا بعد عودتها.

 

في تلعفر، وُضِعَت النساء في مدرسة كبيرة، حيث قُسّمن حسب الأعمار. البنات الصغيرات في صفوف، والنساء الأكبر سنًا في صفوف أخرى. تشرح سلفانا: “كانوا يقدمون لنا القليل من الطعام المتعفن. كنا نأكله مضطرين للبقاء على قيد الحياة”،. وبعد أيام، نُقلت إلى الموصل، ثم إلى الباغوز السورية عبر الطريق البري.

عند وصولها إلى الباغوز، كانت المدينة تبدو هادئة في البداية، قبل أن تتحول إلى جحيم بفعل القصف والمعارك. تقول سلفانا: “في اللحظة التي وصلت فيها، سُجنت في سرداب مظلم تحت الأرض. كان الإرهابي أبو محمد  وهو سعودي الجنسية هو المسؤول عني. وضعني في السرداب لستة أشهر. كان يساومني بين تعلم الدين الإسلامي أو البقاء في الظلام دون طعام أو ماء. إذا رفضت، كنت أتعرض للضرب”.

يقول تقرير لمركز العدالة العالمية إنه أثناء أسر النساء غير المسلمات لدى تنظيم داعش،  غالبا ما يتعرضن لعنف جنسي ممنهج. وقد أفادت في ذات التقرير طبيبة في دهوك بأن 70 من أصل 105 امرأة وفتاة ايزيدية فحصتهن تعرضن للاغتصاب، ما دفع بعضهن لمحاولات انتحار. قادة داعش يعتبرون الاعتداء الجنسي “فضيلة روحية”، وتشير شهادات الضحايا إلى تعرضهن للاغتصاب المتكرر من قبل مقاتلين مختلفين. إحدى الضحايا ذكرت أن مقاتلاً أوروبياً اغتصبها لشهر، ثم نقلها إلى آخر جزائري، فيما أشارت أخرى إلى وثيقة لداعش تدعي أن اغتصاب 10 مقاتلين لأسيرة يجعلها مسلمة.

بالنسبة لسيلفانا تقول أن التنظيم الإرهابي قد أرغمها على الزواج من أبو محمد. تقول: “لم أرَ أي امرأة إيزيدية في سوريا. كانوا يمنعونني من الخروج من الدار التي كنت أعيش فيها لأربع سنوات. حاولت تعلم اللغة العربية لأنني لم أكن أجيدها، وكنت أتعلم الحروف وأكتبها على الأوراق المتاحة. حاولت الرسم أيضًا، لكنهم منعوني بحجة أنه محرّم”.

ذوو سلفانا في كوجو فقدوا الأمل في عودتها. تقول: “بعد أربع سنوات من اختفائي، في عام 2018، أنشأ أهلي قبرًا لي في كوجو بعد تحرير القرية. كانوا يعتقدون أنني ميتة”. تلك السنوات كانت الأصعب في حياة سلفانا، حيث عاشت بين سوء المعاملة والأسر، تحاول تمالك نفسها من الانهيار النفسي.

في هذا المكان جهز من تبقى من عائلة سيلفانا قبرها.

في هذا المكان جهز من تبقى من عائلة سيلفانا قبرها.

بارقة أمل وسط المعارك

مع تصاعد المعارك في مدينة الباغوز، بدأت ملامح ضعف تنظيم داعش تظهر. تقول سلفانا: “القصف الجوي كان مستمرًا طوال الليل، لم أكن أعرف من يقوم به، لكنني كنت أسمع أصوات الطائرات وأشاهد النيران تلتهم مواقع التنظيم”. عمليات التحرير في العراق، مثل تحرير نينوى والأنبار وصلاح الدين، انعكست بشكل مباشر على التنظيم في سوريا، حيث فقد السيطرة على أجزاء واسعة من المناطق التي كان يحتلها.

