تحقيق أخبار الآن يكشف عن الدور المحوري الذي لعبه “تحرير الشام” وعن انتهاكات جسيمة تورطوا بها خلال العملية التي سُمّيت بـ ‘ردع العدوان’ في سوريا وتحديات الحكومة السورية الجديدة بدمج المقاتلين الأجانب بعد سقوط الأسد.

الحكومة السورية الجديدة تضع حداً للعمل الحر للمقاتلين الأجانب

تتسارع الأحداث في سوريا مع تحول كبير في سياسة الحكومة السورية الجديدة التي تسعى بشكل واضح إلى إعادة تأكيد سيطرتها على الوضع الداخلي في البلاد، بعيداً عن أي تدخلات خارجية قد تؤثر على أمنها واستقرارها.

جاءت تلك الخطوة باعتقال  أحمد المنصور، القيادي المصري في “حركة ثوار 25 يناير”، بعد دعوته للإطاحة بالحكومة المصرية من الأراضي السورية، كرسالة للأجانب في سوريا بعدم السماح لهم باستخدام البلاد كمنصة لتصدير الصراعات أو التأثير على أنظمة الدول الأخرى.


وبالإضافة إلى مسألة تصدير المشاكل الأمنية إلى الخارج، فقد أكد الشرع باستمرار منذ منتصف ديسمبر أن سوريا بحاجة إلى التحول من العقلية الثورية إلى عقلية الدولة، حيث قال أولاً لقناة سوريا التلفزيونية إن “الثورة السورية انتصرت، ولكن لا يمكن حكم سوريا بعقلية ثورية. هناك حاجة إلى القانون والمؤسسات، والانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة”.

وكرر هذا مرة أخرى بعد بضعة أيام في مقابلة مع وسائل الإعلام السعودية قائلاً إن “الثورة السورية انتهت بسقوط النظام ولن نسمح بتصديرها إلى أي مكان آخر”. وفي أواخر ديسمبر، نفى الشرع في لقاء مع قناة الحدث مرة أخرى رغبته في “تصدير الثورة”. ومؤخراً، في منتصف يناير، عاد الشرع ليؤكد في مقابلة مع المؤثر جو حطاب أن “الثورة انتهت بالنسبة لنا”.

عملية “ردع العدوان” استمرت لمدة 12 يوماً وانتهت بهروب الأسد، شملت مشاركة آلاف الجهاديين الأجانب من مختلف الجنسيات، منهم من قاتلوا ضمن صفوف هيئة تحرير الشام التي تسيطر على مناطق في إدلب.

إدلب، معقل الجهاديين الأجانب منذ 2017

حقق فريقُ تلفزيون الآن في مجريات عملية “ردع العدوان” منذ لحظاتها الأولى وحتى يوم سقوط الأسد في الـ 8 من ديسمبر 2024، وتوثق العشرات من المقاطع المصورة والصور والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي الدور المفصلي الذي لعبه مجاهدو “تحرير الشام” الأجانب في فتح الطريق إلى دمشق وعن انتهاكات جسيمة قاموا بارتكابها ضد الأقليات الدينية.

واستقدمت الهيئة آلاف الجهاديين إلى معقلها في إدلب منذ عام 2017 على الأقل. حيث أظهرت مقاطع مصورة صورت في أحراش غابات ريف محافظة إدلب، تدريبات العسكرية التي تقوم بها هذه الفصائل الجهادية تحضيراً لعملية “ردع العدوان”.

المقاتلون الأجانب: صداع لهيئة تحرير الشام بعد سقوط الأسد

ويعد فصيل “الحزب الإسلامي التركستاني” الذي يضم جهاديين إيغور كانت استخدمتهم الصين كذريعة لتبرير سياساتها الأمنية والقمعية ضد هذه الأقلية المسلمة أحد أهم هذه المجموعات. حيثُ أزالت الولايات المتحدة الأمريكية الفصيل من على لائحة التنظيمات الإرهابية في عام 2017 لـ “غياب الأدلة الكافية على وجوده”. إلا أن مقطعاً مصوراً نُشر قبيل بدء العملية بأيام، أظهر عدداً كبيراً من جهاديي الحزب وهم في خضم تدريبات عسكرية واسعة النطاق في إحدى معسكراتهم المتواجدة في ريف محافظة إدلب.