تتابع سلفانا: “في إحدى الليالي، سمعت الإرهابي أبو محمد يتحدث مع صديق له عن خسائر التنظيم في العراق وسقوط مدينة سنجار. شعرت بفرح كبير، وبدأت الدموع تنهمر على وجهي. كنت أرى في تلك الأخبار أملًا بأنني قد أعود إلى أهلي يومًا ما”. لكن الهروب لم يكن سهلًا؛ فانتشار عناصر التنظيم والقصف المستمر جعل الفرار خطرًا كبيرًا.

تقول سلفانا: “بعد أيام، اختفى أبو محمد فجأة، وسمعت أنه قد قُتل. كان ذلك الخبر بمثابة إعلان لحريتي. قررت الهروب رغم كل المخاطر”.

صراع مع الخوف والجوع

في إحدى الليالي المظلمة، جمعت سلفانا بعض الملابس والقليل من الطعام والماء، وخرجت من الدار. تقول: “بدأت بالمشي وسط الظلام. كان التنظيم منهارًا جدًا، ورأيت عائلات أخرى تحاول الهروب. كنا نسير بخطى متقطعة؛ أحيانًا بسرعة، وأحيانًا ببطء خوفًا من أن يكتشفنا أحد”.

كانت المدينة تعج بالجثث ورائحة الموت، والقصف لا يتوقف. استمرت الرحلة لأكثر من عشرة أيام، متنقلين بين الأودية والجبال، يأكلون ما يجدونه صالحًا للأكل ويشربون من برك المياه. تقول: “كنا نرتاح خلال النهار في أماكن متخفية، ونمشي ليلًا. كان البرد قاسيًا والجوع ينهش أجسادنا، لكننا لم نتوقف حتى وصلنا إلى مدينة الرقة”.

عند وصولها إلى الرقة، شعرت سلفانا بارتياح كبير، حيث كانت المدينة قد تحررت من سيطرة التنظيم. كانت تلك اللحظة بداية جديدة لها، لكنها لم تكن نهاية معاناتها.

 

الانتقال إلى إدلب والتحول الغامض (2020–2023)

بعد تحرير بلدة الباغوز وهروبها مع مجموعة من النساء إلى مدينة الرقة، بدأت سلفانا ترى بصيصاً من الأمل في حياتها. هناك، وجدت ملاذاً مؤقتاً لدى إحدى العائلات السورية التي استقبلتها برحابة صدر. تصف تلك العائلة بأنها “محترمة جداً”، فقد عاملوها كواحدة من بناتهم، وساعدوها على استعادة جزء من إنسانيتها التي حاول التنظيم سلبها. كانت الحياة في الرقة بداية جديدة، حيث شعرت بحرية أكبر، بعيدة عن قيود التنظيم وظلمه.

تتحدث سلفانا عن تلك الفترة بامتنان:”عندما وصلت إلى الرقة، استقبلتني عائلة سورية لم أكن أعرفها من قبل. عاملوني وكأنني ابنتهم، وكانوا يقدمون لي المساعدة بلا تردد. كذلك، الكثير من السوريين الذين لا ينتمون إلى التنظيم الإرهابي كانوا يقدمون يد العون.”

بفضل تلك المساعدة، تمكنت سلفانا من شراء هاتف محمول، وبدأت رحلة البحث عن عائلتها عبر الإنترنت. ولكن سرعان ما اصطدمت بمعوقات تقنية وإنسانية، إذ أن الإنترنت كان ضعيفاً ومنقطعاً معظم الوقت، كما أن المأساة التي عاشتها أنستها أرقام هواتف أهلها. ورغم محاولاتها الجادة، لم تتمكن من الوصول إلى عائلتها. ومع مرور الوقت، قررت الانتقال إلى مدينة إدلب بحثاً عن أفق جديد.سيلفانا

 

تروي سلفانا عن رحلتها من الرقة إلى إدلب:”في الرقة، كونت صداقات مع فتيات سوريات كن يعاملنني بلطف. كنت أحاول البحث عن أهلي، لكن بلا جدوى. قررت أن أرحل إلى إدلب، وكان الطريق أسهل مما توقعت، بفضل أشخاص لا أعرفهم ساعدوني ونقلوني بسيارة من الرقة إلى إدلب.”