واعتمدت هيئة تحرير الشام في سياسة الترويج لإدلب كوجهة للقتال على شركاتٍ عسكرية “جهادية” خاصة ساهمت في تغيير موازين القوى على الأرض. واعتاد مجاهدو إدلب مشاركة فيديوهات تعليمية بانتظام كتلك التي ينشرها فصيل “Muhojir Tactical” ذي الأصول الأوزبكية والتي يعرض فيها خبرات تقنية وعملياتية لجماهيرهم الرقمية حول العالم.

ويُعد الجهاديون الأوزبك إحدى أهم مكونات هيئة “تحرير الشام”، حيث اشتهروا بمهارة قناصيهم ومكانتهم في ساحات القتال. وشارك الأوزبك بعملية “ردع العدوان” عبر فصائلهم المنضوية تحت “تحرير الشام” وأهمها كتائبُ “التوحيد والجهاد” و”الإمام البخاري” و”اتحاد الجهاد الإسلامي” و”الغرباء”، ثلاثٌ منهم مدرجون على لائحة المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية.

ونشرت وسائل إعلامية دعائية مقطعاً مصوراً يظهر فيه جهاديو “التوحيد والجهاد” وهم يستعدون لخوض معركة “ردع العدوان” ضد قوات النظام السوري وحلفائه. ويظهر هؤلاء في المقطع وهم يتلون القرآن الكريم، مرتدين عصائب صفراء على سواعدهم.

يشكل العرب نحو ثلث العدد الإجمالي لمقاتلي هيئة “تحرير الشام”، وعلى رأسهم المجاهدون الحاملون للجنسية الأردنية والذين بلغ عددهم 2956 قبيل بدء العملية العسكرية. وبحسب مقطعين مصورين على الأقل (1، 2) فإن مجاهدين من الجنسية المغربية قد شاركوا أيضاً في العملية. حيث يظهر أحد هؤلاء المقاتلين مهنئاً بتحرير المجاهدين لمدينة حماة.

انتهاكات جسيمة بحق العلويين

شاركت في المعارك مجموعة جهادية فرنسية منضوية تحت راية “أنصار التوحيد” ويقودها المدعو “عمر ديابي” المنحدر من مدينة “نيس” الفرنسية والذي سُجن مرات عدة قبل أن ينتهج الفكر الجهادي. ويشير مجاهدٌ باللغة الفرنسية في إحدى المقاطع المصورة إلى أنهم في وسط مدينة حماة.

وبمقارنة عددٍ من الميزات الحضرية الظاهرة في الفيديو مع صور الأقمار الإصطناعية والتقارير الميدانية حول تقدم المجاهدين في بإمكاننا الجزم أن هذا المقطع قد صور بتاريخ الـ5 من شهر ديسمبر 2024 في قلب مدينة حماة قبيل تحرير المدينة بالكامل.

وفي ربيعة أيضاً، أظهر مقطع مصورٌ تم التقاطه بتاريخ الـ5 من ديسمبر 2024 أيضاً، إقدام مجموعة من المجاهدين، بينهم شخصٌ على الأقل تحمل بزته العسكرية راية الجهاد السوداء، على إعدام مدنيين بالرصاص عبر إطلاق عشرات الأعيرة النارية على رؤوسهم.

المقاتلون الأجانب: صداع لهيئة تحرير الشام بعد سقوط الأسد

كما عثرنا على مقطعٍ آخر يُظهر مرور المجاهدين الفرنسيين بالقرب من الكنيسة الأورثودوكسية في قرية كفربهم المسيحية الواقعة بالقرب من مدينة حماة، على بعد 10 كيلومترات.