عند وصولها إلى إدلب، بدأت فصلاً جديداً من حياتها، لكنها لم تخلُ من المشاكل. تتذكر تلك اللحظات بألم وهي تحكي لمراسل “أخبار الآن”، ويدها ترتجف:”عندما وصلت إلى إدلب، كنت أسير في الشارع لا أعرف أحداً. التقيت شيخاً في أحد المساجد، طلبت منه المساعدة، ووافق فوراً. أخذني إلى إحدى العائلات التي كانت تسكن فيها امرأة مسنة مع بناتها. هؤلاء الناس كانوا طيبين جداً، عاملوني بلطف و قدموا لي المساعدة.”

رغم أن إدلب كانت خارج سيطرة التنظيم، إلا أن سلفانا لم تشعر بالأمان الكامل. تقول عن تلك المرحلة: “كنت أعيش بشكل أفضل بعد أن تخلصت من سيطرة التنظيم، لكنني لم أكن أستطيع مغادرة إدلب. لم أملك أي مستمسكات ثبوتية، وكنت أخشى الاقتراب من الحواجز الأمنية. كان لدي يقين بأنهم سيطلبون أوراقاً، وإذا لم أتمكن من تقديمها، فقد أتعرض للسجن.”

تلك السنوات في إدلب حملت خليطاً من الهدوء النسبي والخوف المستمر، تركت آثارها على ملامح سلفانا ونبرة صوتها وهي تسرد تفاصيل رحلة الهروب من ظلام التنظيم إلى مساحة ضيقة من الحرية.

الزلزال والمعاناة في إدلب (2023)

بينما كانت سلفانا تحاول التأقلم مع حياتها الجديدة في إدلب، قررت زيارة إحدى صديقاتها. تلك العائلة التي كانت تسكن في شقة بالطابق الرابع من بناية مكونة من أربعة عشر طابقاً، كانت ملاذاً مؤقتاً لسلفانا، حيث تبادلت معهم ذكرياتها عن عائلتها وحياتها السابقة في سنجار.

في تلك الليلة، وبعد جلسة طويلة من الحديث، خلد الجميع للنوم. لكن ما بدا كليلة هادئة تحول فجأة إلى رعب. تروي سلفانا اللحظات الأولى للزلزال:”صحوت على أصوات صراخ تملأ المكان. لم أستوعب في البداية ما كان يحدث، لكن شعرت بالبناية تهتز بقوة. لحظات وبدأت الجدران تتساقط من حولي. غمرني الخوف وبدأت أركض نحو الخارج.”

بصعوبة، تمكنت سلفانا من الوصول إلى الشارع، لكنها وجدت نفسها في مشهد مروع. تقول:”كنت أشاهد البنايات تتساقط واحدة تلو الأخرى. الناس يركضون في كل اتجاه، بعضهم  يحاول الخروج من بين الأنقاض، وآخرون عالقون تحت الحجارة. الجو كان بارداً جداً، الرياح شديدة، والمطر لا يتوقف. عندما هدأ الزلزال، بدأت أتجول في المكان، رأيت عشرات الجثث والمصابين. كان الصراخ يأتي من تحت الأنقاض؛ أصوات النساء، الرجال، والأطفال.”

في خضم هذه الكارثة، فقدت سلفانا التواصل مع صديقاتها اللواتي كانت تسكن معهن. شعرت بالوحدة والعجز وسط الدمار والخوف. ومع تزايد المعارك في المدينة بين الجيش الحر وجماعات أخرى، قررت الرحيل. تقول:”كنت أريد الخروج من إدلب إلى منبج، لكن الطريق كان مغلقاً بسبب القصف وانتشار الحواجز الأمنية. لم أستطع المغادرة، فوجدت نفسي أعيش في بيت مهجور.”

رغم الظروف القاسية، وجدت سلفانا بصيصاً من الأمل في كرم أهل المدينة. تضيف: “كان أمام المسجد وبعض العوائل يقدمون لي الطعام ويساعدوني قدر المستطاع. استمر هذا الوضع لأكثر من سنة، لا أذكر المدة بالضبط. كان الوقت يمضي ببطء، والخوف لم يفارقني أبداً.”

هذه التجربة كانت واحدة من أقسى المراحل التي مرت بها سلفانا، حيث اختبرت خلالها مزيجاً من الكوارث الطبيعية والصراعات البشرية، مما عمق جروحها النفسية.

الخروج من إدلب (2024–2025)

بعد الزلزال المدمر واشتداد المعارك في مدينة إدلب، قررت سلفانا أن تضع حداً لمعاناتها وأن تخاطر بكل شيء للخروج من المدينة. حاولت الهروب عدة مرات، لكنها كانت تعود أدراجها خوفاً من الحواجز ومن احتمال السجن. لجأت مجدداً إلى إمام المسجد الذي كان يقدم لها المساعدة، واستمرت في البحث عن وسيلة للخروج حتى قررت أن تخوض مغامرة محفوفة بالمخاطر للوصول إلى مدينة منبج.

تنكرت سلفانا بارتداء الخمار، وبدأت رحلتها سيراً على الأقدام في أماكن بعيدة عن الحواجز الأمنية. تقول:”كنت أمشي بحذر، متجنبة أي طريق قد يثير الشبهات. عندما وصلت إلى أحد الشوارع الرئيسية، كان الشارع خالياً من السيارات. ظللت أنتظر حتى ظهر رجل يقود دراجة نارية.”

تصف سلفانا لقاءها مع هذا الرجل:”أوقفته وطلبت منه مساعدتي للوصول إلى منبج. كان متخوفاً وسألني لماذا أريد مغادرة إدلب. تظاهرت بالمرض وأخبرته أنني أحتاج إلى زيارة طبيب في منبج. قلت له إنني سورية، فقد تعلمت اللهجة السورية خلال فترة اختطافي. بعد تردد، وافق وساعدني. جلست خلفه على الدراجة النارية، وسرنا لأربع ساعات متواصلة.”

لكن الرحلة لم تكن سهلة. قبل الوصول إلى منبج، واجهوا حاجزاً أمنياً. تضيف سلفانا: “أخبرت الرجل أنني لا أملك أي مستمسكات، وطلبت منه مساعدتي. حتى أتفادى المرور عبر الحاجز كان عليّ تجاوز نهر هناك سباحةً، ولحسن الحظ كنت أجيد السباحة منذ طفولتي في سنجار. عبرت النهر ووصلت إلى الطرف الآخر حيث التقت بعائلة تعيش على ضفته الأخرى.”

استجابت العائلة لطلبها وقدمت لها المأوى والطعام. بقيت معهم لبضعة أيام تساعدهم في الأعمال المنزلية، حتى سمعت عن مركبة متجهة إلى منبج. لم تضيع الوقت، وذهبت مسرعة لتطلب من أصحابها أن يصطحبوها. تقول: “عندما وافقوا، شعرت وكأن الحلم يقترب. بعد طريق طويل، وصلت أخيراً إلى منبج، المدينة التي كنت أعتبرها أملاً جديداً.”

في منبج، بدأت سلفانا ترى النور في نهاية النفق. التقت بأشخاص لديهم تواصل مع الإيزيديين، وتمكنت للمرة الأولى منذ عشر سنوات من الحديث مع بني جلدتها عبر الهاتف. عبر مكتب المختطفين الإيزيديين، نسقت رحلة عودتها إلى الحدود العراقية السورية، حيث كان في استقبالها الأستاذ حسين قائدي، مدير مكتب المختطفات، الذي قدم لها كل الدعم اللازم، وفق قولها.