في حين أظهر مقطع آخر ذاتَ المجموعة وهم يتقدمون على مدخل قرية ربيعة ذات الأغلبية العلوية، والتي تقع على بعد 8 كيلومترات فقط من كفربهم.

ملامحُ مجتمع متطرف دينياً

أعلنت الإدارة السورية الجديدة تعيين القيادي في “جماعة الألبان”، المدعو “عبدول جشري” والمولود في مقدونيا، عميداً في الجيش السوري الجديد، الأمرُ الذي أثار الكثير من التساؤلات حول مستقبل هؤلاء المجاهدين في سوريا ودفع بدول غربية عدة من عواقب تعيينات مشابهة والتي من شأنها أن تمنع من رفع العقوبات المفروضة على سوريا.

وبعد فرار رأس النظام السوري، في الـ 23 من شهر ديسمبر الماضي، أقدم مجاهدون على إحراق شجرة عيد الميلاد في مدينة السقيلبية بريف حماة ذات الأغلبية المسيحية. وبحسب مقطع مصور فإن قيادياً في هيئة “تحرير الشام” أكد أن من قام بهذا العمل التخريبي هو مقاتلون أجانب وليسوا سوريين.

وفي مقطع مصور شاركه شخص يتحدث اللغة التركية ويعرف عن نفسه بأنه صحفي على مواقع التواصل الاجتماعي بدء الأعمال لتشييد مسجد في جامعة العاصمة دمشق، وذلك بعد نحو أقل من شهر من فرار الأسد.


في حين آخر انتقد صانع محتوى داغستاني في مقطع مصورٍ آخر ما أسماه “تبرج النساء” في محافظة إدلب، متوعداً أنه لن يبقى فيها بعد الآن بل سيتوجه الآن إلى العاصمة دمشق للعيش فيها.

وفي تاريخ 15 كانون الثاني داهمت عناصر من إدارة العمليات العسكرية التابعة لهيئة تحرير الشام، حي “زورآفا” ذو الغالبية الكردية بالعاصمة دمشق.

ماذا سيحدث للمقاتلين الأجانب في سوريا؟

أخبار الآن أجرت لقاء مع دانيال غرافيلو (Daniele Garofalo)، المستشار الأمني ومحلل شؤون الجماعات المتشددة، حول دور المقاتلين الأجانب ضمن هيئة تحرير الشام وتحديات دمجهم في الجيش السوري الجديد.

قال: “لا يمكن تقديم رقم دقيق عن عدد المقاتلين الأجانب المنتمين إلى لواء هيئة تحرير الشام. لكن وفق تقدير تقريبي، يمكن القول إن العدد لا يقل عن 5000 مقاتل، مع احتساب جميع المجموعات. العديد من هؤلاء المقاتلين الأجانب موجودون في سوريا منذ أكثر من عشر سنوات، وقد تزوجوا من سوريات ولديهم أطفال ولدوا في سوريا. من المحتمل أن يختاروا البقاء ضمن الجيش السوري الجديد”.

وتابع: “التحدي يكمن في التعامل مع المقاتلين الذين كانوا في سوريا لفترة قصيرة، أو الذين جاؤوا للتدريب وإنشاء شبكات لوجستية بأهداف أخرى، أو أولئك الذين أمضوا حياتهم في القتال ولا يعرفون سوى الحرب. هؤلاء قد يسعون إلى الانتقال إلى مناطق عمليات أخرى أو مسارح قتال جديدة”.

إن الدور الذي لعبته هيئة تحرير الشام والجهاديين الدوليين في سقوط نظام بشار الأسد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والفرص في سوريا. ورغم تحقيق النصر العسكري، فإن التساؤلات حول مستقبل هؤلاء المقاتلين، ومدى قدرتهم على الاندماج في مجتمع متنوع يعاني من جراح الحرب، لا تزال قائمة. إن الانتقال من ساحات القتال إلى بناء دولة مستدامة يتطلب رؤية شاملة تنبذ التطرف وتضمن العدالة للجميع.