عندما وصلت إلى إقليم كردستان، شعرت بالأمان لأول مرة منذ سنوات طويلة. استقبلتني حكومة الإقليم، وقدموا لي الرعاية الطبية. في أربيل، بدأت أتعالج من المرض و أستعيد عافيتي. كانت تلك اللحظة بمثابة ولادة جديدة لي.”

بعد عقد من الألم والمعاناة، وجدت سلفانا أخيراً السلام في إقليم كردستان، حاملة معها قصة تستحق أن تروى.

رحلة العودة ولمّ الشمل (2025)

بعد عشر سنوات من الألم والمعاناة التي عاشتها سلفانا متنقلة بين المدن العراقية والسورية، مثقلة بجراح الماضي ومحاولات الهروب المتكررة من قبضة تنظيم داعش، وجدت نفسها أخيراً على أعتاب الحرية. كانت تلك السنوات مليئة بالصراع بين الأمل واليأس، حيث اعتقلت مراراً وتعرضت لشتى أنواع العذاب، لكن روحها ظلت صامدة. بعد مقتل الشخص الذي كان يحتجزها في سوريا، المعروف بـ”أبو محمد”، بدأت رحلتها الحاسمة من الرقة إلى إدلب، ثم منبج، حتى وصلت إلى إقليم كردستان، حيث كانت أختها تعيش بانتظارها.

تحكي سلفانا عن لحظة علمها بأنها ستلتقي أختها: “لم أستطع النوم طوال الليل وأنا أفكر في اللحظة التي سأراها فيها. خرجنا من أربيل متجهين إلى مدينة دهوك، حيث تعيش أختي في منطقة تدعى شاريا، وهي منطقة يسكنها الإيزيديون منذ مئات السنين. شعرت بأن الطريق طويل جداً، وكأن الزمن يتباطأ. عندما وصلنا إلى دهوك، غمرتني مشاعر الفرح، لكن دموعي لم تتوقف. وعندما نزلت من السيارة، رأيت أختي تركض نحوي، وبدأت أركض نحوها أيضاً، أصرخ: ‘أختي!’.”

سيلفانا تحتضن أختها بعد عشر سنوات.

سيلفانا تحتضن أختها بعد عشر سنوات.

تكمل بصوت مملوء بالمشاعر:”عندما احتضنتها، شعرت وكأنني احتضن الدنيا بأكملها. بعد عشر سنوات، كنت أخيراً أرى فرداً من عائلتي. لم تمضِ سوى دقائق حتى تجمع العديد من النساء من أقربائي حولي. احتضنتهم جميعاً، ودموعنا لم تتوقف.”

بعد اللقاء العاطفي، توجهت سلفانا مع أختها إلى منزلها، حيث استقبلها زوج أختها بترحاب كبير. تصف تلك اللحظة:”كل المجتمع الإيزيدي في شاريا استقبلني بالأمان والترحاب. سألت أختي وزوجها عن بقية أفراد العائلة، لكن علمت أنني فقدت معظمهم. بعضهم مصيرهم ما زال مجهولاً، وآخرون هاجروا إلى أوروبا.”

تؤكد سلفانا بحسرة ممزوجة بالامتنان: “الآن أعيش وسط مجتمع يحبني كثيراً. أشعر بالأمان لأول مرة منذ عشر سنوات قضيتها في قبضة داعش. أختي وزوجها لم يبخلوا عليَّ بشيء، ومكتب شؤون المختطفات الإيزيديات قدموا لي كل ما يستطيعون.”

بين الأمان والحنين

اليوم، تعيش سلفانا في منزل صغير مع أختها وزوجها وأطفالهما في بلدية شاريا. تحيط بها المنازل التي يسكنها أقربائها، حيث يزورونها يومياً للاطمئنان عليها. وعلى الرغم من هذا الدعم النفسي والاجتماعي الكبير، لا تزال سلفانا تشتاق لرؤية بقية أفراد عائلتها، الذين ما زال مصير بعضهم مجهولاً.

شاريا، بماضيها العريق وسكانها الذين يحملون تاريخاً من النضال والصمود، أصبحت ملاذاً لسلفانا، حيث بدأت تجد في أحضان مجتمعها ما فقدته من أمان وسكينة طوال السنوات العشر الماضية. إنها بداية جديدة لروح ظلت تقاوم رغم كل المحن.

حياة جديدة

بعد سنوات من المعاناة التي عاشتها سلفانا تحت قبضة تنظيم داعش، تبرز اليوم كشخصية تسعى لبناء حياة جديدة مليئة بالأمل والطموح. رغم افتقارها إلى المستمسكات الثبوتية التي فقدتها في اللحظات الأولى من اختطافها، تسعى بكل عزيمة لاستكمال دراستها، إضافة إلى تعلم اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة. طموحها يتجاوز مجرد التعلم، فهي تحلم بالحصول على فرصة عمل تمكنها من دعم نفسها وإكمال مسيرتها التعليمية، خاصة بعد فقدان إخوتها ووالدها، الذين تتوزع مصائرهم بين المجهول والهجرة إلى أوروبا.

تقول سلفانا:”على الجميع الوقوف مع الناجيات الإيزيديات المحررات، ومساندة النساء اللواتي لم يتم تحريرهن بعد. أحلم بتعلم اللغات وافتتاح ورش عمل لتعليم الناجيات، خاصة أن العديد منهن يطمحن للهجرة أو بناء مستقبل أفضل. لكن للأسف، الدعم الذي تقدمه الحكومة العراقية محدود جداً ولا يكفي لتلبية احتياجاتنا.”

سيلفانا من منزل أختها  في الفترة الحالية

تُشير إلى أن الحكومة العراقية تقدم مبلغاً زهيداً يُقدر بحوالي 500 دولار فقط للناجيات، ما لا يغطي احتياجاتهن الأساسية أو يساعدهن في تجاوز صدمات الماضي. تضيف: “كل الدعم الذي تلقيته حتى الآن جاء من مكتب شؤون المختطفات في حكومة إقليم كردستان. أتمنى أن أحصل على حقوقي التي يكفلها قانون الناجيات لأتمكن من بناء حياة جديدة. أطالب العالم بالبحث عن الناجيات اللواتي ما زلن مختطفات، ودعم المحررات منهن بفتح مشاريع لهن وتقديم الدعم المادي والنفسي والصحي.”

يتحدث النائب محما خليل، عضو مجلس النواب العراقي عن سنجار، عن قانون الناجيات الذي أقره البرلمان العراقي عام 2019. يوضح خليل: “قانون الناجيات نص على تسعة فقرات هامة تهدف إلى تحسين الوضع المادي والمعنوي لهن، مع الاعتراف الضمني بالإبادة الجماعية في سنجار. يشمل القانون توزيع قطع أراضٍ، بناء دور سكنية، وتخصيص راتب شهري. لكن ما زلنا بحاجة إلى تعديلات على القانون لإضافة فقرات جديدة تلزم الدولة العراقية بالبحث عن الناجيات المختطفات، خاصة في مخيم الهول شمال سوريا، أو في أماكن أخرى.”

سيلفانا من منزل أختها، يناير 2025.

سيلفانا من منزل أختها، يناير 2025.

تعيش سلفانا اليوم في منزل صغير في بلدية شاريا، مع أختها وزوجها وأطفالهما. رغم الأمان الذي وجدته، ما زالت تحن لرؤية بقية أفراد عائلتها وتنتظر لحظة اللقاء. تستمر في كفاحها من أجل بناء حياة جديدة، رافعة صوتها للمطالبة بحقوقها وحقوق الناجيات الأخريات، ومعيدة الأمل إلى قلوب من مازلن ينتظرن الحرية.